الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن لطيف الأدلة التي ذكرها الرازي عن بعض من لقيه، في بطلان هذا القول ما ذكره من قوله: " وكان صديقنا الملك سام بن محمد يرحمه الله ـ وكان من أفضل من لقيته من أرباب السلطنة، يقول: هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة، باطل من وجهين أخرين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي "
(1)
فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر "
(2)
. فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى "
(3)
.
وهذه الأوجه مع لطافتها، إلا أنها مما يُستأنس بها، وإلا لو صح ما رُوي عن السلف من الآثار؛ لكان ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم هو من باب الامتحان والاختبار للعباد، كما قال السمعاني.
المسألة الثانية: توجيه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لئن أشركت ليحبطن عملك)
.
قال الله تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام:" وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "(الزمر 65). وفي قوله تعالى بعد ما سرد ذكر أنبيائه قال: " وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(الأنعام 88). فكيف يكون توجيه الخطاب في هذه الآية، مع ما تقرر من عصمة الأنبياء عن الوقوع في الشرك؟!
ذكر السمعاني في توجيه قوله تعالى: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ "(الزمر 65) قولان:
1 ـ هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد منه غيره.
2 ـ يجوز أن يكون تأديباً للرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفاً له، ليتمسك بما عليه.
(4)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ح (6993)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، باب مناقب عمر بن الخطاب، ح (3683)
(3)
الرازي: مفاتيح الغيب: 27/ 614
(4)
السمعاني: تفسير القرآن: 4/ 479
وفي تتبع أقواله في بقية الآيات الواردة، كهذا السياق، يوجهها السمعاني إلى مثل القول الأول، فمثلاً:
ـ في قوله تعالى: " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم "(البقرة 120)، يقول:" قيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به الأمة؛ لأنه كان معصوماً من اتباع الأهواء، ومثله قوله تعالى: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " "
(1)
وبمثله وجه الآية الواردة في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، " وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
(2)
.
وهذا هو غالب ما عليه أهل التفسير، فسياق الآيات الواردة في مثل هذا الشأن، يحملها المفسرون، إما على سبيل الفرض والتقدير، وإما تحوير الخطاب لغير النبي صلى الله عليه وسلم فيكون المراد أمته، وإنما خوطب عليه الصلاة والسلام بذلك؛ ليعرف من دونه أن الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها، ولو وقع من نبي.
(3)
قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا أدب من الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتهديد لغيره؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك، ومداهنة الكفار.
(4)
وقد ذكر الرازي أوجهاً، في سبب تخصيصه بالنهي عليه الصلاة والسلام، منها:
ـ أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
(5)
ومن الآيات الكريمة التي حملها أهل التفسير، على مثل هذا الشأن، قوله تعالى:
ـ " لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا "(الإسراء 22)
ـ " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا "(الإنسان 24)
ـ " فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ "(القلم 8)
ـ " وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ "(القلم 10)
ـ " وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ "(الشورى 15)
(1)
السمعاني: تفسير القرآن: 1/ 133
(2)
السمعاني: تفسير القرآن: 2/ 123
(3)
ابن الجوزي: زاد المسير: 4/ 25
(4)
الواحدي: التفسير الوسيط: 3/ 592
(5)
الرازي: مفاتيح الغيب: 4/ 109
ـ " فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ "(الأنعام 150)
ـ " يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ "(الأحزاب 1)
ـ " وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ "(القلم 9)
ـ " وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(الأنعام 14)
ـ " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ "(الحاقة 44)
ـ " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "(آل عمران 161)
ومن العبارات التي قيلت في هذا الشأن ما يلي:
قال الإمام الرازي: " وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم، " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ " وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام، ما أشرك، وما مال إليه "
(1)
.
وقال: " أن قوله: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ "، قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها، صدق جزائها. ألا ترى أن قولك: لو كانت الخمسة زوجاً، لكانت منقسمة بمتساويين، قضية صادقة، مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق، قال تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا " (الأنبياء 22)، ولم يلزم من هذا، صدق القول بأن فيهما آلهة، وبأنهما قد فسدتا.
(2)
وقال الإمام القرطبي: " واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: " لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ": قالوا: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يستحيل منه الردة شرعاً. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته، لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم، لكنه لا يُشرك لفضل مرتبته "
(3)
(1)
الرازي: مفاتيح الغيب: 4/ 109
(2)
الرازي: مفاتيح الغيب: 27/ 472
(3)
القرطبي: الجامع لأمثال القرآن: 3/ 48
وقال البيضاوي: " كلام على سبيل الفرض، والمراد به: تهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإشعار على حكم الأمة "
(1)
وقال ابن جزي: " أن ذلك على وجه الفرض والتقدير، أي لو وقع منهم الشرك، لحبطت أعمالهم، لكنهم لم يقع منهم الشرك بسبب العصمة، ويحتمل أن يكون الخطاب لغيرهم، وخوطبوا هم؛ ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى "
(2)
وقال الإمام ابن كثير: " وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " (الزخرف 81)، وكقوله: " لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)" (الأنبياء 17)، وكقوله: " لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " (الزمر 4) "
(3)
وقال الثعالبي:" بأن ماورد من مثل هذا، فهو محمول على إرادة الأمة؛ لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما المراد: من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب هو صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر "
(4)
وقال الشوكاني: " هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل؛ لأن الله سبحانه قد عصمهم من الشرك، ووجه إيراده على هذه الوجه: التحذير والإنذار للعباد من الشرك؛ لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض، والتقدير: فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى "
(5)
وقال العثيمين: " فهذا يحتمل أنه للرسول صلى الله عليه وسلم وحده، ولكن أمته تبع له، وهو ظاهر اللفظ، وإن كان هذا الشرك لا يقع منه؛ لأن (إن) قد يراد بها فرض الشيء دون وقوعه "
(6)
(1)
البيضاوي: أنوار التنزيل: 5/ 48
(2)
ابن جزي: التسهيل: 2/ 225
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 299
(4)
الثعالبي: الجواهر الحسان: 5/ 99
(5)
الشوكاني: فتح القدير: 4/ 544
(6)
العثيمين: تفسير العثيمين (الفاتحة والبقرة): 3/ 278