الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صار ذلك ضروريًّا غير قابل للزوال بحكمِ استيلاء الضعف على القلب، فحكم ذلك الضعيف يتبع حالَه، فيُعْذر كما يُعذر المريضُ في التقاعد عن بعض الواجبات، وكذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوبُ البحر لأجل حَجَّةِ الإسلام على من يغلب عليه الجبنُ في ركوب البحر، ويجب على من لا يعظُم خوفُه منه، فكذلك الأمر في وجوب الحسبة (1).
قلت: لا يبعد أن يُعتبر حالُ الشخص في نفسه وطبعه، ويُدار عليه الحكم في الوجوب أو السقوط، ويشهد له إطلاقُهم القولَ على ذلك الرأي بالسقوط عن الجبان المستشعر من غير أن يُكلَّف إزالةَ الجبنِ وتعويدَ النفس ركوبَ البحر؛ ليسهُلَ على طبعه ركوبُه، وتزولَ قوةُ خوفه، والله أعلم.
السابعة والستون بعد المئتين إلى تمام السبعين:
المكروه المتوقع غير منضبط في كلام أكثرهم، وليس مطلقُ المكروه كافيًا في سقوط الواجبِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودرجاته تختلف، كالكلمةِ المؤذية، واستطالةِ اللسان، والضرب، والقطع، والقتل، وغيرِ ذلك مما تتفاوتُ رتبُه.
ولقد بلغني عن بعض أهل الإسكندرَّية: أنه كان يأمر بالمعروفِ و (2) يناله المكروهُ، فقال له بعضُ فقهائهم المشهورين بالعلم، وكان
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 321).
(2)
"ت": "وهو".
يُنسب إلى بلدٍ: أنا لو قيل لي: يا فلاني، وذكر نسبتَه إلى بلده، يسقط (1) عني التكليفُ، أو كما قال.
وهذا بعيدٌ لا سيما إذا عظُم المنكرُ، ولابد في هذا من الموازنة بين عِظَمِ المنكرِ والمكروهِ الذي يُتوقع، وقد طوَّل في "الإحياء" ضبطاً لهذه الأمور، ونحن نُورد منه باختصارٍ يسير، فقال:
المكروه نقيضُ المطلوب، ومَطالِبُ الخَلْق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور؛ أما في النفس فالعلمُ، وأما في البدن فالصحةُ والسلامة، وأمّا في المال فالثروةُ، وأمّا في قلوب الناس فقيامُ الجاه.
ثم قال: وكلُّ واحد من هذه الأربعة يطلبها الإنسانُ لنفسه ولأقاربه المختصين (2) به، ويُكره في هذه الأربعة أمران:
أحدهما: زوالُ ما هو حاصلٌ موجود.
والآخر: امتناعُ ما هو مُنتَظَرٌ مفقود.
وذكر أن خوفَ امتناعِ المُنتظَرِ لا ينبغي أن يكون مُرخِّصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً، ومثَّله في المطَالِب الأربعة:
أما العلم: فمثالهُ تركُ الحسبة على الأستاذ خوفاً من أن يَقبُحَ حالُه عنده، فيمتنع من تعليمه.
(1)"ت": "لسقط".
(2)
"ت": "والمختصين"، وكذا في المطبوع من "الإحياء".
وأما الصحة: فكتركِهِ (1) الإنكارَ على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً - وهو لابسُ حريرٍ - خوفاً [ن](2) أن يتأخرَ عنه، فتمتنع بسببه صحتُه المنتظرةُ.
وأما المال: فهو كتركِهِ (3) الحسبةَ على السلطان وأصحابه، وعلى من يُواسيه من ماله، خوفًا (4) من أن يَقطع إدرارَه في المستقبل، ويترك مواساتَه.
وأما الجاه: فتركه الحسبة على من يَتوقع منه نصرةً وجاهاً في المستقبل، خِيفةَ أن (5) لا يحصلَ له الجاه، أو خيفةً من أنْ يَقبُحَ حالُه عند السلطان الذي يتوقع منه ولايةً.
وقال (6): وهذا كلُّه لا يُسقط وجوبَ الحسبة، فإن هذه زيادات امتنعت، وتسميةُ امتناع حصول الزيادت ضرراً مجاز، وإنّما الضرر الحقيقي فواتُ حاصلٍ.
ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تتحقق (7) إليه الحاجة، ويكون فى فواقه محذوز يزيد على محذور السكوت على المنكر، كما أنه إذا
(1)"ت": "فتركه".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
"ت": "وأما المال: فتركه".
(4)
"ت": "خيفة".
(5)
"ت": "من أن".
(6)
"ت": "قال".
(7)
"ت": "تحقق".
كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز، والصحةُ منتظرة من معالجة الطبيب، ويعلم أن في تأخيره شدةَ الضَّنَى، وطولَ المرض، وقد يُفْضِي إلى الموت، وأعني بالعلم: الظنَّ الذي يجوز بمثله تركُ استعمالِ الماء والعدول إلى التيمم، فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يَبعد أن يُرخَّص؛ [يعني] (1): في ترك الحسبة.
وأما في العلم: فمثلُ أن يكونَ جاهلاً بمهمَّات دينه، ولم يجد إلا معلماً واحداً (2)، وعلمَ أن المحتسب عليه قادرٌ على أن يسدّ عليه طريقَ الوصول إليه، لكون العالم مطيعاً له، أو مستمعاً لقوله، فإذًا الصبرُ على الجهل بمهمات الدين محذورٌ، والسكوت عن (3) المنكر محذور (4)، ولا يبعد أنْ يرجّحَ (5) أحدُهما، ويختلف ذلك بتفاحُشِ المنكر وشدة الحاجة إلى المعلم؛ لتعلُّقه بمهمات الدين.
وأما في المال: فكمَنْ يعجَزُ عن الكسب والسؤال، وليس هو قويَّ النفس في التوكل، ولا ينفق (6) عليه سوى شخصٍ واحد، ولو احتسب عليه لقطع رزقه، وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرارٍ حرامٍ،
(1) سقط من "ت".
(2)
في المطبوع من "الإحياء" زيادة: "ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره".
(3)
"ت": "على".
(4)
"ت": "محظور".
(5)
"ت": "يترجح".
(6)
"ت": "منفق"، وكذا في المطبوع من "الإحياء".
أو مات جوعاً، فهذا أيضاً إذا اشتدَّ الأمرُ فيه لم يبعد أن يرخَّص له في السكوت.
وأما الجاه: فهو أن يؤذيَه شريرٌ، ولا يجدُ سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاهٍ يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحريرَ أو يشرب الخمرَ، ولو احتسب عليه لم يكن واسطةً ووسيلة [له](1)، فيمتنع عليه حصولُ الجاه، ويدومُ بسببه أذى الشريرِ.
فهذه كلُّها إذا ظهرت وقَوِيت لم يبعد استثناؤها، ولكنَّ الأمرَ فيها منوطٌ باجتهاد المحتسب حتى يستفتيَ فيها قلبَهُ، وَيزِنَ أحدَ المحذورَيْن بالآخر، ويرجِّحَ بنظر الدين، لا بموجب الهوى والطَّبعْ.
وأما القسم الثاني، وهو فوات الحاصل: فهو (2) مكروهٌ معتَبرٌ في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم، فإن فواتَه غيرُ مخوف إلا بتقصير منه، وإلا فلا يقدِرُ أحدٌ على سَلْبِ العلم من غيره.
ثم قال: وأما الصحَّة والسلامة ففواتُها بالضرب، فكل مَنْ عَلِمَ أنه يُضْربُ ضرباً مؤلماً [مبِّرحاً](3) يتأذى به في الحسبة، لم تلزمه الحسبةُ، وإن كان ذلك يستحب له كما سَبق (4)، فإذا فُهم هذا في
(1) سقط من "ت".
(2)
"ت": "قال: فهو".
(3)
سقط من "ت".
(4)
"ت": "وإن كان يستحب له ذلك".
الإيلام والضرب (1)، فهو في الجرح والقتل والقطعِ (2) أظهرُ.
وأما الثروة فهو أنه (3) يعلم أنه تُنْهَبُ دارُه ويُخَرَّبُ بيتُه، وتُسلَبُ ثيابُهُ، فهذا أيضاً يُسقط عنه الوجوب، ويبقى الاستحباب، إذ لا بأس أن يفديَ دينَه بدنياه.
ولكل واحد من الضرب والنهب حدٌّ في القلة لا يُكترث به؛ كالحبة في المال، واللَّطْمةِ الخفيف (4) ألمُها في الضرب، وحدٌّ في الكثرة يُتيقَّن اعتبارُه (5)، ووسطٌ يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتديّن أن يجتهدَ فيه، ويرجحَ جانبَ الدين ما أمكن.
قلت: إطلاقُ القول في اللطمة الخفيفة فيه نظرٌ بالنسبة إلى أرباب المروءات وأعيانِ الناس.
قال: وأمّا الجاه ففواتُه بأن (6) يُضربَ ضربًا غيرَ مؤلمٍ، أو يُسبَّ على ملأٍ من الناس، أو يُطرحَ منديلُه في رقبته ويدارَ به في البلد، أو يسوَّدَ وجهُه ويطافَ به، وكل ذلك من غير ضرب مؤلم للبدن، وهو قادح في الجاه، ومؤلمٌ للقلب، وهذا له درجات.
(1)"ت": "بالضرب".
(2)
"ت": "والقطع والقتل".
(3)
"ت": "بأن".
(4)
في الأصل: "الخفيفة"، والمثبت من "ت".
(5)
في الأصل و"ب": "يتعين اعتبارهما"، والمثبت من "ت".
(6)
"ت": "وأن".
والصواب أن يُقسَم إلى ما يُعبَّر عنه بسقوط المروءة؛ كالطواف به في البلد حاسِراً حافياً، فهذا يرخَّص [له] في السكوت؛ لأنَّ المروءةَ مأمور بحفظها في الشرع، وهو (1) مؤلم للقلب ألماً يزيد على ضرباتٍ معدودة، وعلى فوات دُرَيهِمَاتٍ قليلةٍ، فهذه درجة.
الثانية: ما يُعبَّر عنه بالجاه المَحْضِ وعلوِّ الرتبة، فإن الخروجَ في ثياب فاخرة تجمُّل، وكذلك الركوب للخيول، فلو عَلِم أنه لو احتسب كُلِّفَ المشيَ في السوق في ثياب لا يَعتاد هو مثلَها، أو كُلِّف المشيَ راجلأ وعادتُه الركوب، فهذا من جملة المزايا، وليس المواظبةُ على حفظها محموداً، وحفظ المروءة [محمود](2)، فلا ينبغي أن يسقطَ وجوبُ الحسبة بمثل هذا العذر، وفي معنى هذا ما لو خاف أن (3) يُتعرض له باللسان؛ إمَّا في حضرته بالتجهيل أو (4) بالتحميق والنسبة إلى الرياء والنفاق، وإما في غِيبته بأنواع الغيبة، فهذا لا يُسقط الوجوب إذْ ليس فيه إلا زوالُ فضلات الجاه التي ليس إليها كبيرُ حاجة، ولو تُركَت الحسبةُ بلوم لائمٍ، أو باغتيابِ فاسقٍ، أو شتمِهِ، أو (5) تعنيفِهِ، أو سقوطِ المنزلةِ عن قلبه، أو (6) قلبِ أمثاله، لم
(1)"ت": "وهذا".
(2)
زيادة من "ت".
(3)
في الأصل: "أنه"، والمثبت من "ت".
(4)
"ت": "و".
(5)
"ت": "و".
(6)
"ت": "و".
يكن للحسبة وجوبٌ أصلاً، إذْ لا تنفكُّ الحسبةُ عن ذلك، إلا إذا كان المنكرُ هو الغيبة، وعَلِمَ أنه لو أنكر لم يسكت [عن](1) المغتاب، ولكن أضافَه إليه، وأدخله معه في الغيبة، فتحرُم هذه الحسبة؛ لأنّها (2) سبب لزيادة المعصية، وإن علم أنه يتركُ تلك الغيبةَ، ويقتصرُ على غيبته، فلا تجب [عليه](3) الحسبة؛ لأنَّ غِيبتَه أيضاً معصيةٌ في حق المغتاب المذكور، ولكن يستحب له ذلك؛ ليفديَ عرضَ المغتاب المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار.
وقد دلَّت العموماتُ على تأكُّد وجوب الحسبة وعِظَم الخطر في السكوت عنها، فلا يقابله إلا ما عظُم في الدين خطرُه، والمالُ والنفسُ والمروءة قد ظهر في الشرع خطرُها، فأما مزايا الجاهِ والحشمةِ ودرجاتِ التجمُّل وطلب ثناء الخلق، فكل ذلك لا خطر له.
قال: وأما امتناعُه لخوف شيء من هذه المَكَاره في حق أولاده وأقاربه، فهو في حقه دونَه؛ لأنَّ تأذِّيَه في حق نفسه (4)[أشدُّ من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقَه؛ لأنَّ له أن يسامح في حقوق نفسه](5)، وليس له المسامحةُ في حقّ (6) غيره، فإذاً ينبغي أن يمتنع،
(1) سقط من "ت".
(2)
"ت": "لأنه".
(3)
زيادة من "ت".
(4)
"ت": "لأن تأذيه بأمر نفسه".
(5)
سقط من "ت".
(6)
"ت": "حقوق".
فإنه إن كان ما يفوتُ من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب، فليس له هذه الحسبة؛ لأنهّ دفعُ منكرٍ يُفْضي إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاءُ المسلم أيضاً، وليس له ذلك إلا برضاهم، فإذا كان ذلك يؤدي إلى إيذاء قومه فليتركه (1)، وذلك كالزاهد الذي له أقاربُ أغنياءُ، فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان، ولكنه (2) يقصدُ أقاربَه انتقاماً منهم بواسطته، فإذا (3) كان يتعدّى الأذى في (4) حِسْبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركْها، فان إيذاءَ المسلم محذور، كما أن السكوتَ على المنكر محذور، نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال ونفس، ولكن ينالُهم الأذى بالشتم والسب [والذم](5)، فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحُشها ودرجاتِ الكلام المحذور في نِكَايته في القلب وقَدْحِهِ في العرض (6).
هذا ما تيسَّر ذكرهُ على وجه الحكاية عن "الإحياء"، وقد تضمن مسائلَ كثيرةً أدخلنا بعضَها في العدد، ولم نُدخل بعضَها فيه، وكان يمكننا ذلك، ووجهُ الحاجة إلى هذه الأمور في الكلام على الحديث
(1)"ت": "فإن كان يؤدي إلى أذى قومه فليتركه".
(2)
"ت": "ولكن".
(3)
"ت": "وإذا".
(4)
"ت": "من".
(5)
سقط من "ت".
(6)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 321 - 323).