الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامسة والعشرون:
إذا ثبتت الملازمةُ بين نجاسة ذات الكلب في حال الحياة ونجاسةِ جلده بعد الدباغ، فمن المعلوم أن إثباتَ الملزوم يلزم منه إثباتَ اللازم، وانتفاءَ اللازم يلزم منه انتفاءَ الملزوم.
فكما يقال: الكلب نجس في حال الحياة فلا يطهر جلدُه بالدباغ، وثبتت نجاستُه في حال الحياة بدليل من خارج، وهو الملزوم، فثبتت نجاسة جلده بعد الدباغ، وهو اللازم.
فكذلك يمكن أن يقال: جلده طاهر بعد الدباغ، فلا يكون نجسًا في حال الحياة كما يعتقده المالكي وغيره.
وطريقه أن يقول: لو كان نجسًا في حال الحياة لما طهر جلده بالدباغ، لكن يطهر بالدباغ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، فلا يكون نجسًا في حال الحياة، والملازمة يثبتها بعين ما أثبته أصحاب الشافعي رحمهم الله، وانتفاء اللازم يثبته بقوله صلى الله عليه وسلم:"أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، وحينئذ يبقى النظرُ في المقابلة بين دليل ثبوت الملزوم وبين دليل انتفاء اللازم، وأيهما أرجح فيعمل به.
السادسة والعشرون:
الذين منعوا تأثيرَ الدباغ في طهارة الجلد مطلقًا اعتمدوا على حديث عبد الله بن عُكَيم: "أتانا كتابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ موتِهِ بشهرٍ أن لا تنتفعُوا من الميتةِ بإهابٍ ولا عصبٍ". وهو حديث أخرجه أصحابُ السنن؛ أبو داودَ، والترمذيُّ والنسائي، وأخرجه ابنُ
خزيمةَ في "صحيحه"(1)، وفي ألفاظه اختلاف، ويعارضه هذا الحديثُ وغيرُه، مثل حديث شاة ميمونة في الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ (2).
فيحتاج هؤلاء إلى الاعتذار عن تلك الأحاديث وفي ذلك طرق: الأول: ادِّعاء النسخ، وأن حديثَ المنعِ متأخرٌ عن حديث الإباحة، وذلك لوجوه:
أحدها: التاريخ الَّذي ذكره في حديث عبد الله بن عُكَيم بالشهر أو بالشهرين، وهذا بناء على أن المؤرَّخَ مقدمٌ على المطلق إذا تعارضًا، وقد قيل: يجوز أن تكون الإباحة قبل موته بيوم أو يومين، وهذا مصير إلى عدم التقديم.
وثانيها: ما في كتاب البخاري: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استسقى من ماء في غزوة تبوك من شَنٍّ مُعلَّقة، فقيل: يا رسول الله! إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دِباغُ الأديمِ طَهورُهُ"(3)، فاستدل بذلك على تقدم الإباحة على المنع.
(1) تقدم تخريجه. ولم أره عند ابن خزيمة فيما طبع من "صحيحه".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
لم أقف عليه عند البخاري بهذا السياق، ولا ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام".
قلت: وقد تقدم تخريجه من حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه بنحو اللفظ المذكور.
ووجهُ الدليل: أن أهلَ السير والتاريخ يذكرون أنَّ غزوةَ تبوك كانت في رجب سنة تسع، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم منها إلى المدينة في رمضان، وهذا قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهور عديدة، فيكون كتابُ المنعِ قبلَ موته بشهر متأخرًا عنه.
وثالثها: روى البخاريّ عن ميمونة: "ثم ما زلنا ننبذُ فيه حتى صار شنًّا"(1)، ولا تصيرُ القِربة شنًا في استعمال شهر، فتكون الإباحة متقدمة على الشهر.
ورابعها - وهو أقوى الأدلة في التأخير -: ما في بعض الروايات: "كُنْتُ رخَّصتُ لكمْ في جلودِ الميتةِ"(2)، وهو لفظ يدل على تقدُّم الترخيص على المنع بنفسه.
(1) رواه البخاري (6308)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إن حلف أن لا يشرب نبيذًا فشرب طلاء أو سكرًا أو عصيرًا، لم يحنث في قول بعض الناس، لكن من حديث سودة رضي الله عنها.
قال البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 17): ورواه عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل فقال:"عن ميمونة" بدل "سودة".
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(104)، ومن طريقه: الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(2/ 171)، من حديث فضالة بن المفضل ابن فضالة، عن أبيه، عن يحيى بن أيوب، عن أبي سعيد البصري، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، به.
قال الطبراني: لم يروه عن أبي سعيد البصري إلا يحيى بن أيوب، تفرد به فضالة بن المفضل، عن أبيه، وانظر:"نصب الراية" للزيلعي (1/ 121).
فأما الوجه الأول: فقد ذكرنا أنه ينبني على تقديم المؤرَّخ على المطلق، وفيه خلاف، وكذلك الثاني.
وأما الثالث: فإن دلَّ فإنما يدل على تقدم الإباحة في جلد شاة ميمونة على المنع، ولا يدل على تقدم الإباحة مطلقًا على المنع، والإباحة لم ينحصرْ طريقُها في التعليق بحديث شاة ميمونة، وإذا لم ينحصر، فلا امتناعَ من تأخُّر الإباحة في غير حديث ميمونة، كهذا الحديث الَّذي نحن فيه المقتضي للإباحة مطلقًا.
وَيرِدُ على هذا: أنه إذا ثبت تقدمُ الإباحة في حديث ميمونة على المنع، فلو تأخرتْ إباحةٌ أخرى عن المنع لزم النسخُ مرتين، وفي ذلك تكثيرُ مخالفةِ الدليل.
وإنما رددنا القولَ في دَلالة الحديث على الإباحة؛ لأن قولَها: "فما زلْنَا ننبذُ حتى صارَ شنًا"، إنما يدل على التقدم على الشهر إذا كان دالًا على كونه صار شنًا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في اللفظ ما يدل عليه، فجاز أنْ يستمرُّوا على استعماله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنْ يصيرَ شنًا، ويمكن لمُدَّعٍ (1) أنْ يدَّعيَ أن هذا خرج مَخرجَ الاستدلال، ولا دليلَ إلا في فعل الرسول أو قوله أو إقراره، فلو انتفى كلُّ ذلك لم يصحَّ الاستدلال، ويمكن أن يُنازَعَ في هذه الدعوى.
(1)"ت": "مدعي".
وأما الوجه الرابع: وهو اللفظ الدال على تقدم الإباحة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"كُنْتُ رخَّصتُ لكم": فيتوقف على إثبات هذه اللفظة بعينها، وقد زعم بعضُ من ينسب إلى الحفظ من المتأخرين أنها بعيدةُ الثبوت، وكأن هذا كلامٌ لم يُحط به خُبْرًا، وهو حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي من رواية أبي سعيد البصري (1)، من جهة الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عُكَيم قال: جاءنا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بأرض جُهَينة:"إنِّي كُنْتُ رخَّصتُ لكم في إهابِ الميتةِ وعصبِهَا، فلا تنتفعوا بعصبٍ ولا إهابٍ".
وذكر ابن عدي، عن علي بن المديني أنه قال في أبي سعيد: كان ثقةً، وكان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح.
قال علي: وقد كتبنا (2) عن ابنه أحمد بن أبي سعيد.
وقد ذكر ابن عدي: أنه حدث عنه ابنُ وهب بالمناكير (3)، وقد ذكرت في كتاب "الإمام في أحاديث الأحكام": أن لقائل أن يقول: إذا ثبت توثيقه بقول علي بن المديني، فلْتُعَدَّ هذه تفردات ثقة؛ أعني: الأحاديث التي قيل: إنها منكرة، رواها عنه ابن وهب (4).
(1) عن شعبة.
(2)
في "الإمام" للمؤلف (1/ 321): "كتبتها"، وفي المطبوع من "الكامل":"كتبها".
(3)
انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (4/ 30 - 31).
(4)
انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 322).
الطريق الثاني في الاعتذار: تأويل لفظ "طَهُر" على صلح وطاب ونظف، بناءً على إباحة استعمال الجلد بعد الدباغ، ويحمل "طهر" على مثل هذا، وهذا كما في قوله تعالى:{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، وهذا يرجع إلى القاعدة التي ذكرناها من وجوب حمل الألفاظ الشرعية على حقائقها الشرعية.
وهذا التأويل إما أن يقال فيه: إنه حمل للفظ على حقيقته اللغوية، وهي أن الطهارة هي الوَضاءة والنظافة، وما أشبه هذا، أو على المجاز الشرعي.
ومما يضعف هذا التأويل أن يقال: إن الحاجة إنما مسَّت إلى معرفة الطهارة الشرعية؛ لاعتقاد أن الموت ينافيها، والجواب كان على ذلك، ثم يحتاج إلى بيان عاضد مرجح لهذا التأويل على العمومِ، وقرينةِ الحال في أحاديث الطهارة، وفيه عسر.
وممَّا يدل على أن السؤال كان عن الطهارة الشرعية، والجواب كان عن ذلك، الحديثُ الصحيح عن ابن وعلةَ السبأي قال: سألت ابنَ عباس، قلت: إنا نكون بأرض المغرب، ومعنا البربرُ والمجوسُ، نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحَهم، ونُؤتى بالسِّقاء يجعلون فيه الوَدَك، فقال ابنُ عباس: قد سألنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دِبَاغُهُ طَهُورُه"(1).
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (366/ 106).