الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وكراهةُ الأكل من المِحْجَمة المغسولة أو الحديدة، إن أراد به كراهيةً طبيعية فمسلَّم، إلا أنها مبنية على قوة وهمية، صحبت الوهم لكثرة ملازمتها ذلك، وهذه الكراهة الوهمية إن أُثبت بها الكراهةُ الشرعية فتحتاج إلى دليل شرعي، ونظيرُ ذلك من مسألة الأواني أن تكون الآنيةُ التي استعمل فيها لحم الخنزير والنجاسات آنيةً مخصوصة بذلك، يصحب الوهم فيها ملازمتها للنجاسات.
وأما حملُ الحديث على الآنية التي استعمل فيها لحم الخنزير والخمر، وقولُه: كما صرَّح به في رواية أبي داود، ليس كما قال في دعوى الصراحة بالنسبة إلى ما حمل عليه الحديث، فإن السؤال وقع عن الأكل في آنيتهم غيرَ مقيَّدٍ بما عُلِم أنهم استعملوا فيه لحم الخنزير والخمر.
وقوله: "وهم يطبخون في قدورهم الخنزيرَ، ويشربون الخمر" قد يُحمل على أن المراد به: أن من شأنهم ذلك، وعادتهم فعله، وحينئذٍ يكون السؤالُ واقعا على محل الإشكال الذي اختلف فيه الفقهاء، ولا يتعيَّن أن يكون المراد السؤال عن آنية استعمل فيها ذلك بعينها، فليس إذنْ بصريحٍ فيما ادَّعاه.
العاشرة:
الاستدلالُ بالآية على هذه المسألة استدلالٌ بالعموم في الطعام، فيدخل تحته محلُّ النزاع، وهو الطعام الذي في آنيتهم، ويعترض عليه بأمرين:
أحدهما: أن يحمل الطعامُ على الذبائح، وهذا - وإن كان فيه تخصيص، وهو على خلاف الأصل - إلا أن فيه وفاءً بفائدة تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ لأنا إذا حملناه على الذبائح، دلَّ المفهوم على منع أكل ذبائح غير أهل الكتاب، فكان في التخصيص بهم فائدة.
وإذا حملناه على الطعام، فالمبيحون لاستعمال أواني المشركين لا تخصُّ جماعة منهم ذلك بأهل الكتاب؛ كما هو مذهب الشافعي؛ كما قدمنا حكايتَه عن الشيخ أبي حامد، فلا فرق بين أهل الكتاب وبين غير أهل الكتاب، فلا يبقى في التخصيص بذكرهم فائدةٌ.
واعلم بأن القولَ بأن المرادَ بالطعام الذبائحُ منقولٌ عن غير واحد من السلف.
روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن"(1) قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] قال: الذبائح.
قال: حدثنا يحيى، ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد قال: ذبائحهم.
(1) للإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل ابن محدث البصرة حماد بن زيد المالكي، قاضي بغداد وصاحب التصانيف، وكتابه "أحكام القرآن" لم يسبق إلى مثله. توفي سنة (282 هـ). انظر:"تاريخ بغداد" للخطيب (6/ 284)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 339).
قال: حدثنا يعقوب بن الدَّورقي، ثنا ابن إدريس، عن كثير، عن مجاهد:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال: الذبائح (1).
حدثنا محمد بن أبي بكر، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن كعب، عن مجاهد وسفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم وأشعث، عن الحسن:{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]،، قالوا: الذبائح (2).
عن سعيد بن جبير، وعكرمة:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال: الذبائح (3).
حدثنا محمود، أنبأ هشيم، عن يونس، عن الحسن والمغيرة، عن إبراهيم في قوله:{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] قالا: ذبائحهم.
فهذه روايات ساقها القاضي عن إبراهيم، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة في حمل طعامهم على ذبائحهم، ولم يذكر حملَها على مطلق الطعام عن أحد فيما رأيت في كتابه، وفي هذا قوةٌ للحمل على ذلك.
الوجه الثاني: أن يقال: المقصود من الكلام الحكمُ على
(1) ورواهما ابن أبي شيبة في "المصنف"(32694)، وابن جرير في " تفسيره"(6/ 102 - 103)، عن مجاهد وإبراهيم.
(2)
رواه ابن جرير في "تفسيره"(6/ 103).
(3)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 282).