الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجتهد فيلزمه اتباعُ الأقوى، وهذا موافق للقاعدة الكلية في اتباع أقوى الظنين في الدلائل.
وأصلُه: أنَّ الأصلَ عدمُ العمل بالظنِّ لما يتطرق إليه من الخطأ، والضرورة دعت إلى ذلك، فإذا رُجح أحد الظنين، فالعمل بالمرجوح منهما ترك لتلك المرتبة الراجحة مع كونها أقربَ إلى العثور على الصواب، وأبعدَ من احتمال الخطأ (1).
الثانية عشرة:
بحثَ بعضُ المتأخرين المباحثين - لا المصنفين - في منع تفاوت مراتب العموم؛ نظرًا إلى أن دلالةَ اللفظ العام على أفراده بصيغته، ولا تفاوت في الوضع، وتناوله الأفرادَ.
وقد صرَّح في "المُستصفى" بتفاوت مراتب العموم، وتناولها لبعض الأفراد، لكن هذا التفاوتَ ليس من جهة الوضع، وإنما هو لأمور خارجة عنه.
قال: والعموم يَضعُفُ بأن لا يظهرَ منه قصدُ التعميم، وبيَّن ذلك بأن يكثرَ المُخرَج عنه، وتتطرَّقَ إليه تخصيصات كثيرة.
ومثَّله بـ {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فإن دلالةَ قوله صلى الله عليه وسلم:
(1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 249)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 361)، و"المحصول" للرازي (3/ 153)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 203)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 489).
"لا تَبيعُوا البُرَّ بالبر"(1) على تحريمه الأرز والتمر، أقربُ من دلالة هذا العموم على تحليله.
قلت: في هذا المثال نظرٌ قد لا يُساعد عليه.
ثم قال: فقد دلَّ الكتابُ على تحريم الخمر، وخصَّ به قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، وإذا ظهر منه التعليل بالإسكار، فلو لم يَرِدْ خبرٌ في تحريم كلِّ مسكر، لكان التحاق النبيذ بالخمر بقياس الإسكار أغلبَ على الظنِّ من بقائه تحت عموم قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145].
قال: وهذا ظاهر في عموم هذه الآية، وآية إحلال البيع؛ لكثرة ما أُخرج منهما، ولضعفِ قصدِ العموم فيهما، ولذلك جوَّز عيسى بنُ أبانَ (2) التخصيصَ في أمثاله دون ما بقي على العموم، ولكن لا يَبعُد ذلك عندنا أيضًا فيما بقي عامًا، لأنا لا نشك في أن العموماتِ
(1) رواه البخاري (2027)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (1586)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفتظ: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء
…
" الحديث.
(2)
هو الإمام فقيه العراق وقاضي البصرة، تلميذ محمد بن الحسن، له تصانيف وذكاء مفرط، وفيه سخاء وجود زائد، توفي سنة (221 هـ). انظر:"سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 440).
بالإضافات إلى بعض المسمَّيات تختلف بالقوة؛ لاختلافـ[ها] في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى به، فإذا تقابلا وجب تقديمُ أقوى العمومين، وكذا القياسان إذا تقابلا، قدمنا أجلاهما وأقواهما (1).
قلت: أما ظهورُ قصدِ التعميم الَّذي حكيناه أولًا فلا شكَّ في اقتضائه القوةَ، لكن قد يقال: هل المعتبرُ في الضعف عدمُ قصدِ التعميم، أو قصد عدم التعميم؟
فإن قيل: إن المعتبر عدم قصد التعميم بالنسبة إلى دخول بعض الأفراد في الإرادة، فهذا لا يعتبر كما قدمناه.
وظاهر كلام "المستصفى" قد يوهم اعتبارَه بقوله: لا شكَّ في أن العموماتِ بالإضافة إلى بعض المسميات تختلف بالقوة؛ لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى.
فإن كان المرادُ من هذا الكلام أنه إذا ظهر قصدُ إرادة المسمى المعيَّن كان تناولُ العمومِ له أقوى من تناوله لما لم يظهرْ قصدُ إرادتِه، فهذا صحيحٌ جزمًا.
وإن كان المراد أن ما لم يظهر قصدُ إرادته من العام يكون ضعيفًا بالنسبة إلى العموم، فلا نسلمه؛ لِمَا ذكرناه من أن الألفاظَ الدالةَ على العموم قد تتناول ما لا يمكن حصرُه من الصور، فلا يشترط قصدُ المتكلم بصيغة العموم لإرادة كلِّ فردٍ منها.
(1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 251 - 252).