الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الذي يظهر رجحانه -والله تعالى أعلم بالصواب- هو القول الأول، وهو أن هذا الرجل كان جاهلًا بقدرة الله تعالى عليه بعد حرقه وطحنه وتفرق أجزائه، فأوصى أن يفعل به ذلك، ظنًا منه أنه سيعجز الله تعالى بهذه الحيلة، وذلك لا يوجب كفره ولا خروجه من الإيمان، ولذلك غفر الله له لجهله وخشيته وخوفه.
ولا يعني هذا أنه كان جاهلًا بصفة القدرة مطلقًا -جملة وتفصيلًا- فهذا بعيد لدلالة الشرع والعقل عليها، فهو مؤمن بمطلق القدرة، لكنه جاهل بقدرة الله المطلقة، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه ما شاء كان، وأنه على كل شيء قدير، إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، ولذا لم يقل مثلًا: إذا مت فادفنوني، لأنه يعلم أن الله قادر عليه حينئذ.
ومثل هذا يقال في البعث، فهو لم ينكر البعث مطلقًا، وإنما شك في قدرة الله على بعثه وهو على هذه الحال، ولذا لم يترك أولاده بدون وصية، لأنه يعلم أن مصيره حينئذٍ إلى البعث والحساب، فهرب من هذا بهذه الوصية، خشية من الله تعالى.
والحاصل أن هذا الرجل عنده إيمان مجمل بقدرة الله تعالى، لكنه شك في بعض متعلقاتها لجهله بها، ومن أطلق القول بجهله -من أهل العلم- فهذا مراده، والله تعالى أعلم.
قال ابن تيمية: "هذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك.
وهذان أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو "الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمنًا بالله في الجملة، ومؤمنًا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملًا صالحًا -وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه- غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح"
(1)
.
وقال ابن الوزير: "وأما جهله بقدرة الله على ما ظنه محالًا فلا يكون كفرًا، إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك، وأنه ممكن مقدور، ثم كذبهم أو أحدًا منهم"
(2)
.
وقال الدهلوي: "هذا الرجل استيقن بأن الله متصف بالقدرة التامة، لكن القدرة إنما هي في الممكنات، لا في الممتنعات، وكان يظن أن جمع الرماد المتفرق، نصفه في البر ونصفه في البحر ممتنع، فلم يجعل ذلك نقصًا، فأخذ بقدر ما عنده من العلم، ولم يعد كافرًا"
(3)
.
ومما يدل على هذا القول:
1 -
ظاهر الحديث، فنصه وسياقه ومقصوده ودلالة ألفاظه، كلها تشهد لهذا المعنى، وهذا بيِّنٌ ظاهر.
2 -
أن الحديث جاء في بعض طرقه -كما عند الإمام أحمد وغيره- أن هذا الرجل قال لبنيه: (ثم اذروني في البحر في يوم ريح لعلي أُضل الله)
(4)
، فقوله:(لعلي أُضل الله) يؤكد جهالة هذا الرجل، ومعنى هذه
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 491).
(2)
إيثار الحق (394).
(3)
حجة الله البالغة (1/ 117).
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (33/ 216) ح (30012)، و (33/ 227) ح (20024) من طريقين عن حماد بن سلمة عن أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن =
اللفظة: لعلي أفوته وأضيعه فيخفى عليه مكاني، يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب، ومنه قول الله عز وجل:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]، أي: لا يفوته
(1)
.
3 -
قال ابن حزم مستدلًا على عدم كفر هذا الرجل لجهله، وعدم قيام الحجة عليه:"وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم، وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدًا، وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمدًا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدًا، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة، فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه، جاهلًا مقدرًا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرًا ولا فاسقًا ولا آثمًا، فَإذا وقف على المصاحف، أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة"
(2)
.
4 -
جعل شيخ الإسلام ابن تيمية نظير هذا الحديث ما رواه مسلم في
= معاوية، وحكم المحقق على إسناده بالحسن، وأخرجه الطبراني في الكبير (19/ 426) ح (1073)، وفي الأوسط (6/ 275) ح (6402)، لكن بدون لفظة:(لعلي أُضل الله).
وأخرجه الإمام أحمد (33/ 239) ح (20039)، و (33/ 243) ح (2044) من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده، وكذا الدارمي (2/ 330) لكن ليس فيه:(لعلي أضل الله)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 165) ح (135)، والطبراني في الكبير (19/ 423) ح (1026)، و (1027)، و (1028)، و (1029)، وأبو يعلى في إبطال التأويلات (2/ 415).
(1)
انظر: أعلام الحديث (3/ 1565)، والمجموع المغيث (2/ 332)، والنهاية في غريب الحديث (3/ 98)، وجامع البيان للطبري (8/ 423)، وتفسير ابن كثير (3/ 249).
(2)
الفصل (2/ 272).
صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي -صلي الله عليه وسلم- فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال:(ما لك يا عائش حشيا رابية؟ ) قالت: قلت: لا شيء، قال:(لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير)، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته، قال:(فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ )، قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال:(أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ ) قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم، قال:(فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنَّا إن شاء الله بكم للاحقون)
(1)
.
قال ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث: "فهذه عائشة أم المؤمنين: سألت النبي -صلي الله عليه وسلم-، هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي -صلي الله عليه وسلم-: نعم
(2)
، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها
(1)
صحيح مسلم (7/ 45) ح (974).
(2)
هكذا ذكر ابن تيمية الحديث، بجعله صريحًا في كون القائل:(نعم) هو الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وقد عزاه إلى مسلم، واللفظ الذي في مسلم غير صريح بذلك بل =
بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي -صلي الله عليه وسلم- وقال:(أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله)، وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع، فقد تبين أن هذا القول كفر ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها"
(1)
.
وأما قول الرجل: (فإني لم أعمل خيرًا قط)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(لم يعمل حسنة قط)، فإنه وإن كان ظاهره أنه لم يكن موحدًا، لأن التوحيد أعظم الخير، لكن ليس هذا مراده، وإنما مراده أنه كان مسرفًا على نفسه بالمعاصي، مقصرًا في طاعة الله تعالى، يدل على
= هو محتمل، كما أوردته، ولذا ذهب النووي إلى أن القائل:(نعم) هو عائشة رضي الله عنها، فقال في شرحه على مسلم (7/ 49):"قوله: (قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم) هكذا هو في الأصول، وهو صحيح، وكأنها لما قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، صدقت نفسها فقالت: نعم".
ولكن جاء هذا اللفظ - (نعم) - صريحًا من قول النبي -صلي الله عليه وسلم- عند النسائي (2/ 466) ح (2175)، و (8/ 158 - 159) ح (8861، 8862)، والإمام أحمد (43/ 43) ح (25855)، وهذا يعضد ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله.
(1)
مجموع الفتاوى (11/ 411 - 413).
وجعل بعضهم قول الحواريين لعيسى عليه السلام: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} من هذا الباب، فهم شاكون في قدرة الله، لأنهم قالوا بعد ذلك:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [انظر: تفسير الطبري (130 - 131)، ومجموع الفتاوى (20/ 36)]. وَرُدَّ هذا بأن الحواريين لم يكونوا شاكين في أن الله يستطيع ذلك، وإنما أرادوا بقولهم:{هَلْ يَسْتَطِيعُ} أي: هل يفعل، وهذا معروف مألوف في كلام العرب، كما يقول الرجل للرجل: هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي: هل تفعله؟ والله أعلم [انظر: تفسير الطبري (5/ 129 - 130)، ومجموع الفتاوى (8/ 374)، وتفسير السعدي (2/ 363 - 364)].
ذلك أنه جاء في إحدى روايات الحديث: (كان رجل يسرف على نفسه
…
).
وجاء عند الإمام أحمد ما يرفع هذا الإشكال، حيث جاء الحديث -من طريق عبد الله بن مسعود- بلفظ: (أن رجلًا لم يعمل من الخير شيئًا قط إلا التوحيد، فلما حضرته الوفاة
…
)
(1)
.
قال ابن عبد البر: "وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار، لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، لمن مات كافرًا، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة"، ثم قال عن رواية:(لم أعمل خيرًا قط): "هذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها: أن يؤتى بلفظ الكل، والمراد البعض"
(2)
.
والحديث بلفظه الذي بين أيدينا يدل على إسلام الرجل وتدينه من وجهين
(3)
:
أحدهما: إخباره أنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى، والكافر لا يخشى الله تعالى.
قال ابن عبد البر: "الدليل على أن الرجل كان مؤمنًا: قوله حين قيل له: لِمَ فعلت هذا؟ فقال: من خشيتك يا رب، والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "
(4)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد موقوفًا على ابن مسعود (5/ 296) ح (3785)، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (10/ 194)، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح".
(2)
التمهيد (18/ 40).
(3)
انظر: طرح التثريب (3/ 267)، والمفهم (7/ 74)، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 391 - 392).
(4)
التمهيد (18/ 40).
والثاني: إخباره عليه الصلاة والسلام بأن الله قد غفر له، والكافر لا يغفر له.
وهذا الحديث أيضًا يدل على أصلين عظيمين، بمعرفتهما يزول الإشكال، وهما:
الأصل الأول: العذر بالجهل، فمن جهل صفة من صفات الله تعالى، ومثله يمكن أن يجهلها، فأنكرها أو شك فيها، فإنه لا يحكم بكفره لمجرد ذلك حتى تقام عليه الحجة.
قال الشافعي: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القول بها، فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والقلب، ولا نكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها"
(1)
.
وقال ابن قتيبة: "وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين، ولا يحكم عليهم بالنار، بل ترجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنياتهم"
(2)
.
وقال ابن عبد البر: "وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان، ألا ترى أن عمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وجماعة من الصحابة، سألوا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن القدر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم
(1)
اجتماع الجيوش الإسلامية (165)، وانظر: فتح الباري (13/ 407)، وأورد أوله، الذهبي في العلو (166)، وذكره بتمامه الألباني في مختصر العلو (177).
(2)
تأويل مختلف الحديث (112).
جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول
…
وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال
…
"
(2)
، فذكر حديث الرجل الذي أوصى أولاده بإحراقه.
وقال أيضًا: "الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، إذا كان مقرًا بما جاء به الرسول -صلي الله عليه وسلم-، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته"
(3)
.
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرًا أو قوله كفرًا أو اعتقاده كفرًا، جهلًا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرًا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول -صلي الله عليه وسلم-، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر إنما يكون بمخالفة كتاب الله
(1)
التمهيد (18/ 46).
(2)
مجموع الفتاوى (11/ 407 - 408).
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 538)، وانظر:(3/ 231)، و (12/ 493)، و (35/ 165 - 166)، وبغية المرتاد (311)، وإيثار الحق لابن الوزير (393)، وما بعدها.
وسنة رسوله، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة"
(1)
.
وأما الأصل الثاني: فهو التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين، فالشك في قدرة الله تعالى أو المعاد كفر لا ريب فيه، لكن لا يوجه إلى شخص معين حتى تقام عليه الحجة، فتتوفر فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، فهذا الرجل مع شكه في القدرة والمعاد لم يحكم بكفره، لوجود ما يمنع من ذلك، وهو الجهل.
قال ابن تيمية: "التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة التي تُكفِّر تاركها"
(2)
.
وقال أيضًا: "التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضًا: فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئًا من الدين يُكفر"
(3)
، ثم استشهد رحمه الله بحديث الرجل الذي أوصى بتحريقه.
وقال أيضًا: "ليس لأحد أن يُكَفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة"
(4)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
1 -
دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
2 -
انطباق الحكم على الشخص المعين، بحيث تتم شروط التكفير في حقه وتنتفي عنه الموانع"
(5)
.
(1)
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/ 248).
(2)
الاستقامة (1/ 164).
(3)
الاستغاثة في الرد على البكري (1/ 381).
(4)
مجموع الفتاوى (12/ 501)، وانظر:(3/ 229)، و (12/ 487 - 488)، و (35/ 165)، وبغية المرتاد (311)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 139).
(5)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/ 134).