الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
أما الأمر الأول: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الرحم شجنة من الرحمن).
فالشجنة في اللغة: أصلها: عروق الشجر المشتبكة.
والشواجن: الأودية الكثيرة الشجر.
ومنه قولهم: (الحديث ذو شجون) أي: ذو فنون وشعب وتشبث بعضه ببعض.
قال ابن فارس: "الشين والجيم والنون أصل واحد يدل على اتصال الشيء والتفافه، من ذلك الشِّجنة، وهي الشجر الملتف، ويقال: بيني وبينه شِجنة رحم، يريد اتصالها والتفافها
…
والشواجن: أودية غامضة كثيرة الشجر، وسميت به لتشاجن الشجر"
(1)
.
وقال الجوهري
(2)
: "الشِّجنة والشُّجنة: عروق الشجر المشتبكة، ويقال: بيني وبينه شِجنة رحم وشُجنة رحم، أي: قرابة مشتبكة"
(3)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (3/ 248) مادة: (شجن).
(2)
هو أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد التركي، صاحب الصحاح، كان إمامًا في اللغة والأدب، ماهرًا في الخط، كثير الأسفار والتغرب، توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة (393)، وقيل غير ذلك. [انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي (6/ 151)، والسير (17/ 80)، ولسان الميزان لابن حجر (1/ 518)، وشذرات الذهب (3/ 142)].
(3)
الصحاح (5/ 2724) مادة: (شجن).
وفي اللسان: "الشِّجن والشِّجنة والشُّجنة والشَّجنة: الغصن المشتبك"
(1)
.
ومعنى حديث: (الرحم شجنة) أي: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق
(2)
.
قال ابن تيمية، في معنى (الرحم شجنة من الرحمن):"يعني: لها تعلق تقرب من الرحمن"
(3)
.
يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:(قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)
(4)
.
قال الإسماعيلي: "معنى الحديث: أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن، فلها به علقة، وليس معناه: أنها من ذات الله، تعالى الله عن ذلك"
(5)
.
فتَوَهُم أنها جزء من ذات الله تعالى، أو بعض منه
(6)
، توهم باطل، لأن الرحم مخلوقة، وقد جاء التصريح بذلك كما في الحديث المتقدم، وإذا كانت مخلوقة فكيف يتوهم أنها صفة لله تعالى، ومعلوم أن صفاته غير مخلوقة؟
(1)
لسان العرب (13/ 233) مادة: (شجن).
(2)
انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 209)، وتهذيب اللغة (10/ 286)، والصحاح للجوهري (5/ 2143) كلاهما مادة:(شجن)، وإبطال التأويلات (2/ 427)، وشرح السنة للبغوي (13/ 23)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 447).
(3)
بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 250).
(4)
أخرجه أبو داود (عون 5/ 77) ح (1691)، والترمذي واللفظ له (تحفة 6/ 33) ح (1972)، وقال عنه:"حديث صحيح"، وأحمد (3/ 138) ح (1680)، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح"، وصححه الألباني، كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 318)، وصحيح سنن الترمذي (2/ 177).
(5)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (10/ 418)، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 224)، وعون الباري لصديق حسن خان (4/ 298).
(6)
انظر: تأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه للسيوطي (145 - 146).
فـ (من) في الحديث لابتداء الغاية، وليست للتبعيض، فالرحم من الله: خلقًا وإيجادًا، لا صفة ونعتًا.
وهذا الحديث نظير قوله تعالى في شأن المسيح عليه السلام: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] أي: من الأرواح التي خلقها الله
(1)
.
وهكذا قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]
(2)
.
قال ابن كثير: " {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} أي: من خلقه ومن عنده، وليست (من) للتبعيض كما تقوله النصارى -عليهم لعائن الله المتتابعة- بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى
…
وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ} [الأعراف: 73]، وفي قوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] "
(3)
.
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى، في معنى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} : " (من) للابتداء، وليست للتبعيض، فهي كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد، فقوله: {مِنْهُ} أي: روح صادرة من الله عز وجل، وليست جزءًا من الله كما تزعم النصارى"
(4)
.
وأما الأمر الآخر وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: (قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن).
فإن مذهب السلف -كما قد مرَّ كثيرًا- هو إجراء نصوص الصفات
(1)
انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (1/ 225).
(2)
انظر: دفع إيهام التشبيه عن أحاديث الصفات للسمهري (243).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 899)، وانظر: فتح الباري (6/ 475)، وفتح المجيد (73).
(4)
القول المفيد (1/ 70).
على ظاهرها، على المعنى اللائق بالله جل وعلا، مع نفي المماثلة، أو توهم النقص في حقه سبحانه.
وهذا الحديث منها، فهو دليل على ثبوت صفة الحقو لله تعالى، على ما يليق بجلاله وعظمته، "ويجب ألَّا نستوحش من إطلاق هذا اللفظ، وقد ورد به السمع، كما لا نستوحش من إطلاق ذلك في غيره من الصفات"
(1)
.
وقد نص على الأخذ بظاهر هذا الحديث جمع من أهل العلم، كالإمام أحمد، وأبي عبد الله بن حامد
(2)
، وأبي يعلى، وأبي موسى المديني، وابن تيمية، وصديق حسن خان
(3)
.
قال الإمام أحمد: "يُمْضَى الحديث كما جاء"
(4)
.
وقال ابن حامد: "ومما يجب التصديق به أن لله حقوًا".
(1)
مقتبس من كلام أبي يعلى -وهو يتحدث عن صفة الضحك- في إبطال التأويلات (1/ 218) بتصرف يسير.
(2)
هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه ومدرسهم ومفتيهم، وكان معظمًا مقدمًا عند الدولة والعامة، تفقه على أبي بكر عبد العزيز، وكان قانعًا عفيفًا ينسخ بيده ويقتات من أجرته فسمي لأجل ذلك ابن حامد الوراق، وكان كثير الحج توفي رحمه الله سنة (403 هـ)، وله العديد من المصنفات منها: الجامع في المذهب، وشرح الخرقي، وتهذيب الأجوبة. [انظر: تاريخ بغداد (7/ 313)، والعبر (2/ 204)، وشذرات الذهب (3/ 166)، ومختصر طبقات الحنابلة لابن شطي (32)].
(3)
هو محمد صديق خان بن حسن بن علي الحسيني القنوجي، له عناية بالحديث، من رجال النهضة الإسلامية المجددين، ولد ونشأ في قنوج بالهند، وتعلم في دلهي، فاز بثروة وافرة، وتزوج بملكة بهويال، توفي رحمه الله سنة (1307)، وله مصنفات عديدة باللغة العربية والفارسية وغيرهما، ومن هذه المصنفات باللغة العربية: كتاب عون الباري في شرح مختصر صحيح البخاري، وكتاب الروضة في شرح الدرر للشوكاني. [انظر: الأعلام (6/ 167)، ومعجم المؤلفين (3/ 358)].
(4)
انظر: إبطال التأويلات (2/ 421)(1/ 208)، وبيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 247 - 249).
وقال: "وكذلك في الرحم تأخذ بحقو الرحمن صفة ذاته، لا يدرى ما التكييف فيها، ولا ماذا صفتها".
وقال أيضًا: "فأما الحديث في الرحم والحقو، فحديث صحيح، ذكره البخاري، وقد سُئل إمامنا
(1)
عنه فأثبته وقال: يمضى الحديث كما جاء"
(2)
.
وقال أبو يعلى: "اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن الحقو والحجزة
(3)
صفة ذات"
(4)
.
وقال أبو موسى المديني -عن حديث الحجزة، بعد أن ذكر تأويلين لها-:"وإجراؤه على ظاهره أولى"
(5)
.
وقال ابن تيمية: "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يُمَرُّ كما جاء، وردوا على من نفى موجبه"
(6)
.
وذكر صديق حسن خان (الحقو) في جملة من الصفات، ثم قال: "فكل هذه الصفات، تساق مساقًا واحدًا، ويجب الإيمان بها على أنها
(1)
يقصد الإمام أحمد رحمه الله.
(2)
هذه النقول عن ابن حامد ذكرها ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 251، 245 - 252)، وانظر: إبطال التأويلات (2/ 421).
(3)
الحجزة: موضع شد الإزار، فهي بمعنى: الحقو. [انظر: المجموع المغيث لأبي موسى المديني (1/ 404)، والنهاية فى غريب الحديث (1/ 344)، ولسان العرب (5/ 332) مادة: (حجز)] وقد جاء فى إثباتها حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:(إن الرحم شجنة، آخذة بحجزة الرحمن، يصل من وصلها ويقطع من قطعها) رواه أحمد (4/ 344/) ح (2956)، وابن أبي عاصم في السنة (237) ح (538)، والطبراني في الكبير (10/ 327) ح (10806)، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند:"إسناده صحيح"، وحكم الألباني على إسناده بالحسن، كما في السلسلة الصحيحة (4/ 132) ح (1602).
(4)
إبطال التأويلات (2/ 420).
(5)
المجموع المغيث (1/ 405).
(6)
بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 260).
صفات حقيقية، لا تشبه صفات المخلوقين، ولا يمثل ولا يعطل ولا يرد ولا يجحد، ولا يُؤول بتأويل يخالف ظاهره"
(1)
.
وبهذه النقول عن هؤلاء العلماء يُعلم خطأ الإمام الخطابي رحمه الله حينما أوَّل هذه الصفة وقال: "لا أعلم أحدًا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضى الاسم له في موضع اللغة، وإنما معناه: اللياذ والاعتصام"
(2)
.
ولذا قال ابن تيمية معقبًا على كلامه: "هذا الذي ذكره الخطابي، ذكره بمبلغ علمه، حيث لم يبلغه في حديث (الرحم) عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات، التي تمر كما جاءت، والخطابي له مرتبة في العلم معروفة، ومرتبة أئمة الدين المتبوعين، فوق طبقة الخطابي ونحوه"
(3)
.
وأما التأويل الذي ذهب إليه الخطابي، وهو حمل الحديث على معنى اللياذ والاعتصام بالله تعالى
(4)
، فهو معنى صحيح، لكن ليس فيه ما ينافي إثبات هذه الصفة لله تعالى على ما يليق بجلاله.
قال أبو يعلى: "قولهم: إن معناه: أنها مستجيرة معتصمة بالله، فلا يمنع من هذا، لكن صفة الاستجارة والاعتصام، على ما ورد به الخبر، من الأخذ بحقو الرحمن جل اسمه"
(5)
.
* * *
(1)
قطف الثمر (65 - 68).
(2)
نقل ذلك عنه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 265)، وعزاه إلى كتابه: شعار الدين، وهو كتاب مفقود.
(3)
المرجع السابق (1/ 274).
(4)
وإليه ذهب عامة أهل التأويل من أهل الكلام وغيرهم. [انظر: مشكل الحديث لابن فورك (322)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 223)، وأساس التقديس للرازي (70)، والأسنى للقرطبي (2/ 118)، وإيضاح الدليل لابن جماعة (185)، وأقاويل الثقات لمرعى بن يوسف (183 - 184)].
(5)
إبطال التأويلات (2/ 426).