الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن مجرد الأعمال غير كاف في دخول الجنة، إذ لا بد من رحمة الله تعالى، فبدونها لا تجب الجنة لأحد، كما تقدم في الأحاديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:(لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة).
وقد جاء القرآن مصدقًا لمعنى هذه الأحاديث، كما في قوله تعالى عن الجنة:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
وقال تعالى بعد ذكر الجنة: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)} [الدخان: 56، 57].
وقال جل وعلا: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107].
وليس في كتاب الله أن العمل يُدخل الجنة، وإنما فيه أن الله هو يدخل الجنة به في بعض الآيات، وفي بعضها بالعمل وبتكفير الله تعالى للسيئات، وهي زيادة يجب اعتبارها.
قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9].
وقال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر: 35]، وهذا كثير في كتاب الله تعالى، ولا دليل على أن التكفير واجب بالعمل، بل الأدلة ناهضة بخلافه، كقوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وقوله:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]
(1)
.
قال الإمام البربهاري
(2)
: "اعلم أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، ولا يعذب الله أحدًا إلا بقدر ذنوبه، ولو عذب أهل السموات والأرض، برهم وفاجرهم، عذبهم غير ظالم لهم"
(3)
.
وقال الإمام الصابوني
(4)
في معرض بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "ويعتقدون ويشهدون أن أحدًا لا تجب له الجنة -وإن كان عمله حسنًا وطريقه مرضيًا- إلا أن يتفضل الله عليه، فيوجبها له بمنه وفضله، إذ عمل الخير الذي عمله لم يتيسر له إلا بتيسير الله عز اسمه، فلو لم ييسره له، ولو لم يهدِه لم يهتد له أبدًا، قال الله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] "
(5)
.
(1)
انظر: العواصم والقواصم (7/ 292).
(2)
هو شيخ الحنابلة في وقته، القدوة الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، كان فقيهًا بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم، له مصنف مشهور في الاعتقاد، اسمه: شرح السنة، توفي رحمه الله تسع وعشرين وثلاثمائة (329). [انظر: طبقات الحنابلة (3/ 36)، والسير (15/ 90)، والعبر (2/ 33)، وشذرات الذهب (2/ 319)].
(3)
شرح السنة (35).
(4)
هو إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الشافعي الواعظ المفسر المصنف، أحد الأعلام وشيخ خراسان في زمانه جلس للوعظ وهو ابن عشر سنين، وكان إمامًا حافظًا عمدة مقدمًا في الوعظ والأدب وكان سيف السنة وأفعى أهل البدعة توفي رحمه الله سنة (449 هـ). [انظر: السير (18/ 40)، والعبر (2/ 294)، وشذرات الذهب (4/ 282)].
(5)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (294 - 295).
كما أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة أسباب موصلة إلى ثواب الله تعالى وجنته، لكن ذلك لا يتحقق إلا بتوفر الشروط -والتي من أعظمها رحمة الله- وانتفاء الموانع.
قال ابن تيمية: "مجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مُرْبِيَةٍ بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره
…
وكذلك أمر الآخرة، ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هو سبب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) "
(1)
.
وقال المقريزي: "الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب، والأعمال الصالحات من توفيق الله وفضله، وليست قدْرًا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه: أن تكون شكرًا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سبحانه، فلو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم"
(2)
.
وأما ما قيل في الجمع بين حديث: (لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة) وما في معناه، وآية:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وما في معناها، فأحسنها القول الأول، وهو: أن المنفي في الحديث كون الأعمال بمجردها توجب دخول الجنة، وأما المثبت في الآية فهو كون الأعمال سبب في دخول الجنة، والفرق بين الأمرين ظاهر، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في قوله:(سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه)،
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 70) بتصرف يسير.
(2)
تجريد التوحيد (108).
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)، متفق عليه.
قال ابن الوزير: "اعلم أن أهل السنة لا ينكرون أن الجنة تُدَخلُ بعمل كما ورد في القرآن، وإنما ينكرون ما ليس في القرآن من كونها تُستَحقُ على الله بالعمل استحقاق المبيعات بأثمانها، بحيث إنه لا فضل للبائع على المشتري.
فمرجع النزاع في أن الباء في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، هل هي باء المعاوضة للشيء بمقدار ثمنه، مثل الثوب بالدرهم، أو هي باء السببية، كقولك: أكرمني الملِكُ بسابق معرفة، أو بكلمة طيبة سمعها مني، أو نحو ذلك؟
والقرآن إنما نص على العمل، لا على أن الباء فيه للثمن المساوي، ولو قال أهل السنة: بعدم العمل، لجوَّزوا الجنة للمشركين فاعرف هذه النكتة"
(1)
.
وأما الأقوال الأخرى في الجمع فإنها عند التأمل نجد أنها تؤول إلى هذا القول، كما أن هذا القول لا يخالف ما جاء في بقية الأقوال بل يوافقها، فالأقوال كلها لا تخالف في كون الأعمال أسبابًا موصلة إلى رضوان الله والجنة، وأن تفاوت العباد في المنازل والدرجات في الجنة يكون بحسب الأعمال، كما أن التوفيق للأعمال الصالحة والهداية لها، ومن ثَم دخول الجنة، والتفاوت في منازلها، كل ذلك برحمة الله تعالى وفضله، وأن مجرد الأعمال -بقطع النظر عن رحمة الله تعالى- لا توجب دخول الجنة، إذ ليست الجنة عوضًا عن الأعمال وثمن لها.
وإليك كلام النووي، حيث اشتمل على مجمل هذه الأقوال، قال رحمه الله تعالى: "أما قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {وَتِلْكَ
(1)
العواصم والقواصم (7/ 299).
الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}، ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يُدخل بها الجنة، فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها، برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال، أي: بسببها، وهي من الرحمة، والله أعلم"
(1)
.
وأما الموقف الثاني، وهو ما ذهبت إليه القدرية من أن الجنة عوض عن العمل وثمن له، فهو باطل ظاهر البطلان، والأحاديث المتقدمة في نفي دخول الجنة بمجرد الأعمال ترد عليهم. وقد بيَّن الله تعالى في عدة آيات من كتابه أن الأنبياء وهم الأنبياء إنما يدخلون الجنة برحمة الله، فإذا كان الأنبياء كذلك فكيف بغيرهم
(2)
.
قال الله تعالى حكاية عن آدم وحواء عليهم السلام: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وقال عز وجل حكاية عن نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
وحكى عن إبراهيم قوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77].
وأما الموقف الثالث، وهو ما ذهبت إليه الجبرية، حيث أنكرت كون الأعمال سببًا في دخول الجنة، فهو باطل أيضًا، والآيات الدالة على أن دخول الجنة يكون بالأعمال ترد عليهم، وإذا كان "من عذبه الله من المشركين، فقد عذبه بعمله، فكذلك من أثابه الله من الموحدين، فقد أثابه وأدخله الجنة بعمله"
(3)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (17/ 166).
(2)
انظر: العواصم والقواصم (7/ 295 - 296).
(3)
العواصم (7/ 299).
ونلاحظ أن كل واحد من الفريقين -القدرية والجبرية- قد تمسك بنوع من النصوص، وأغفل النوع الآخر، والحق الذي لا مرية فيه، هو القول: بمدلول النصوص كلها، وعدم طرح شيء منها، لأنها كلها حق وصدق -والحق لا يتعارض بل يصدق بعضه بعضًا- فيحمل كل نوع من النصوص على وجه لا يخالف النوع الآخر، وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، كما تقدم.
قال ابن تيمية: "وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
فريق آمنوا بالقدر، وظنوا أن ذلك كافٍ في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة، وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه كما قال:(يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)
(1)
، فالملِكُ إذا أمر مملوكيه بأمر، أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم، فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فلها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46] "
(2)
.
وقال ابن القيم ردًا على الجبرية والقدرية، بعد بيانه للقول الراجح في هذه المسألة:
(1)
أخرجه مسلم (16/ 368) ح (2577).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 73).
"ولا يصح في النصوص والعقول إلا ما ذكرناه من التفصيل، وبه يتبين أن الحق مع الوسط بين الفِرَق في جميع المسائل، لا يُستثنى من ذلك شيء، فما اختلفت الفِرَق إلا كان الحق مع الوسط، وكلٌّ من الطائفتين معه حق وباطل، فأصاب الجبرية في نفي المعاوضة، وأخطأوا في نفي السببية، وأصاب القدرية في إثبات السببية، وأخطأوا في إثبات المعاوضة، فإذا ضممت أحد نفيَي الجبرية إلى أحد إثباتَي القدرية، ونفيت باطلهما كنت أسعد بالحق منهما"
(1)
.
وقال المقريزي: "وتأمل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72]، مع قوله صلى الله عليه وسلم:(لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله) تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال، ولا تنافي بينهما، لأن توارد النفي والإثبات ليس على محل واحد، فالمنفي باء الثمنية، واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال، ردًا على القدرية المجوسية، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداءً متضمن لتكدير المنة.
والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية، ردًا على القدرية الجبرية، الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها، ولا هي أسباب لها، وإنما غايتها أن تكون أَمَارة.
والسنة النبوية: هي أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات، وارتباطها بها.
وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعًا من الحق، فإنها ارتكبت لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا، فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"
(2)
.
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 515).
(2)
تجريد التوحيد (108 - 109).