الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث على عدة أقوال، وهي كالتالي:
القول الأول: أن هذا الوعيد فيمن قصد مضاهاة خلق الله تعالى، لأن من كان هذا قصده فهو كافر، بخلاف ما لو صوَّر بدون قصد المضاهاة فإنه لا يكفر، لكنه اقترف ذنبًا كبيرًا
(1)
.
وإلى هذا ذهب الطبري وابن بطال، واستدلا برواية عائشة رضي الله عنها:(أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، متفق عليه.
قال الطبري: "ليس في خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل
(2)
، بل هو له مصدق، وذلك أن المصوِّر الذي أخبر النبي عليه السلام أنه له أشد العذاب هو الذي وصفه النبي عليه السلام في حديث عائشة بقوله:(الذين يضاهون خلق الله) "
(3)
.
وقال ابن بطال معقبًا على كلام الطبري: "المتكلف من ذلك مضاهاة ما صوره ربه في خلقه أعظم جرمًا من فرعون وآله، لأن فرعون كان كفره بقوله:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] من غير ادعاءٍ منه أنه يخلق، ولا
(1)
انظر: إكمال المعلم (6/ 638)، وشرح النووي على مسلم (14/ 339)، وكشف المشكل (1/ 280).
(2)
يشير إلى قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
(3)
نقل ذلك عنه ابن بطال (9/ 175)، وانظر: الفتح (10/ 383)، وعمدة القاري (22/ 70).
محالة
(1)
منه أن ينشئ خلقًا يكون كخلقه تعالى شبيهًا ونظيرًا، والمصوِّر المضاهي بتصويره ذلك منطوٍ على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرًا منه، فهو بذلك أشدهم عذابًا وأعظم عقابًا، وأما من صور صورة غير مضاه ما خلق ربه، وإن كان بفعله مخطئًا، فغير داخل في معنى من ضاهى ربه بتصويره"
(2)
.
القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن صور الصور لكي تعبد، كحال صانعي الأصنام، فمن فعل هذا فهو كافر، والكفار أشد الناس عذابًا
(3)
.
اختار هذا الكرماني
(4)
والقسطلاني
(5)
.
قال الكرماني: "فإن قلتَ: لِمَ كانوا أشد الناس عذابًا؟ قلتُ: لأنهم يصورون الأصنام للعبادة لها، فهم كفرة، والكفرة أشدهم عذابًا"
(6)
.
القول الثالث: أن الناس الذين أُضيف إليهم: (أشد) لا يراد بهم كل الناس، بل بعضهم، وهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعَّد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادَّعوا الإلهية عذابًا، ومن صوَّر ذوات الأرواح للعبادة، أشد عذابًا ممن يصورها لا للعبادة.
(1)
هكذا في الأصل، ولعلها:(محاولة)، والله أعلم.
(2)
شرح صحيح البخاري (9/ 175)، وانظر:(9/ 178).
(3)
انظر: إكمال المعلم (6/ 638)، وشرح النووي على مسلم (14/ 338 - 339).
(4)
هو شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن عبد الكريم الكرماني الشافعي، نزيل بغداد، طاف في البلاد لطلب العلم، ودخل مصر والشام والحجاز والعراق وبها استوطن، تصدى لنشر العلم في بغداد ثلاثين سنة، وكان علَّامة بالحديث، توفي رحمه الله سنة (786 هـ) له مؤلفات من أشهرها: الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري. [انظر: شذرات الذهب (6/ 294)، والأعلام (7/ 153)، ومعجم المؤلفين (3/ 784)].
(5)
انظر: إرشاد الساري (12/ 622).
(6)
الكواكب الدراري (21/ 134).
وإلى هذا ذهب القرطبي
(1)
.
القول الرابع: حمل الحديث على رواية: (إن من أشد
…
) أي: بإثبات (من) فيكون المصور من أشد الناس عذابًا، وليس هو أشدهم، وكونه كذلك لا يمنع مشاركة غيره له في ذلك، لأن هذا اللفظ لا يوجب اختصاص المصور بالوعيد المذكور.
وإلى هذا ذهب الطحاوي -وغيره
(2)
- إلا أنه خص هذا الوصف بثلاثة أصناف ورد ذكرهم في الحديث الذي أخرجه هو وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة: رجل قتل نبيًا أو قتله نبي، وإمام ضلالة، ومُمَثِّل من الممثلين)
(3)
.
وقال: "المشبه بخلق الله هو الممثل بخلق الله"
(4)
أي: أن المصور داخل في الصنف الثالث الوارد في هذا الحديث.
القول الخامس: أن الأشدية نسبية، يعني: أن المصورين أشد الناس عذابًا بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر، لا بالنسبة لجميع الناس.
قال الشيخ محمد العثيمين: "وهذا أقرب الوجوه، والله أعلم"
(5)
.
* * *
(1)
انظر: المفهم (5/ 431)، والفتح (10/ 384)، وعمدة القاري (22/ 70).
(2)
انظر: الفتح (10/ 383)، وعمدة القاري (22/ 70)، والقول المفيد (3/ 209)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/ 282).
(3)
أخرجه بالإضافة إلى الطحاوي: الإمام أحمد (5/ 332) ح (3868)، والطبراني في الكبير (10/ 211) ح (10497)، وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 236)، وقال:"رواه البزار ورجاله ثقات، وكذلك أحمد"، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
(4)
شرح مشكل الآثار (تحفة 9/ 445).
(5)
مجموع الفتاوى (2/ 282)، وانظر: القول المفيد (3/ 209).