الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الذي يترجح -والله تعالى أعلم- بناءً على القول بصحة الحديث: القول الثالث، وهو أن الحديث إنما يدل على أنه لا يُشهد ولا يقطع لأحد من أطفال المؤمنين بعينه في الجنة، لأنه من علم الغيب، كما أن الطفل المسلم تابع لأبويه، والقطع له بذلك، قطع لأبويه بالإيمان، مع أنهما قد يكونان ممن يظهر الإسلام وهما على خلافه
(1)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص، حينما قال له: أعط فلانًا فإنه مؤمن، قال:(أوْ مسلم)، متفق عليه
(2)
. فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان، لأنه غيب، دون الإسلام لأنه ظاهر.
وهذا لا يخالف إطلاق القول: بأن أطفال المؤمنين في الجنة، لأن هناك فرقًا بين الإطلاق والتعيين، فكما أنه لا يلزم من الشهادة لعموم المؤمنين في الجنة الشهادة لمعين منهم بذلك، فكذلك أطفال المؤمنين.
وقد جاء عند البخاري من حديث أم العلاء رضي الله عنها: أنها شهدت لعثمان بن مظعون رضي الله عنه لما مات، فقالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فأنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(وما يدريك أن الله أكرمه؟ ) فقلت: بأبي أنت يا رسول الله،
(1)
ولعل هذا مستند -ما تقدم من حكاية- الإجماع على أن أطفال الأنبياء في الجنة، لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الوقوع في الكفر أو الشرك، فاحتمال موتهم عليه ممتنع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي ابنه إبراهيم:(إن له مرضعًا في الجنة)، وإن كانت هذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس غيره عليه، لكنها تؤيد حكاية الإجماع، والله أعلم. [الحديث: أخرجه البخاري (1/ 465) ح (1315)].
(2)
صحيح البخاري (1/ 18) ح (27)، ومسلم واللفظ له (2/ 539) ح (150).
فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا
(1)
.
قال ابن القيم: "وسر المسألة: الفرق بين المعين والمطلق في الأطفال والبالغين، والله أعلم"
(2)
.
وأما المسلك الأول: وهو تضعيف الحديث، لأنه مما انفرد به طلحة بن يحيى، وهو ضعيف، فالجواب عنه: أن طلحة لم ينفرد به، بل تابعه عليه فضيل بن عمرو -وهو ثقة
(3)
- كما عند مسلم
(4)
، وهو ما أشار إليه ابن عبد البر نفسه حيث قال:"ورواه عن طلحة بن يحيى جماعة بإسناده ومعناه، وزعم قوم أن طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث، وليس كما زعموا، وقد رواه فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة، كما رواه طلحة بن يحيى سواء"
(5)
.
ولكن جاء عن الإمام أحمد أنه قال عن هذا الطريق: "ما أراه إلا سمعه من طلحة"
(6)
، فرد الحديث إلى طلحة بن يحيى، فإن ثبت هذا صحَّ القول: بالتفرد.
وجاء للحديث متابعة ثالثة عند أبي داود الطيالسي، من طريق قيس بن الربيع عن يحيى بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها
(7)
، لكنها لا تصح
(8)
.
(1)
صحيح البخاري (1/ 419) ح (1186).
(2)
بدائع الفوائد (3/ 123).
(3)
انظر: التقريب (2/ 15).
(4)
وهي الرواية الثانية التي تقدم ذكرها في المطلب الأول.
(5)
التمهيد (18/ 105)، وانظر: الاستذكار (8/ 393)، وقوله هذا يخالف ما قاله أولًا من أن طلحة تفرد به.
(6)
العلل للإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله (2/ 12)، وانظر: الضعفاء للعقيلي (2/ 226).
(7)
المسند (3/ 152) ح (1679).
(8)
ففي سندها قيس بن الربيع الأسدي، وهو ضعيف، قال فيه ابن حجر في التقريب (2/ 33):"صدوق تغيَّر لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به"، =
والمتأمل لكلام الإمام أحمد وغيره يجد أنه يضعف الحديث من وجهين:
الأول: نكارة أوله، وهو التصريح بإنكار النبي صلى الله عليه وسلم واستدراكه على عائشة، حيث قال:(أو غير ذلك يا عائشة؟ ) بعد قولها: طوبى له عصفور من عصافير الجنة.
ولهذا قال الإمام أحمد: "هو يرجى لأبويه كيف يشك فيه؟ إنما اختلفوا في أولاد المشركين"
(1)
، فيرى الإمام أحمد أن هذا الحديث يعارض ما حكي الإجماع عليه، واقتضته الأدلة الكثيرة من كون أطفال المؤمنين في الجنة.
ويلاحظ أن موضع النكارة هذه ليس موجودًا في رواية فضيل بن عمرو
(2)
، حيث رواه بلفظ: قالت عائشة رضي الله عنها: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا ولهذه أهلًا).
ولعل هذا هو ما أشار إليه العقيلي
(3)
حين قال تعليقًا على رواية طلحة: "آخر الحديث فيه رواية من حديث الناس، وأوله لا يحفظ إلا من هذا الوجه"
(4)
.
= وفي السند أيضًا: يحيى بن إسحاق، لم أجد له -بعد البحث- ترجمة، وقد قال محقق مسند أبي داود الطيالسي الدكتور محمد التركي في تعليقه على هذا الحديث:"ويحيى بن إسحاق لم أعرفه، وقد يكون مقلوبًا من إسحاق بن يحيى بن طلحة، وقد روى عن عمته عائشة بنت طلحة، وهو متكلم فيه".
(1)
أهل الملل (1/ 68)، وقد تقدم ص (646).
(2)
قال محقق كتاب المنتخب من العلل: طارق بن عوض الله: "الفقيمي ثقة -يعني: فضيل بن عمرو- وليس في روايته ما يُستنكر، بل فيه ما يفيد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة على قولها، ولعله لذلك قدم مسلم روايته على رواية طلحة في الباب، وجعل رواية طلحة في آخر الباب" المنتخب (55).
(3)
هو الحافظ الناقد أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي الحجازي، مصنف كتاب الضعفاء، ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدم في الحفظ، توفي سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة (322). [نظر: السير (15/ 236)، وتذكرة الحفاظ (3/ 833)، وشذرات الذهب (2/ 295)].
(4)
الضعفاء الكبير (2/ 227).
وصرح به الذهبي حيث قال: "انفرد طلحة بأوله، وأما آخره فجاء من غير وجه"
(1)
.
الوجه الثاني: تضعيفه من جهة سنده، حيث قالوا: تفرد به طلحة بن يحيى، وهو متكلم فيه، فمثله لا يحتمل منه التفرد.
والحاصل: أن الحديث إن ثبت ضعفه فلا إشكال، وإن قيل بصحته فتوجيهه ما تقدم، والله تعالى أعلم.
وأما القول الأول: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المؤمنين في الجنة، فالجواب عنه: أن هذا يحتاج إلى دليل يدل عليه، ولا سبيل إليه. والله أعلم.
وأما القول الثاني: وهو القول بوجوب التوقف فيهم، فهو معارض بما تقدم ذكره من الأدلة الكثيرة على أن أطفال المؤمنين في الجنة، ولهذا قال ابن كثير عن هذا القول: إنه غريب جدًا
(2)
.
وأما أدلتهم فالجواب عنها كما يلي:
أما حديث عائشة رضي الله عنها في وفاة صبي من الأنصار، فقد تقدم الجواب عنه.
وأما استدلالهم بحديث ابن مسعود -وما في معناه- على أن السعادة والشقاوة أمران مقدران على العباد وهم في بطون أمهاتهم، ولا سبيل إلى العلم بذلك، فوجب التوقف، فالجواب عنه: أن هذا حق لا شك فيه، لكن موتهم في حال الصغر يدل على أنهم لم يكتبوا في بطون أمهاتهم أشقياء، وإنما هم ممن جرى القلم بسعادتهم
(3)
.
قال ابن عبد البر بعد أن ساق الأدلة على أن أطفال المؤمنين في
(1)
ميزان الاعتدال (3/ 470).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 54).
(3)
انظر: الاعتقاد للبيهقي (90، 91)، والتذكرة (2/ 329)، وأحكام أهل الذمة (2/ 1072 - 1073).
الجنة: "وفي هذه الآثار مع إجماع الجمهور دليل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (الشقي من شقي في بطن أمه)
(1)
، وأن الملك ينزل فيكتب أجله، ورزقه، ويكتب شقيًا أو سعيدًا في بطن أمه: مخصوص مجمل، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب، فهو ممن سعد في بطن أمه، ولم يشقَ، بدليل ما ذكرنا من الأحاديث والإجماع"
(2)
.
وأما استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فقيل له: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). فقالوا: إن هذا الجواب يعم جميع الصغار: أولاد المسلمين وأولاد الكافرين، فالجواب عنه: ما ذكره القرطبي وابن القيم:
قال القرطبي: "هذا السؤال إنما كان عن أولاد المشركين، كما جاء مُفَسَّرًا من حديث ابن عباس
(3)
"
(4)
.
وقال ابن القيم بعد ذكر استدلالهم بهذا الحديث: "هؤلاء لو تأملوا ألفاظه وطرقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج، فإن هذا الحديث رُوي من طرق متعددة
…
كلها صحاح تبين أن السؤال إنما وقع عن أولاد المشركين"
(5)
.
* * *
(1)
أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود (16/ 431) ح (2645).
(2)
التمهيد (6/ 349 - 350).
(3)
ولفظه: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:(الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين) متفق عليه: البخاري (1/ 465) ح (1317)، ومسلم (16/ 450) ح (2660).
(4)
المفهم (6/ 677).
(5)
أحكام أهل الذمة (2/ 1078 - 1081).