الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
تقدم بيان أن الخلاف منحصر في الأحاديث المتعلقة بإمامة العبد، لأن فيها إشكالًا من وجهين:
أحدهما: أن الإجماع منعقد على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجوب تقديم القرشي في الإمامة العظمى، بشرط إقامة الدين.
والثاني: أن الإجماع منعقد على عدم جواز تولية العبد الإمامة العظمى، لأن من شرطها: الحرية.
وقبل ذكر الراجح من الأقوال لا بُدَّ من بيان أن الخلاف في توجيه هذه الأحاديث المتعلقة بإمامة العبد إنما هو باعتبار حال الاختيار، أما إذا تغلَّب العبد وكان ذا شوكة وقوة فإنه تجب طاعته إخمادًا للفتنة، ما لم يأمر بمعصية.
قال النووي: "وتُتَصوَّر إمارة العبد إذا ولَّاه بعض الأئمة، أو إذا تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، ولا يجوز ابتداءً عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية"
(1)
.
وقال ابن حجر عند ذكر الأقوال في هذه المسألة: "هذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة، فإن طاعته تجب، إخمادًا للفتنة، ما لم يأمر بمعصية"
(2)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (12/ 467).
(2)
الفتح (13/ 122)، وانظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 110)، وإرشاد الساري (15/ 92)، وأضواء البيان (1/ 56)، وشرح رياض الصالحين للعثيمين (2/ 492).
وأما هذه الأحاديث التي قد يفهم منها جواز إمامة العبد، كقوله صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، فأحسن ما قيل في الجواب عنها: القول الأول، وهو أن المرد: وجوب طاعته لكونه مستعملًا من قبل الإمام الأعظم، لا أنه هو الإمام الأعظم، وقد قال القرطبي:"أجمعت الأمة على أن جميع الولايات تصح لغير قريش ما خلا الإمامة الكبرى"
(1)
.
وعقد البيهقي في سننه بابًا بعنوان: "باب: جواز تولية الإمام من ينوب عنه وإن لم يكن قرشيًا"
(2)
، وذكر تحته عدة أحاديث، منها: حديث أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)
(3)
.
ومما يؤيد هذا القول: ما أخرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش
…
وإن أمَّرَتْ عليكم عبدًا حبشيًا مجدَّعًا فاسمعوا له وأطيعوا)
(4)
.
ويعضده أيضًا: بعض ألفاظ الحديث، ففي رواية يقول:(وإن استعمل عليكم)، وفي رواية أخرى:(إن أُمِّر عليكم عبد)، فظاهر هذه الألفاظ أن العبد مستعمل ومؤمَّر من قبل الإمام الأعظم، وليس هو الإمام الأعظم
(5)
.
وأما بقية الأقوال فمحتمَلة ما عدا الرابع منها وهو: أن إطلاق لفظ
(1)
المفهم (4/ 7).
(2)
السنن الكبرى (8/ 154).
(3)
أخرجه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (542).
(4)
المستدرك (4/ 85 - 86) ح (6962)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم:"إسناده جيد، ولكنه رُوي عن علي موقوفًا، وقال الدارقطني: هو أشبه"، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (1/ 534) ح (2757)، وانظر: إرواء الغليل (2/ 299 - 300) كما أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 26) ح (3521) لكنه بلفظ: (أُمر) بدل: (أمرت).
(5)
انظر: الإمامة العظمى للدميجي (243).
العبد في الأحاديث السابقة إنما هو باعتبار اتصافه بذلك سابقًا، فإن هذا القول بعيد عن ظاهر الحديث، وليس عليه دليل يعضده، ثم إنه جواب عن شرط الحرية فقط، وأما شرط القرشية فيبقى دون جواب.
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما -المتقدم- في أنه سيكون ملك من قحطان، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)، متفق عليه
(1)
. فإنهما لا يعارضان كون الإمامة في قريش، لأنهما إخبار عن حال سيقع، وهذا لا يعني عدم استحقاق قريش لها، وقد يكون ذلك عند ضعف قريش عن إقامة الدين، لأن استحقاقهم للإمامة مقيد بذلك -كما تقدم- كما في حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما بعد، يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يَلْحَاكم
(2)
كما يُلحى القضيب، لقضيب في يده، ثم لحا قضيبه فإذا هو أبيض يَصْلِد
(3)
)
(4)
.
وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش، ولهم
(1)
تقدم تخريجه ص (544) هامش (1).
(2)
قال في النهاية (4/ 235): "اللحت: القشر، ولحت العصا، إذا قشرها، ولحته: إذا أخذ ما عنده، ولم يدع له شيئًا".
(3)
أي: يبرُق ويَبِصُّ. [النهاية (3/ 46)].
(4)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 176) ح (4380)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 516) ح (1119)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 483) ح (5024)، وقال الهيثمي في المجمع:"رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح، ورجال أبي يعلى ثقات"، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 69) ح (1552) عن إسناد أحمد:"هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
عليكم حق، ولكم مثل ذلك، ما إذا استُرْحِموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
(1)
.
قال القسطلاني معلقًا على حديث عبد الله بن عمرو في خروج القحطاني وإنكار معاوية عليه بكون الخلافة في قريش: "ولا تناقض بين الحديثين، لأن خروج هذا القحطاني إنما يكون إذا لم تُقِم قريش الدين، فيُدال عليهم في آخر الزمان، واستحقاق قريش الخلافة لا يمنع وجودها في غيرهم، فحديث عبد الله في خروج القحطاني حكاية عن الواقع، وحديث معاوية في الاستحقاق، وهو مقيد بإقامة الدين"
(2)
.
وقد يقال: إن خروج هذا القحطاني وملكه إنما يكون بطريق التغلب والقوة، لا بطريق الاختيار، وربما دلَّ على هذا قوله في الحديث:(يسوق الناس بعصاه).
قال ابن العربي عن حديث أبي هريرة في خروج القحطاني: هذا إنذار من النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون من الشر في آخر الزمان، من تسوّر العامة على منازل أهل الاستقامة، ولا يعارض هذا ما ثبت من أن الأئمة من قريش، لأنه ليس خبرًا عمَّا ينبغي
(3)
.
وقد ذكر البخاري حديث أبي هريرة -المتقدم- في خروج القحطاني تحت باب: "تغير الزمان حتى تعبد الأوثان".
(1)
أخرجه الإمام أحمد (20/ 249) خ (12900)، و (19/ 318) ح (12307)، والطبراني في الأوسط (6/ 357) ح (6610)، والبزار (كشف 2/ 228) ح (1579) إلا أنه قال:"الملك في قريش"، والبيهقي في سننه (8/ 144)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 192): رجال أحمد رجال ثقات. وصححه الألباني كما في الإرواء (2/ 298) ح (520)، وتخريج السنة لابن أبي عاصم (2/ 517) ح (1120).
(2)
إرشاد الساري (8/ 11)، وانظر: تعليق الألباني على حديث ابن مسعود المتقدم، في السلسلة الصحيحة (4/ 70).
(3)
انظر: عارضة الأحوذي (9/ 53)، والفتح (13/ 78).
قال المهلب في بيان وجه ذكر الحديث تحت هذا الباب: "وجه ذلك أنه إذا قام رجل من قحطان ليس من فخذ النبوة، ولا من رهط الشرف الذين جعل الله فيهم الخلافة، فذلك من أكبر تغير الزمان، وتبديل أحكام الإسلام، أن يَدَّعي الخلافة، وأن يُطاع في الدين من ليس أهلًا لذلك"
(1)
.
وقال ابن حجر معقبًا على كلام المهلب: "وحاصله أنه مطابق لصدر الترجمة وهو تغير الزمان"
(2)
.
وقال القسطلاني: "ومطابقة الحديث للترجمة: من حيث إن سوق القحطاني الناس إنما هو في تغير الزمان، وتبدل أحوال الإسلام، لأن هذا الرجل ليس من قريش الذين فيهم الخلافة، فهو من فتن الزمان وتبدل الأحكام"
(3)
.
* * *
(1)
نقل ذلك عنه ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/ 60)، وانظر: الفتح (13/ 78).
(2)
الفتح (13/ 78).
(3)
إرشاد الساري (15/ 64).