الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
تناول أهل العلم هذا الحديث بالتوضيح والبيان، نافين عنه ما قد يُتَوَهم فيه من معاني فاسدة، ومؤكدين على أن المتكلم به قد بيَّن مراده، وأوضح فيه مقصوده، فأزال ما قد يُتَوَهم فيه من الإشكال، ودفع عنه ما قد يقع فيه من الاشتباه.
وإليك بعض أقوالهم في ذلك:
قال أبو يعلى رحمه الله تعالى: "اعلم أن هذا الخبر قد اقترن به تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في بعضه، فوجب الرجوع إلى تفسيره، وذلك أن فسر قوله: مرضت واستطعمت واستسقيت، على أنه إشارة إلى مرض وليه واستسقائه واستطعامه، وأضاف ذلك إلى نفسه إكرامًا لوليه ورفعة لقدره، وهذه طريقة معتادة في الخطاب، يخبر السيد عن نفسه، ويريد عبده، إكرامًا له وتعظيمًا"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولا سمع، إلا من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الخالق سبحانه وتعالى، ومن قال هذا فقد كذب على الحديث، ومن قال: إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب، فإن الحديث قد فسره المتكلم به وبَيَّنَ مراده بيانًا زالت به كل شبهة، وبين فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العواد، وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يُعد"
(2)
.
(1)
إبطال التأويلات (1/ 224).
(2)
درء التعارض (1/ 150)، وانظر:(5/ 236)، والتدمرية (73).
وقال الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله تعالى-: "السلف أخذوا بهذا الحديث، ولم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم، وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به، فقوله تعالى: (مرضت، واستطعمتك، واستسقيتك) بينه الله تعالى بنفسه، حيث قال: (أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، وأنه استطعمك عبدي فلان، واستسقاك عبدي فلان؟ ) وهو صريح في أن المراد به، مرض عبد من عباد الله، واستطعام عبد من عباد الله، واستسقاء عبد من عباد الله، والذي فسره بذلك هو المتكلم به، وهو أعلم بمراده، فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستطعام المضاف إليه، والاستسقاء المضاف إليه، بمرض العبد واستطعامه واستسقاءه، لم يكن في ذلك صرف للكلام عن ظاهره، لأن ذلك تفسير المتكلم به، فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداءً"
(1)
.
وقد أضاف الله تعالى مرض عبده واستطعامه واستسقائه إلى نفسه، للترغيب والحث، كقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]
(2)
.
وذهب ابن تيمية -ومثله أبو يعلى كما تقدم- إلى أن هذه الإضافة إنما هي لكون العبد المذكور في الحديث، يراد به الولي الذي تتفق إرادته مع ما يريده الله تعالى، فلا يريد إلا ما يريده الله، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يأمر إلا بما يأمر به الله، ولا ينهى إلا عما ينهى عنه الله.
فهذا الجنس من الناس هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولهذا قال تعالى فيه:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]،
(1)
القواعد المثلى (76).
(2)
انظر: القواعد المثلى (76).
وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه} [التوبة: 62]، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]
(1)
.
وأما استدلال أهل الحلول والاتحاد بهذا الحديث على مذهبهم الفاسد، فلا شك أنه استدلال باطل، لا يقره شرع ولا عقل، بل إن هذا الحديث قد تضمن الرد عليهم، لأن الله تعالى يقول:(أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ )، ويقول:(أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ )
(2)
.
فلو كان الله تعالى عين المريض والجائع لقال في الأولى: لوجدتني إياه، ولقال في الثانية: لوجدتني أكلته
(3)
.
كما أن الحديث قد فرق وميَّز بين العابد والمعبود، والرب والمربوب، وهذا نقض صريح لعقيدة الحلول والاتحاد
(4)
.
وقد اتفقت كلمة المسلمين قاطبةً -فضلًا عن علمائهم- على بطلان عقيدة الحلول والاتحاد، وأنها كفر صريح، يجب تنزيه الله تعالى عنها، فالرب رب، والعبد عبد، وليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 392، 462)، و (6/ 28)، و (11/ 76)، والجواب الصحيح (3/ 393).
(2)
قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 429): "تأمل قوله في الإطعام والإسقاء: (لوجدت ذلك عندي)، وقوله في العيادة: (لوجدتني عنده)، ولم يقل لوجدت ذلك عندي، إيذانًا بقربه من المريض، وأنه عنده لذله وخضوعه وانكسار قلبه، وافتقاره إلى ربه، فأوجب ذلك وجود الله عنده، هذا وهو فوق سمواته مستو على عرشه، بائن من خلقه، وهو عند عبده"[وانظر: مدارج السالكين (1/ 324)، وشفاء العليل (2/ 221)، ومجموع الفتاوى (2/ 392)، وبيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 285 - 299)].
(3)
انظر: الاستغاثة في الرد على البكري (1/ 214)، والجواب الصحيح (3/ 334)، ومجموع الفتاوى (2/ 462، 392).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 391)، و (11/ 76).
مخلوقاته شيء من ذاته
(1)
.
وهذا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أظهر من أن يشار إليه أو ينص عليه.
قال ابن تيمية مبينًا أن التعبير بالشيء مع إرادة غيره، موجود في كلام الشارع، وكلام غيره، وأنه تعبير صحيح إذا ظهر المعنى وعرف المراد كما في هذا الحديث، قال: "ينبغي أن يُعْرَف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين في عامة الطوائف، مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.
بل أبلغ من ذلك، يطلق لفظ الحلول والاتحاد ويراد به معنى صحيح، كما يقال: فلان وفلان بينهما اتحاد، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان ويواليان ويعاديان، فلمّا اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال: هما متحدان وبينهما اتحاد، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر كاتحاد النار والحديد، والماء واللبن، أو النفس والبدن
…
وأيضًا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارةً، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارةً"
(2)
.
* * *
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (11/ 74)، و (2/ 475 - 475، 477، 481).
(2)
الجواب الصحيح (3/ 343).