الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولي: في معنى الإحصاء الوارد في الحديث:
إحصاء أسماء الله تعالى الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي فقد أحصى جميع العلوم، لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها
(1)
.
ولذلك فقد رتب الله تعالى على إحصائها أفضل الثواب وأعظم الجزاء، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(إن لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة)، متفق عليه.
وقد قيل في معنى الإحصاء الوارد في الحديث عدة أقوال، أشهرها أربعة
(2)
؛ وهي كالتالي:
القول الأول: أن المراد به العد، أي: أن يعدها حتى يستوفيها حفظًا فيدعو ربه بها، ومنه قوله تعالى:{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28].
وإلى هذا ذهب ابن الجوزي
(3)
، والشوكاني
(4)
، واستظهره الخطابي
(5)
، والنووي
(6)
، وذكر أنه قول الأكثرين
(7)
.
ونسبه بعضهم للبخاري، لأنه قال بعد روايته للحديث:"أحصيناه: حفظناه"
(8)
.
(1)
انظر: بدائع الفوائد (135).
(2)
انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (22 - 24)، وشأن الدعاء (26 - 29)، وغريب الحديث (1/ 730 - 731)، وأعلام الحديث (2/ 1342 - 1343) ثلاثتها للخطابي، وشرح السنة للبغوي (5/ 31)، وشرح صحيح مسلم للنووي (17/ 8)، وفتح الباري (11/ 252 - 226).
(3)
انظر: فتح الباري (11/ 26).
(4)
انظر: تحفة الذاكرين (53).
(5)
انظر: شأن الدعاء (26).
(6)
انظر: شرح صحيح مسلم (17/ 8).
(7)
انظر: الأذكار (151).
(8)
صحيح البخاري (6/ 2691)، وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (17/ 8)، وفتح =
ودليل هؤلاء أنه جاء في بعض طرق الحديث -كما عند مسلم-: (من حفظها) بدل (من أحصاها)، وعند البخاري:(لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة).
قال ابن الجوزي: "لما ثبت في بعض طرق الحديث (من حفظها) بدل (أحصاها) اخترنا أن المراد العدُّ، أي: من عدها ليستوفيها حفظًا"
(1)
.
لكن هذا القول تعقبه بعض العلماء مبينين أن الإحصاء ليس مجرد العد فقط.
قال الأصيلي
(2)
: "ليس المراد بالإحصاء عدها فقط، لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها"
(3)
.
وقال أبو نُعيم
(4)
: "الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد،
= الباري (11/ 226) ففيهما نسبة هذا القول للبخاري رحمه الله، لكن تعقب هذه النسبة الشيخ عبد الله الغنيمان فقال:"ربما فهم من صنيع البخاري أنه يرى أن إحصاءها هو حفظ ألفاظها، كما فهم ذلك الحافظ ابن حجر، وعندي فيه نظر، وذلك أن عادة البخاري التي سار عليها في كتابه هذا، أنه إذا جاء لفظ في الحديث، وفي القرآن لفظ يوافقه في اللفظ والاشتقاق، أنه يذكره وإن كان لا يوافقه في المعنى، وأمثلة ذلك كثيرة، فهو في قوله: "أحصيناه: حفظناه" يشير إلى قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} "[شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 220 - 221)].
(1)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (11/ 226).
(2)
هو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، نسبة إلى مدينة أصيلة في المغرب، من الأئمة الأعلام، وأحد شيوخ المالكية، له كتاب الدلائل على أمهات المسائل، في الفقه، توفي رحمه الله سنة (392). [انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (7/ 135)، ومعجم البلدان (1/ 251)، والأعلام (4/ 63)].
(3)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (11/ 226)، وانظر:(13/ 378).
(4)
هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق، الإمام الحافظ المشهور، صاحب كتاب حلية الأولياء، من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ، له مصنفات كبيرة مشهورة، كدلائل النبوة، وتاريخ أصبهان، وفضائل الصحابة وغيرها، توفى رحمه الله سنة ثلاثين وأربعمائة (430). =
وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها"
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجر معقبًا على كلام ابن الجوزي: "فيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ: (حفظها) تعيُّن السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل الحفظ المعنوي"
(2)
.
القول الثاني: أن المراد بالإحصاء: الإطاقة كقوله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] أي: لن تطيقوه، ويكون معنى الحديث: من أطاقها وذلك بالمحافظة على حدودها، والقيام بحقها، والعمل بمقتضاها، فإذا قال: السميع البصير، علم أنه لا يخفى على الله خافية، وأنه بمرأى منه ومسمع، فيخافه في سره وعلنه، ويراقبه في كافة أحواله، وإذا قال: الرزاق، اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته، فيثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له غيره، وهكذا بقية الأسماء.
القول الثالث: أن المراد بالإحصاء: العقل والمعرفة، مأخوذ من الحصاة وهي العقل، قال طرفة
(3)
:
وإن لسان المرء ما لم تكن له
…
حصاة على عوراته لدليل
(4)
= [انظر: وفيات الأعيان (1/ 110)، والسير (17/ 453)، والعبر (2/ 262)، وشذرات الذهب (3/ 245)].
(1)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (11/ 226).
(2)
الفتح (11/ 226).
(3)
هو أبو عمرو طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي، شاعر جاهلي، وأحد أصحاب المعلقات السبع المشهورة، كان أحدث الشعراء سنًا وأقلهم عمرًا، حيث قتل وهو ابن عشرين سنة، وقيل ست وعشرين، توفي في حدود سنة ستين قبل الهجرة. [انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (103)، والأعلام (3/ 225)، وشرح المعلقات العشر (67)].
(4)
ديوان طرفة بن العبد (81) من قصيدة له مطلعها:
لِهندٍ بحزان الشريف طلول ..... تلوح وأدنى عهدهن محيل
والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي ذو عقل ومعرفة بالأمور.
ويكون معنى الحديث: من عرفها وعقل معانيها، مؤمنًا بها دخل الجنة.
قال الزجاج
(1)
: "ويجوز أن يكون معناه: من عقلها، وتدبر معانيها، من الحصاة التي هي العقل"
(2)
.
القول الرابع: أن المراد بالإحصاء: أن يقرأ القرآن كاملًا حتى يختمه، فيكون بذلك قد استوفى هذه الأسماء كلها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة، وإلى نحو من هذا ذهب أبو عبد الله الزبيري
(3)
.
ويلاحظ على هذا القول أنه أغفل الأسماء الحسنى الواردة في الأحاديث النبوية، الزائدة على القرآن
(4)
.
هذه هي أشهر الأقوال في معنى الإحصاء الوارد في الحديث، وكل
(1)
هو الإمام النحوي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السَّري الزجاج البغدادي، لزم المبرد وتعلم على يديه، له مصنفات حسان في الأدب، وكان من ندماء المعتضد، توفي رحمه الله سنة (311 هـ)، وقيل سنة (316 هـ) ببغداد، وله مؤلفات عديدة منها: معاني القرآن، والنوادر، والعروض، وتفسير أسماء الله الحسنى. [انظر: تاريخ بغداد (6/ 87)، ووفيات الأعيان (1/ 74)، والسير (14/ 360)، والعبر (1/ 461)].
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (24).
(3)
هو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، علامة إمام صدوق، من نبلاء الرجال وأفرادهم، وكان نسَّابة أخباريًا فصيحًا، تكلم عليه بعضهم لأجل وقفه في مسألة القرآن، توفي رحمه الله سنة ست وثلاثين ومائتين (236). [انظر: تاريخ بغداد (13/ 113)، والسير (11/ 30)، والعبر (1/ 332)، وتقريب التهذيب (2/ 186)].
(4)
انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد الحمود النجدي (1/ 55).
واحد منها له ما يؤيده، سوى القول الرابع، ولذلك ضعفه النووي
(1)
رحمه الله تعالى.
والذي يظهر-والله تعالى أعلم- أن الإحصاء يكون بمجموع الأقوال الثلاثة الأولى فيكون:
1 -
بالعدِّ والحفظ.
2 -
والعقل والمعرفة.
3 -
والإطاقة، بالتفسير المتقدم.
ولا تنافي بينها، بل كل واحد منها مكمل للاخر، فيكون المعنى: من عدها وأحاط بها لفظًا وفهم معانيها ودعا الله بها وتعبده بمقتضاها دخل الجنة.
قال السعدي
(2)
رحمه الله، في معنى (أحصاها):"أي: من حفظها وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبد الله بها، دخل الجنة"
(3)
.
يؤيد ذلك أن هذه المعاني الثلاثة للإحصاء قد جاءت بها اللغة، كما تقدم
(4)
، فمن قال: بأحدها دون البقية فقد فسر الإحصاء ببعض معناه والله أعلم.
(1)
انظر: شرح صحيح مسلم (17/ 8).
(2)
هو العلامة الفقيه المفسر عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر آل سعدي ولد ونشأ في بلدة عنيزة من محافظات القصيم، واشتغل بالعلم حتى فاق الأقران، ولما تقدم به الطلب خرج عن مألوف بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد وكتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، توفي رحمه الله سنة (1376 هـ) له مؤلفات عدة منها: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن، والقواعد الحسان، والقول السديد في شرح كتاب التوحيد. [انظر: علماء نجد (3/ 218)، والأعلام (3/ 340)].
(3)
التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، مطبوع ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السعدي (3/ 108).
(4)
وانظر للاستزادة: تهذيب اللغة للأزهري (5/ 107) مادة: (حصا)، ومعجم مقاييس اللغة (2/ 69) مادة (حصوى)، ولسان العرب (14/ 183 - 184) مادة (حصي).
والقول: بهذا لا ينافي رواية: (من حفظها)؛ لأن الحفظ ليس مجرد عدها وسردها عن ظهر قلب، بل يتعدى ذلك ليشمل فهمها والعمل بمقتضاها، ومن ذلك قوله تعالى:{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]، فإن معناه: المؤدُّون فرائض الله، والقائمون على طاعته
(1)
.
قال ابن بطال
(2)
رحمه الله تعالى: "الإحصاء يقع بالقول ويقع بالعمل:
فالذي بالعمل: أن لله أسماءً يختص بها كالأحد والمتعال والقدير ونحوها، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها، كالرحيم والكريم والعفو ونحوها، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها، فبهذا يحصل الإحصاء العملي.
وأما الإحصاء القولي: فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها، ولو شارك المؤمنَ غيرُه في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها"
(3)
.
وقال ابن عطية
(4)
: "معنى أحصاها: عدها وحفظها، وتضمن ذلك
(1)
انظر: تفسير الطبري (جامع البيان)(6/ 486)، وتفسير ابن كثير (2/ 609).
(2)
هو العلامة أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي ثم البَلَنْسي، كان من أهل العلم والمعرفة والعناية بالحديث، توفي رحمه الله سنة (449 هـ) له من المصنفات: شرح صحيح البخاري، ينقل منه ابن حجر في الفتح كثيرًا، وقد طبع مؤخرًا في عشر مجلدات. [انظر: السير (18/ 47)، والعبر (2/ 294)، وشذرات الذهب (3/ 283).
(3)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (13/ 378).
(4)
هو الإمام العلامة شيخ المفسرين أبو محمد عبد الحق بن الحافظ أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، كان إمامًا في الفقه والتفسير وفي العربية ذكيًا فطنًا مدركًا، ولي قضاء المرية وتوفي رحمه الله سنة (541 هـ)، وقيل سنة (542 هـ) له مؤلفات أشهرها: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. [انظر: السير (19/ 587)، ونفح الطيب للمقري التلمساني (1/ 679)، وطبقات المفسرين للسيوطي (50)، ومعجم المؤلفين (2/ 59)، والأعلام (3/ 282)].