المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناقشة أدلة النافين لحقيقة السحر، وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم به: - أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة

[سليمان بن محمد الدبيخي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: تعريف المشكل وبيان الفرق بينه وبين المختلف

- ‌أولًا: تعريف المشكل في اللغة والاصطلاح:

- ‌أ -المشكل في اللغة:

- ‌ب - مشكل الحديث في اصطلاح المحدثين

- ‌ثانيًا: تعريف مختلف الحديث في اللغة والاصطلاح:

- ‌أ- فالمختلف في اللغة:

- ‌ب - مختلف الحديث اصطلاحًا:

- ‌ثالثًا: الفرق بين مشكل الحديث ومختلف الحديث:

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأشهر المؤلفات في مشكل الحديث

- ‌1 - كتاب (اختلاف الحديث) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

- ‌2 - كتاب (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة رحمه الله تعالى:

- ‌3 - كتاب (مشكل الآثار)(5)للطحاوي رحمه الله تعالى:

- ‌4 - تأويل الأحاديث المشكلة(3)لأبي الحسن الطبري

- ‌5).5 -كتاب (مشكل الحديث وبيانه) لابن فورك(6)رحمه الله تعالى:

- ‌6 - كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي

- ‌المبحث الثالث: ظواهر الكتاب والسنة كلها حق

- ‌المبحث الرابع: العمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه

- ‌فأولًا: معنى المحكم والمتشابه في اللغة وفي الاصطلاح:

- ‌المحكم في اللغة:

- ‌وأما المتشابه في اللغة:

- ‌ثانيًا: علاقة المشكل بالمتشابه:

- ‌ثالثًا: عمل السلف بهذه القاعدة:

- ‌رابعًا: الوضوح والإشكال في النصوص من الأمور النسبية:

- ‌خامسًا: هل صفات الله تعالى من قبيل المتشابه

- ‌سادسًا: أسباب استشكال النصوص، أو الاشتباه فيها:

- ‌المبحث الخامس: ترجمة موجزة للبخاري ومسلم عليهما رحمة الله

- ‌أولًا: الإمام البخاري رحمه الله تعالى:

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌ثانيًا: الإمام مسلم رحمه الله تعالى

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌المبحث السادس: مكانة الصحيحين عند الأمة

- ‌مآخذ بعض أهل العلم على هذين الكتابين:

- ‌الباب الأول: الأحاديث المتوهم إشكالها في باب الإيمان بالله تعالى

- ‌الفصل الأول: الأحاديث المتوهم إشكالها في الأسماء والصفات

- ‌التمهيدبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: (خلق الله آدم على صورته)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌الخلاصة:

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌وبيان فساده من وجوه:

- ‌المطلب الرابع: في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون)

- ‌المبحث الثاني: (وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الثالث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المسألة الأولي: في معنى الإحصاء الوارد في الحديث:

- ‌المسألة الثانية: هل يمكن معرفة الأسماء الحسنى، التسعة والتسعين علي وجه التعيين

- ‌الخلاصة:

- ‌المبحث الرابع: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الخامس: (مرضت فلم تعدني)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المبحث السادس: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌والفرق بين الصبر والحلم:

- ‌المبحث السابع: (ما ترددت عن شيء أنا فاعله

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم فى هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مسألة: في بيان معنى قوله في الحديث السابق: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)

- ‌المبحث الثامن: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث التاسع: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث العاشر: (الرحم شجنة من الرحمن)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المبحث الحادي عشر: (فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌الفصل الثانى: الأحاديث المتوهم إشكالها في القدر

- ‌المبحث الأول: (حج آدم موسى)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌المبحث الثاني: (خلق الله التربة يوم السبت)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌الخلاصة:

- ‌المبحث الثالث: (لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌الباب الثاني: الأحاديث المتوهم إشكالها في باب النبوة

- ‌المبحث الأول: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم فى هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌المبحث الثاني: ما جاء في سحر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌ومن أدلة السنة على حقيقة السحر وأثره:

- ‌مناقشة أدلة النافين لحقيقة السحر، وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم به:

- ‌المبحث الثالث: ما جاء في إرسال الشهب على الشياطين

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌المبحث الرابع: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) مع قول أبي هريرة: (أوصاني خليلي بثلاث)

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الخامس: حديث شريك في الإسراء

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌الخلاصة:

- ‌المبحث السادس: لطم موسى عليه السلام لملك الموت

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌المبحث السابع: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي) مع قوله: (لا يزال هذا الأمر في قريش

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم فى هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌الباب الثالث: الأحاديث المتوهم إشكالها في أشراط الساعة والمعاد

- ‌الفصل الأول: الأحاديث المتوهم إشكالها في أشراط الساعة

- ‌المبحث الأول: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين. . .)، مع قوله: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الثاني: (إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الثالث: ما جاء في طواف الدجال بالبيت، مع ما ورد من أنه لا يدخل مكة ولا المدينة

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الرابع: (لا تقوم الساعة حتى. . . يتقارب الزمان)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المبحث الخامس: (إذا ولدت الأمة ربها)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌الفصل الثاني: الأحايث المتوهم إشكالها في المعاد

- ‌المبحث الأول: أحاديث الميزان، في ما الذي يوزن

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها و‌‌بيان وجه الاشكال

- ‌بيان وجه الاشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌إشكال وجوابه:

- ‌المبحث الثاني: (إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصوَّرون)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌مناقشة الأقوال المرجوحة:

- ‌المبحث الثالث: (طوبى له عصفور من عصافير الجنة)

- ‌المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌واستدل الجمهور على هذا القول بأدلة كثيرة، منها:

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الرابع: (وإن ناسًا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث الخامس: شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها و‌‌بيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌المبحث السادس: ما جاء في سماع الأموات

- ‌المطلب الأول: سياق الأحاديث المتوهم إشكالها وبيان وجه الإشكال

- ‌بيان وجه الإشكال

- ‌المطلب الثانى: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال

- ‌المطلب الثالث: الترجيح

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس‌‌ المصادر والمراجع

- ‌ ا

- ‌ب

- ‌ت

- ‌ج

- ‌ث

- ‌ ح

- ‌ د

- ‌ر

- ‌ ذ

- ‌س

- ‌ز

- ‌ش

- ‌ ص

- ‌ ض

- ‌ع

- ‌ط

- ‌ظ

- ‌غ

- ‌ف

- ‌ق

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌ن

- ‌هـ

- ‌ؤ

الفصل: ‌مناقشة أدلة النافين لحقيقة السحر، وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم به:

وأما ما ذهب إليه المنكرون لحقيقة السحر وأثره، فباطل ظاهر البطلان، والأدلة المتقدمة على إثبات السحر وحقيقته حجة عليهم، وداحضة لقولهم، وأما ما استدلوا به فلا يعدو أن يكون شبهًا يمكن مناقشتها والإجابة عنها، كما سيأتي.

ويحسن التنبيه هنا إلى أن نفي هؤلاء لحقيقة السحر وأثره، لا يعني إنكارهم لأصل السحر ووجوده مطلقًا، لأنه قد تردد ذكره كثيرًا في الكتاب والسنة، وتواطأت على ذكره الأمم في كل زمان ومكان، فلا يمكن لأحد أن ينكره مطلقًا إلا أن يكون مكابرًا، ولذا قال ابن حجر:"نقل الخطابي أن قومًا أنكروا السحر مطلقًا، وكأنه عنى القائلين: بأنه تخييل فقط، وإلا فهي مكابرة"

(1)

.

وقال ابن قتيبة ردًا على من نفى حقيقة السحر، وزعم أنه مجرد تخييل:"نحن نقول: إن الذي يذهب إلى هذا مخالف للمسلمين واليهود والنصارى، وجميع أهل الكتب، ومخالف للأمم كلها: الهند، وهي أشدها إيمانًا بالرقى، والروم، والعرب في الجاهلية وفي الإسلام، ومخالف للقرآن، معاند له بغير تأويل"

(2)

.

وبهذا يتبين أن الخلاف مع هؤلاء منصب على إنكارهم لحقيقة السحر وأثره، وزعمهم أنه لا يكون إلا تخييلًا، أو أنه لا يؤثر إلا إذا كان مباشرًا للبدن، وعليه أنكروا تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر، واستدلوا بأدلة في ما يلي مناقشتها:

‌مناقشة أدلة النافين لحقيقة السحر، وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم به:

1 -

أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} على أن السحر ليس له تأثير في نفسه، لأن الله نفى حصول

(1)

الفتح (10/ 222)، وانظر: السحر بين الحقيقة والخيال (45) هامش (1).

(2)

تأويل مختلف الحديث (167)، وانظر: أعلام الحديث للخطابي (2/ 1500).

ص: 444

الضرر إلا بإذنه، فاستدلال مردود، لأن المراد بالإذن هنا الإذن الكوني القدري، فالسحر لا يتحقق ضرره إلا بإرادة الله الكونية، فلا يمكن أن يستقل هو بالفعل، إذ لا يستقل بذلك إلا الرب سبحانه وتعالى، وليس هذا خاصًا بالسحر، بل كل ما يجري في هذا الكون فإنه مربوط بإرادة الله الكونية، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد، وإلا كان خارجًا عن حكمه وملكه، فالاستثناء في الآية ليس فيه ما يدل على نفي حقيقة السحر وأثره، بل فيه ما يدل على عكس ذلك، وهو إثبات حقيقة السحر وأثره، كما تقدم.

قال الرازي: "الاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه"

(1)

.

وقال الشوكاني: "الحق أنه لا تنافي بين قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، وبين قوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرًا في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضررًا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه"

(2)

.

وأما قولهم: إن السحر لا يحصل ضرره إلا بإيصال أشياء ضارة بطبعها، ومباشَرَةِ بدن المسحور بها، فقول باطل، فإن "قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرًا، كما يقوله هؤلاء، لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يُستعاذ منه"

(3)

.

قال القرافي: "السحر له حقيقة، وقد يموت المسحور، أو يتغير طبعه وعادته، وإن لم يباشره"

(4)

.

2 -

وأما استدلالهم -على أن السحر مجرد تخييل لا حقيقة له- بقوله

(1)

التفسير الكبير (3/ 213)، وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 216)، والسحر بين الحقيقة والخيال (61 - 62).

(2)

فتح القدير (1/ 121).

(3)

بدائع الفوائد (2/ 365 - 366).

(4)

الفروق (4/ 149).

ص: 445

تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وغيرها من الآيات، وكذا ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين سُحر، من كونه يُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، فالجواب عنه أن يُقال: غاية ما في هذه الأدلة أن السحر منه ما هو تخييل، وهذا حق لا خلاف فيه، إذ التخييل من جملة السحر، لكن ليس فيها أن السحر لا يكون إلا تخييلًا، ثم إن هذا التخييل الناتج عن السحر دليل على حقيقة السحر وأثره، إذ لو لم يكن له تأثير لم يحصل التخييل، فالتخييل نتيجةٌ لتأثير السحر.

قال الشنقيطي: التحقيق الذي عليه جماهير العلماء أن السحر منه ما هو حقيقة لا مطلق تخييل، ومنه ما هو تخييل لا حقيقة له

(1)

.

وبناءً على هذا، يكون أمر الخلاف مع من أقر بوقوع التخييل للنبي صلى الله عليه وسلم -نتيجة السحر- لفظيًا، إذ الجميع متفقون على أن ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السحر، إنما هو مجرد تخييل، كما هو نص الحديث، ويبقى الخلاف معه فيما سوى التخييل مما هو من أعراض السحر وآثاره.

وقد تكلم ابن القيم حول هذا الاستدلال بكلام نفيس، أسوقه بطوله لأهميته:

قال رحمه الله: "إذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم، حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغيُّر في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم، وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية، والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن، فإذا غيَّر إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركًا، والمتصل منفصلًا، والميت حيًا، فما المحيل لأن يُغير صفات نفسه، حتى يجعل المحبوب إليه بغيضًا، والبغيض محبوبًا، وغير ذلك من

(1)

انظر: أضواء البيان (4/ 474، 494)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 46)، وتحقيق التجريد في شرح كتاب التوحيد للعجيلي (2/ 269).

ص: 446

التأثيرات، وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، فبين سبحانه أن أعينهم سُحرت، وذلك: إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي، وهو الحبال والعصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حرَّكتها وهي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها، وهذا كما إذا جَرَّ مَن لا يراه: حصيرًا أو بساطًا، فترى الحصير والبساط ينجرُّ ولا ترى الجارَّ له، مع أنه هو الذي يجره، فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلَّبتها كتقلُّب الحية، فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها.

وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي، حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها، ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا، فتارة يتصرف في نفس الرائي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به، وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها"

(1)

.

3 -

وأما قولهم: إن إثبات أثر السحر وحقيقته يتعذر معه التمييز بينه وبين المعجزة، والساحر والنبي، فالجواب عنه: أن هذا غير مسلم، فلا يمكن أن يلتبس أمر السحر بأمر النبوة على أحد، إذ الفرق بين النبي والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار، فالنبي يأتيه ملك كريم من عند الله، يخبره عن الله، والساحر إنما معه شيطان يأمره ويخبره، فلا الخبر كالخبر، ولا الأمر كالأمر، ولا مُخبِر هذا كمُخبِر هذا، كما أنه ليس هذا مثل هذا

(2)

.

قال ابن تيمية: "الفرقان بينهما أعظم، كالفرق بين الملائكة والشياطين، وأهل الجنة وأهل النار، وخيار الناس وشرارهم، وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل.

(1)

بدائع الفوائد (2/ 366).

(2)

انظر: النبوات لابن تيمية (2/ 704)، و (1/ 152)، ومما ينبغي التأكيد عليه أن موت النبي صلى الله عليه وسلم قاطع لكل التباس، لأن النبوة قد ختمت به.

ص: 447

والكفار قالوا عن الأنبياء: إنهم مجانين وسحرة، فكما يعلم بضرورة العقل وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين، وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون، فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة، وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر"

(1)

.

ومن الفروق الواضحة بين آيات الأنبياء وبين ما يأتي به السحرة: أن جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الخلق من الإنس والجن وسائر الحيوانات، كما في نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الطعام القليل يصير كثيرًا، وغير ذلك.

أما ما يأتي به السحرة فهو لا يخرج عن مقدور الإنس والجن، كالطيران في الهواء، فإنه مقدور للجن، وكذا كون الساحر يقتل بسحره ويُمرض، ويفرق بين المرء وزوجه، كل ذلك مقدور للإنس والجن.

قال ابن تيمية: "الساحر قد يقدر على أن يقتل إنسانًا بالسحر، أو يمرضه، أو يفسد عقله أو حسه وحركته وكلامه، بحيث لا يجامع، أو لا يمشي، أو لا يتكلم، ونحو ذلك، وهذا كله مما يقدر الإنسان على مثله، لكن بطرق أخرى، والجن يطيرون في الهواء وعلى الماء، ويحملون الأجسام الثقيلة، كما قال العفريت لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39]، وهذا الجنس يكون لمن هو دون الإنس والجن من الحيوان، كالطيور والحيتان، والإنس يقدر على جنسه، ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبي، لوجوده لغير الأنبياء، فكثير من الناس تحمله الجن، بل شياطين الجن، وتطير به في الهواء، وتذهب به إلى مكان بعيد، كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن إلى مكان بعيد"

(2)

.

ومن الفروق أيضًا: أن معجزات الأنبياء لا يمكن لأحد أن يُعارضها

(1)

النبوات (2/ 1049)، وانظر:(2/ 665).

(2)

النبوات (1/ 523 - 524)، وانظر:(1/ 144، 192)، و (2/ 992، 995).

ص: 448

بمثلها، أو يبطلها، كما قال تعالى عن القرآن:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، ولما طلب فرعون معارضة ما جاء به موسى عليه السلام -بعد ادعائه أنه ساحر- وجمع السحرة لهذا الأمر، أبطل الله كيده، وأبان عجزه، وعجز سحرته عن ذلك، بل إن السحرة لعلمهم بالسحر، تيقنوا أن ما جاء به موسى لا يمكن أن يكون سحرًا، فآمنوا إيمانًا جازمًا.

وهذا بخلاف خوارق السحرة، فإنه يمكن أن تُعارض بمثلها، وبأقوى منها

(1)

.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية، كلام نفيس في هذا الباب، ذكر فيه الفروق بين الأنبياء وما يأتون به من الآيات، وبين السحرة والكهان، وما يأتون به من الخوارق وغيرها، فقال رحمه الله:

"الأول -أي: من الفروق-: أن النبي صادق فيما يخبر به عن الكتب، لا يكذب قط، ومَن خالفهم من السحرة والكهان لا بُدَّ أن يكذب، كما قال:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222].

الثاني: من جهة ما يأمر به هذا ويفعله، ومن جهة ما يأمر به هذا ويفعله، فإن الأنبياء لا يأمرون إلا بالعدل، وطلب الآخرة، وعبادة الله وحده، وأعمالهم: البر والتقوى، ومخالفوهم: يأمرون بالشرك والظلم، ويعظمون الدنيا، وفي أعمالهم الإثم والعدوان.

الثالث: أن السحر والكهانة ونحوهما أمور معتادة، معروفة لأصحابها، ليست خارقة لعادتهم، وآيات الأنبياء لا تكون إلا لهم ولمن اتبعهم

(2)

.

(1)

انظر: النبوات (1/ 169، 193، 195) و (2/ 1081 - 1082)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 47).

(2)

أي لا تكون معتادة إلا لهم ولمن اتبعهم، قال ابن تيمية في موضع آخر: "وآيات =

ص: 449

الرابع: أن الكهانة والسحر، يناله الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه، وهذا مجرب عند الناس، بخلاف النبوة فإنه لا ينالها أحد باكتسابه.

الخامس: أن النبوة لو قدر أنها تنال بالكسب، فإنما تنال بالأعمال الصالحة، والصدق والعدل والتوحيد، لا تحصل مع الكذب على من دون الله، فضلًا عن أن تحصل مع الكذب على الله، فالطريق الذي تحصل به، لو حصلت بالكسب، مستلزم للصدق على الله فيما يخبر به.

السادس: أن ما يأتي به الكهان والسحرة، لا يخرج عن كونه مقدورًا للجن والإنس، وهم مأمورون بطاعة الرسل، وآيات الرسل لا يقدر عليها لا جن ولا إنس، بل هي خارقة لعادة كل من أرسل النبي إليه {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88].

السابع: أن هذه يمكن أن تعارض بمثلها، وآيات الأنبياء لا يمكن أحدًا أن يعارضها بمثلها.

الثامن: أن تلك ليست خارقة لعادات بني آدم، بل كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الأنبياء، وأما آيات الأنبياء فليست معتادة لغير الصادقين على الله ولمن صدقهم.

التاسع: أن هذه لا يقدر عليها مخلوق، لا الملائكة ولا غيرهم، كإنزال القرآن، وتكليم موسى، وتلك تقدر عليها الجن والشياطين.

العاشر: أنه إذا كان من الآيات ما يقدر عليه الملائكة، فإن الملائكة

= الأنبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله، ويصدقون من صدق على الله، وهم الذين جاؤوا بالصدق وصدقوا، وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله، أو يكذب بالحق لما جاءه، فتلك آيات على كذب أصحابها، وآيات الأنبياء آيات على صدق أصحابها" [النبوات (2/ 1083)، وانظر: (2/ 1075)].

ص: 450

لا تكذب على الله، ولا تقول لبشر: إن الله أرسلك، ولم يرسله، وإنما يفعل ذلك الشياطين"

(1)

.

4 -

وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، حيث قالوا: إن تجويز السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق قول هؤلاء المشركين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسحور، فالجواب عنه: أن قصة السحر وقعت في المدينة، وهذه الآية مكية، وليس مراد الآية ما جاء في الحديث، فمن المعلوم يقينًا أن المشركين لا يريدون بقولهم هذا إثبات ما أثبته الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر وقتًا ما، وناله بعض التغير، ثم أدركه الله تعالى بالشفاء، وحفظ وحيه ودينه من أن يصل إليه شيء من ذلك التغير، وإنما يُريدون شيئًا آخر، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختلط عليه عقله، والتبس عليه أمره، فما يدعيه من أمر النبوة والوحي كله ناشئ عن السحر، وصادر عن الجنون، ولذلك قالوا عنه:{مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14]، وأرادوا بهذا الادعاء: تنفير الناس عنه، وعن تصديقه واتباعه.

وعلى هذا فمن آمن بما دلَّ عليه الحديث، لا يلزم البتة أن يكون مصدقًا للمشركين ما حكى الله عنهم في الآية، لأن ما دلَّ عليه الحديث ليس هو ما عناه المشركون في الآية

(2)

.

5 -

وأما قولهم: إن لحوق ضرر السحر بالنبي صلى الله عليه وسلم مناف لعصمته، وطعن في نبوته، ومزيل للثقة بما جاء به، فالجواب عنه: أن الإجماع منعقد على عصمته صلى الله عليه وسلم -وسائر الأنبياء- فيما يبلغ عن الله تعالى.

قال القاضي عياض: "أجمعت الأمة، فيما كان طريقه البلاغ، أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدًا وعمدًا،

(1)

النبوات (1/ 558 - 559)، وانظر:(2/ 1074 - 1095).

(2)

انظر: التفسير الكبير (32/ 188)، وبدائع الفوائد (2/ 364 - 365)، والأنوار الكاشفة للمعلمي (252)، وأضواء البيان (4/ 506، 508، 510 - 511)، وظلمات أبي رية لمحمد عبد الرزاق حمزة (269 - 270).

ص: 451

ولا سهوًا أو غلطًا"

(1)

.

وقال ابن تيمية: "الأنبياء صلوات الله عليهم، معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه"، وقال:"والعصمة فيما يبلغونه عن الله، ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين"

(2)

.

وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية، كأنواع الأمراض والآلام، ونحو ذلك، فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر، لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، فليس من العصمة عدم ابتلائهم وتعرضهم للأضرار البدنية، بل هم أشد الناس بلاءً، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم ذلك، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل

)

(3)

.

والسحر الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر عليه إنما كان ضرره جسديًا، وجاء في بعض الروايات تعيين نوع هذا التأثير، وهو كونه يُخيل إليه أنه يأتي النساء، وهو لم يأتِهن

(4)

، فتأثير السحر عليه لا يتجاوز هذه الرواية، مع كونه عليه الصلاة والسلام يتيقن عدم الفعل، ولهذا دعا اللهَ تعالى أن يشفيه مما يجد من هذا الشعور.

(1)

الشفاء (330)، وانظر:(371).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 289، 290)، وانظر:(15/ 147 - 148)، ومنهاج السنة (1/ 470)، و (2/ 396)، والجواب الصحيح (1/ 141)، وأضواء البيان (4/ 510)، وتيسير الكريم الرحمن (6/ 423).

(3)

أخرجه الترمذي (تحفة 7/ 78) ح (2509)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1334) ح (4023)، وأحمد (3/ 1481)، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح"، وقال عنه الألباني، كما في صحيح سنن الترمذي (2/ 286) ح (1956):"حسن صحيح".

(4)

انظر: حديث عائشة رضي الله عنها ص (426 - 427).

ص: 452

قال ابن القيم: "غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يُخيَّل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض، والله أعلم"

(1)

.

وقال المازري: "وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث من طريق ثانية، وزعموا أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، ولعله يتخيل إليه جبريل عليه السلام، وليس ثَمَّ ما يراه، أو أنه أوحي إليه وما أوحي إليه، وهذا الذي قالوه باطل، وذلك أن الدليل قد قام على صدقه فيما يبلغه عن الله سبحانه، وعلى عصمته فيه، والمعجزة شاهدة بصدقه، وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل.

وما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها، ولا كان رسولًا مفضَّلًا من أجلها، هو في كثير منه عرضة لما يعترض البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له"

(2)

.

وقال القاضي عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يجوز عليه من الآفات والتغيرات والآلام والأسقام، وتجرع كأس الحِمام، ما يجوز على البشر، وهذا كله ليس بنقيصة فيه، لأن الشيء إنما يسمى ناقصًا بالإضافة إلى ما هو أتم منه، وأكمل من نوعه، وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار:{فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وخلق جميع البشر بمَدرجةِ الغِيَرَة، فقد مرض عليه السلام واشتكى، وأصابه الحر والقر، وأدركه الجوع والعطش، ولحقه الغضب والضجر، وناله الإعياء والتعب، ومسه الضعف والكِبَر، وسقط فجُحش شقه، وشجه الكفار، وكسروا رباعيته، وسُقي السم، وسُحر، وتداوى عليه السلام، واحتجم، وتنشَّر وتعوَّذ، ثم قضى نحبه

(1)

زاد المعاد (4/ 126)، وانظر: فتح الباري (10/ 227)، والأنوار الكاشفة (249)، وأضواء البيان (4/ 510)، والسحر بين الحقيقة والخيال (145 - 152).

(2)

المعلم (3/ 93).

ص: 453

فتوفي صلى الله عليه وسلم، ولحق بالرفيق الأعلى، وتخلص من دار الامتحان والبلوى، وهذه كلها سِمات البشر التي لا محيص لهم عنها، وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم من ذلك، فقُتِلوا قتلًا، ورموا في النار، ونُشروا بالمناشير، ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات"

(1)

.

6 -

وأما قولهم: إن السحر من عمل الشياطين، وهم لا يتسلطون إلا على من غفل عن الله تعالى، فكيف يتسلطون على رسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم الأمة إيمانًا، وذكرًا لله تعالى؟ فالجواب عنه: أن الأنبياء معصومون من إغواء الشيطان وإضلاله بلا ريب، فهم أول الأمة دخولًا في قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]، فالشيطان لا يتسلط على قلوبهم بالإضلال والإغواء، وإيقاعهم بما يمنعهم من عفو الله تعالى

(2)

، فهذا هو المراد بالآية كما يدل عليه سياقها، فإن الله تعالى قال:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)} [الحجر: 39 - 43]، فالشيطان توعد العباد بالإغواء، واستثنى من ذلك المُخلَصين، فأخبر الله تعالى أنه ليس له عليهم سلطان بذلك، ويدل على ذلك أيضًا: أن الله تعالى وصف أتباع الشيطان الذين تسلط عليهم بالغاوين، وتوعدهم جهنم فقال:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)} [الحجر: 43].

هذا هو المراد بتسلط الشيطان المذكور في الآية، وليس المراد أنهم معصومون من تسلط الشيطان عليهم في أبدانهم وأهليهم وأموالهم، وإلقاء الوساوس عليهم، إذ أنهم معرَّضون لذلك بحكم بشريتهم، كما حصل لآدم وحواء عليهم السلام، حيث تسبب الشيطان بوساوسه في إخراجهما من الجنة، كما

(1)

الشفاء (376).

(2)

انظر: معالم التنزيل (3/ 51)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 28 - 29)، وتيسير الكريم الرحمن (4/ 166).

ص: 454

قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} [الأعراف: 20]، وقال تعالى عن نبيه أيوب:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} [ص: 41].

وهكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إنما تسلط الشيطان -كما في حديث السحر- على جسده لا غير.

قال الشنقيطي عند آية أيوب عليه السلام المتقدمة: "وهذا لا يُنافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب، لأن التسليط على الأهل والمال والجسد، من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية، كالمرض، وذلك يقع للأنبياء، فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة، ولا مانع أن يكون من جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك، للابتلاء"

(1)

.

وقال ابن القيم عن الشيطان: "ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة، وبالغ في الحيلة، حتى أخرج آدم من الجنة

وتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر الكفار على قتله بجهده، والله تعالى يكبته ويرده خاسئًا، وتفلت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به وهو في الصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(ألعنك بلعنة الله)

(2)

، وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته"

(3)

.

(1)

أضواء البيان (4/ 745)، وانظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (160 - 160)، وبهذا يُعلم وهم القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في ادعائه الإجماع على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في جسمه من الأذى، وخاطره من الوساوس، وذهب لأجل هذا يُؤَوِّل النصوص الواردة في ذلك. [انظر: الشفاء (326)، وإكمال المعلم (1/ 505 - 506)].

(2)

أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (5/ 32) ح (542).

(3)

بدائع الفوائد (2/ 390 - 391)، وانظر: تأويل مختلف الحديث (169).

ص: 455