الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
أما الموقف الأول فلا ريب في بطلانه، لأنه مبني على فهم فاسد، وهو كون الحديث يدل على جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، مع أن الإجماع منعقد على عدم جواز ذلك.
قال ابن تيمية: "ليس لأحد أن يحتج بالقدر على فعل الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولًا لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له، من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر
…
فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول"
(1)
.
وبناءً على هذا، فإن كلَّ ما نتج عن هذا الفهم من آراء، فهي باطلة مردودة، وقد تقدم أن هذا الفهم قد نتج عنه رأيان متناقضان:
أحدهما: ما ذهبت إليه القدرية من رد الحديث وتكذيبه، وقد ذهبوا هذا المذهب لأنه يخالف أصلهم الذي أصلوه، وهو نفي القدر السابق، "وكل من أصل أصلًا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرًا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلًا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون"
(2)
.
قال ابن عبد البر: "هذا الحديث من أوضح ما روي عن النبي -صلي الله عليه وسلم- في
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 179).
(2)
مقتبس من كلام ابن القيم في شفاء العليل (1/ 48).
إثبات القدر، ودفع قول القدرية، وبالله التوفيق والعصمة"
(1)
.
وتكذيب القدرية لهذا الحديث مردود، لأنه ثابت في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق.
قال ابن منده بعدما ساق عددًا من طرق هذا الحديث: "هذه أحاديث صحاح ثابتة لا مدفع لها، ولهذا الحديث طرق عن أبي هريرة"
(2)
.
وقال ابن عبد البر: "هذا حديث صحيح ثابت من جهة الإسناد، لا يختلفون في ثبوته، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، وروي من وجوه عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، من رواية الثقات الأئمة الأثبات"
(3)
.
وقال ابن القيم: "هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنًا بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أنه قاله، وحكموا بصحته"
(4)
.
وقال ابن حجر عن هذا الحديث: "وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة"
(5)
.
وأما الرأي الثاني: وهو ما ذهبت إليه الجبرية من تسويغ الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والاعتماد في ذلك على هذا الحديث، فهو باطل من عدة وجوه:
1 -
أن الإجماع منعقد على بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي.
قال ابن تيمية: "الاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي
(1)
التمهيد (18/ 17).
(2)
الرد على الجهمية (71 - 72).
(3)
التمهيد (18/ 12).
(4)
شفاء العليل (1/ 46).
(5)
فتح الباري (11/ 506)، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير (1/ 77).
عقل ودين من جميع العالمين"
(1)
.
2 -
أن الأمة قد أجمعت على جواز لوم العاصي ما لم يتب. قال ابن عبد البر: "وقد اجتمعت الأمة: أن من أتى ما يستحق الذم عليه فلا بأس بذمه، ولا حرج في لومه، ومن أتى ما يحمد له فلا بأس بمدحه عليه"
(2)
.
3 -
أن الله تعالى قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ، فأبطل الله حجتهم هذه بقوله:{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]، وهكذا في آيات أُخر لم يحكِ الله تعالى الاحتجاج في القدر إلا عن المشركين أعداء الرسل، وشيخهم في ذلك وإمامهم عدوه الأحقر إبليس، حيث احتج عليه بقضائه فقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]
(3)
.
4 -
أن الله تعالى قال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ولو كان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي سائغًا لما كان هناك حاجة إلى إرسال الرسل، لأنهم إنما أرسلوا لأجل إقامة الحجة على الناس
(4)
.
5 -
أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أمر الصحابة بالعمل، ونهاهم عن تركه اتكالًا على ما سبق به الكتاب، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:(ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال:
(1)
منهاج السنة (3/ 55).
(2)
التمهيد (18/ 15).
(3)
انظر: منهاج السنة (3/ 59، 56 - 60)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (96)، وشفاء العليل (1/ 50 - 51)، وتقريب التدمرية (99).
(4)
انطر: تقريب التدمرية (100)، ولمعة الاعتقاد بشرح الشيخ محمد العثيمين (94).
(اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10])
(1)
.
6 -
"أن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبقَ للحدود معنى، ولا يلام جانٍ على جنايته ولا ظالم على ظلمه، ولا يُنكر منكر أبدًا"
(2)
.
7 -
أن القدر سر مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، فكيف يصح للعاصي أن يحتج به على معصيته، وهو قد فعلها مختارًا، لا يشعر أن أحدًا أكرهه عليها، ولا يعلم أنها مقدرة عليه؟ ! ولماذا لم يقدر أن الله تعالى لم يكتبها عليه فينتهي عنها ويجتنبها؟ !
(3)
.
8 -
أنه لو ساغ الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي لساغ أن يحتج به إبليس ومن اتبعه من الجن والإنس، ويحتج به قوم نوح وعاد وثمود، وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان، ولم يعاقب أحد، وهذا مما يُعلم فساده بالاضطرار شرعًا وعقلًا
(4)
.
9 -
أن الاحتجاج بالقدر مخاصمة لله تعالى، واحتجاج من العبد على الرب، وحمل لذنبه على الأقدار، وهذا جهل بالله تعالى وحكمته في شرعه
(5)
.
10 -
أن نفس المحتج بالقدر لو اعتدى عليه معتدٍ، أو جنى عليه
(1)
متفق عليه: البخاري (4/ 1891) ح (4666)، ومسلم (16/ 434) ح (2647).
(2)
شفاء العليل (1/ 50).
(3)
انظر: تقريب التدمرية (100).
(4)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 858)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (97).
(5)
انظر: مدارج السالكين (1/ 204).
جانٍ، ثم احتج عليه بالقدر، فإنه لا يقبل منه هذه الحجة، وهذا تناقض يدل على فساد هذا القول، وأن المحتج بالقدر متبع لهواه، لأن القدر إن كان حجة للعاصي فهو أيضًا حجة للجاني، وإلا فليس حجة لهذا ولا لهذا، وهذا هو الصواب
(1)
.
قال ابن تيمية: "شر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال بعض السلف
(2)
: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم
…
وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وعن إبليس أنه قال:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، فمن تاب أشبه أباه آدم ومن أصرَّ واحتج بالقدر أشبه إبليس"
(3)
.
(1)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 858)، ومنهاج السنة (3/ 55 - 57)، ومجموع الفتاوى (8/ 179)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (97)، وشفاء العليل (1/ 55).
(2)
هو علقمة بن قيس. [انظر: جامع البيان (12/ 116)، ومجموع الفتاوى (8/ 178)، وتفسير ابن كثير (4/ 587)].
(3)
مجموع الفتاوى (8/ 107).
وقال ابن القيم عن هذا المسلك للجبرية: "هذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث، وهو شر من مسلك القدرية في رده، وهم إنما ردوه إبطالًا لهذا القول وردًا على قائليه، وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم، وأخطأوا في رد حديث رسول الله -صلي الله عليه وسلم-"
(1)
.
إذا تبيَّن هذا، وهو أن الحديث لا يجوز رده أو تكذيبه، كما لا يجوز الاحتجاج به على فعل المعاصي، فإن الذي يتعين المصير إليه هو أن القدر يُؤمَن به ولا يحتج به، فالعبد مأمور أن يرجع إليه عند المصائب، ويستغفر الله عند الذنوب والمعائب، كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، "وقد أرشد النبي -صلي الله عليه وسلم- إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به -وذلك عند المصيبة- فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)
(2)
"
(3)
.
قال ابن قدامة: "ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن، ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] "
(4)
.
وأما بخصوص هذا الحديث، فإنه محتمل لأحد أمرين لا ثالث لهما:
الأول: أن لوم موسى لآدم عليهم السلام كِان لأجل المصيبة التي حلت به
(1)
شفاء العليل (1/ 49).
(2)
صحيح مسلم (16/ 455) ح (2664).
(3)
شفاء العليل (1/ 58) بتصرف يسير.
(4)
لمعة الاعتقاد بشرح العثيمين (93).
وبذريته، وهي الإخراج من الجنة والإهباط إلى الأرض، وروايات الحديث في الصحيحين -كما تقدم- تشهد لهذا المعنى وتدل عليه، ففيها:(أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة)، وفيها:(أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة)، وفيها:(أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة)، وفيها:(أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض)، فهذه الروايات والألفاظ كلها تنطق بأن موسى عليه السلام إنما لام آدم عليه السلام على المصيبة التي وقعت بعد ذنبه، لا على ذنبه.
وذكرُ موسى عليه السلام للمعصية، كما في بعض الطرق
(1)
للتنبيه على سبب المصيبة.
فاحتج آدم عليه السلام بالقدر على المصيبة، كما هو ظاهر أكثر الروايات، فإنه قال:(أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني)؟ وهذا هو الذي ذهب إليه ابن تيمية وغيره، كما في القول الأول.
قال ابن أبي العز: "فإن قيل: فما تقولون في احتجاج آدم على موسى عليه السلام بالقدر؟
…
قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه، كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السلام على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب، لا عند المعائب"
(2)
.
(1)
انظر: المسند (15/ 47) ح (9095)، و (16/ 54) ح (9989)، والقدر للفريابي (93) ح (112)، والشريعة للآجري (2/ 776)، والرد على الجهمية لابن منده (70).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (135 - 136).