الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
القاعدة عند أهل السنة والجماعة في نصوص الكتاب والسنة -وخاصة نصوص الصفات- أنهم يجرونها على ظاهرها من دون تكييف ولا تمثيل، ويؤمنون بها على مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي رحمه الله: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
إذا علم هذا فإن الذي يترجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم بالصواب- هو إثبات صفة الملل لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، مع نفي توهم النقص في حقه تعالى، بأي وجه من الوجوه.
فشأن هذه الصفة شأن بقية الصفات التي تثبت لله تعالى على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوقين ليست كمالًا، كالاستهزاء والمكر والخداع.
ويكون المعنى: إن الله تعالى لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، كما نص عليه إمام من أئمة السلف وعالم من علماء اللغة، وهو إبراهيم الحربي، رحمه الله تعالى
(2)
.
وهو الذي يدل عليه سياق الحديث، ولذلك أرشد عليه الصلاة والسلام إلى عدم حمل النفس على ما يشق عليها من العبادة، حتى لا تمل
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 354)، وانظر:(4/ 2).
(2)
انظر: ص (224 - 225) من هذا البحث.
منها، فقال:(مه، عليكم ما تطيقون من الأعمال .. )، و (مه) كلمة زجر
(1)
.
وقال أيضًا: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)؛ لأن الديمومة على العمل تستدعي ديمومة الثواب.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "المراد بهذا الحديث: الاقتصاد في العمل، والأخذ بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه"
(2)
.
لكن لا يوصف الله تعالى بهذه الصفة على وجه الإطلاق، وإنما يوصف بها بالقيد المذكور في الحديث، فهو لا يمل إلا إذا ملوا، كما أنه لا يخدع إلا المخادعين، ولا يمكر إلا بالماكرين، ولا يستهزئ إلا بالمستهزئين، ولا يسخر إلا بالساخرين، فهذه الصفات لا يجوز أن يوصف الله تعالى بها على وجه الإطلاق.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهكذا وَصَفَ نفسَه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 15، 16]، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد"
(3)
.
وقال ابن القيم: "إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقًا
…
فلا يقال: إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد"
(4)
.
وقال ابن عثيمين: "المكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية، التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق، لأنها تكون مدحًا في حال، وذمًا في حال، فيوصف بها حين تكون مدحًا، ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحًا
…
والاستهزاء من هذا الباب، فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه
(1)
انظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 164)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 102).
(2)
فتح الباري (1/ 165).
(3)
التدمرية (26)، وانظر: مجموع الفتاوى (7/ 111).
(4)
مختصر الصواعق (2/ 291).
مستهزيء على الإطلاق"
(1)
.
وقال ابن باز معقبًا على الحافظ ابن حجر عندما تأول الوعي المضاف إلى الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم لأسماءَ: (لا توعي فيوعي الله عليك)، متفق عليه
(2)
.
قال: "هذا خطأ لا يليق من الشارح، والصواب إثبات وصف الله بذلك حقيقة، على الوجه اللائق به سبحانه، كسائر الصفات، وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمله، فمن مكر مكر به، ومن خادع خدعه، وهكذا من أوعى أوعى الله عليه، وهذا قول أهل السنة والجماعة، فالزمه تَفُزَ بالنجاة والسلامة، والله الموفق"
(3)
.
- وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة والطحاوي من أن معنى الحديث: إن الله لا يمل إذا مللتم، فغير وجيه، لأن (حتى) لا تأتي بمعنى (إذا)، وإنما تأتي على أربعة معانٍ هي:
1 -
انتهاء الغاية، وهو الغالب.
2 -
والتعليل.
3 -
وبمعنى: (إلا) وهذا أقلها.
4 -
وتأتي عاطفة عند بعضهم، وهو قليل
(4)
.
ثم إن (حتى) حرف، وتفسيرها بـ (إذا) يخرجها من الحرفية إلى الاسمية، لأن (إذا) ظرف
(5)
-والظروف أسماء- كما أنه يجعل لها محلًا
(1)
شرح العقيدة الواسطية (2/ 336).
(2)
البخاري (2/ 520) ح (1367)، و (2/ 915) ح (2450، 2451)، ومسلم (7/ 123) ح (129).
(3)
فتح الباري (3/ 300) هامش (1).
(4)
انظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام (132، 135، 137)، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور (1/ 540)، وإبطال التأويلات (2/ 37).
(5)
انظر: مغني اللبيب (102).
من الإعراب وهو النصب على الظرفية مثل (إذا)، وقد أجمع النحاة على أن الحروف لا محل لها من الإعراب
(1)
.
- وأما ما ذهب إليه ابن عبد البر وابن رجب عليهما رحمة الله، من تفسير الملل بلازمه وهو الترك، وذلك تنزيهًا لله تعالى عن معنى الملل، فهو خروج بالنص عن ظاهره المتبادر منه، علمًا أنه لا يلزم من إثبات هذه الصفة لله تعالى بالقيد المذكور، أن يكون الله تعالى متصفًا بالنقائص والعيوب، كيف وقد وصفه بذلك من هو أعظم الناس تنزيهًا لربه، وأعلمهم بمراده، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما لا يلزم من إثباتها نفي اللوازم الصحيحة لها، فإن لازم الحق حق، لكن لا ينبغي أن يكون إثبات اللازم طريقًا لنفي الأصل، وهو الصفة، فالصفة ثابتة، ولوازمها الصحيحة ثابتة.
ولعل الذي ألجأهم إلى هذا التأويل، هو ما فهموه من معنى الملل في حق المخلوقين، ومعلوم أن الخالق لا يماثله أحد من خلقه بشيء من صفاته، فللخالق صفات تليق به وللمخلوق صفات تليق به، والاتفاق في الأسماء لا يلزم منه الاتفاق في المسميات، والله أعلم.
* * *
(1)
انظر: التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، لأبي حيان الأندلسي (1/ 50).