الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
قبل ترجيح أيٍّ من القولين السابقين لا بُدَّ من التذكير بقاعدتين هامتين في هذا الباب:
القاعدة الأولى: أن الواجب في نصوص الكتاب والسنة إجراؤها على ظاهرها، دون التعرض لها بتحريف أو تعطيل، لا سيما نصوص الصفات، لأنه لا مجال للرأي فيها
(1)
.
قال القاضي أبو يعلى عن أخبار الصفات: "والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله تعالى، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها"
(2)
.
القاعدة الثانية: أن المراد بظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق آخر
(3)
.
وعليه، فإنه لا يجوز طرد معنى من معاني اللفظ في كل سياق ورد فيه، لمجرد أن اللفظ يحتمله، بل لا بد من النظر إلى معناه مقترنًا بسياقه الذي ورد فيه، و"كل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله، فإنه مقيد بما يبين معناه"
(4)
.
(1)
انظر: القواعد المثلى للعثيمين (33).
(2)
إبطال التأويلات: (1/ 43).
(3)
انظر: القواعد المثلى (36)، ونقض الدارمي على المريسي (1/ 344).
(4)
مقتبس من مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 107)، وانظر: مختصر الصواعق لابن القيم (2/ 307).
قال ابن القيم رحمه الله: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"
(1)
.
وقال أيضًا: "كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران، فهو ظاهره وحقيقته، لا ظاهر له غيره، ولا حقيقة له سواه، فقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] حقيقته وظاهره أنه أجاعها بعد شبعها، وأخافها بعد أمنها، وألبس بواطنها ذل الجوع والخوف"
(2)
.
وبناءً على ما تقدم، فإن لفظ الهرولة وإن كان معناه: الإسراع في المشي، إلا أنه لا يقتضي أن يكون هذا معناه المراد منه في كل سياق ورد فيه، وإنما السياق هو الذي يحدد معناه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن قرب الله تعالى: "ولا يلزم من جواز القرب عليه، أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دلَّ على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه"
(3)
.
فالهرولة في هذا الحديث معناها: مجازاة الله تعالى وإثابته لعبده بأكمل وأفضل من عمله -على ما جاء في القول الأول- وليس المراد بها: المشي السريع، فتثبت صفةً لله تعالى، كما أن تقرب العبد بالشبر والذراع لا يراد به حقيقة الشبر والذراع، وإنما يراد به قدرهما، وإلا فما موضع
(1)
بدائع الفوائد (4/ 222)، وقد تقدم هذا النقل وتقرير هذه القاعدة في المبحث الثالث من التمهيد، وذكرته هنا لأهميته ومناسبته.
(2)
مختصر الصواعق (2/ 317).
(3)
مجموع الفتاوى (6/ 14).
العبادات القلبية -والتي هي من أعظم العبادات وعليها تنبني أعمال الجوارح- كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل
…
؟
وكذا العبادات القولية كالذكر والدعاء والاستغفار، هل نخرجها من هذا الحديث؟ !
وليس هذا تأويلًا للحديث وحملًا له على غير ظاهره، بل هو حقيقة معناه، وظاهر سياقه، وقد بيَّنا -فيما تقدم- أن ظاهر اللفظ: هو ما ظهر منه في السياق الذي ورد فيه، لا ما ظهر منه في سياق آخر.
ثم إن من جعل تقرب العبد الوارد في الحديث، لا يراد به التقرب بالمساحة المذكورة -وهو الحق كما تقدم- فإنه يلزمه أن يجعل تقرب الله تعالى كذلك، لأن ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة
(1)
، ومن فرق بينهما فقد تناقض.
ومثل هذا الحديث ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهلية)، وفي رواية:(من فارق الجماعة شبرًا)
(2)
.
فإنه لا يفهم من ظاهره أن المراد بالشبر شبر المساحة، وإنما المراد به كما هو ظاهر سياقه: التمثيل والتقريب، ومعناه: النهي عن معصية السلطان، ومفارقة الجماعة، ولو بأقل القليل.
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (شبرًا): هي كناية عن معصية السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة
(3)
: المراد بالمفارقة: السعي في حل عقد
(1)
انظر: بيان تلبيس الجهمية، القسم السادس (1/ 151).
(2)
متفق عليه: البخاري (6/ 2588) ح (6645)، ومسلم (12/ 481) ح (1849).
(3)
هو الإمام العالم الناسك أبو محمد عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي المالكي، كان عالمًا بالحديث، قوَّالًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، اختصر صحيح البخاري ثم شرحه في كتاب: بهجة النفوس، توفي بالديار المصرية سنة (695). =
البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق"
(1)
.
ومثله -أيضًا- قوله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة:(ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو معاذًا فليعذ به)، متفق عليه
(2)
.
إذ ليس المراد به ذات القعود وذات القيام، وإنما المراد به: التنبيه على عظم وخطر الدخول فيها، والحض على تجنبها، والإمساك عن التشبث بشيء منها، وأن بلاءها بقدر مبلغ الإنسان منها، ودخوله فيها، ولهذا حض النبي صلى الله عليه وسلم على الهروب عنها
(3)
.
والقول: بهذا المعنى للهرولة، ليس هروبًا من إثباتها صفةً لله تعالى؛ لأنها توهم معنى فاسدًا -كما هو منهج نفاة الصفات-، وإنما لأن سياق الحديث وظاهره يدل عليه، ولو لم يرد في السياق ما يدل عليه لتعين إثباتها صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله، ولذلك فقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة المجيء والإتيان له سبحانه على ما يليق بجلاله، لدلالة النصوص الصحيحة عليهما
(4)
، والهرولة من جنسهما، ولكن لأنه لم يدل دليل صريح على إثباتها صفة لله تعالى فإنه لا يتوجه إثباتها صفة له، والله أعلم.
= [انظر: البداية والنهاية (13/ 366)، والأعلام (4/ 89)، ومعجم المؤلفين (2/ 243)].
(1)
فتح الباري (13/ 6 - 7) بتصرف يسير.
(2)
البخاري في مواضع: (3/ 1318) ح (3406)، و (6/ 2594) ح (6670، 6671)، ومسلم (18/ 224) ح (2886).
(3)
انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 418)، وفتح الباري (13/ 30).
(4)
انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (192)، ومجموع الفتاوى (5/ 577 - 578).
ثم إن الهرولة جاءت في الحديث مقيدة، فالله يأتي هرولة لمن أتاه يمشي، ولم تأتِ مطلقة كبقية الصفات المطلقة، ولذا فمن أثبتها صفة لله تعالى ينبغي له تقييدها بما قيدت به في الحديث، فلا يجعلها صفة لله تعالى على وجه الإطلاق.
فإن قيل: تفسير الحديث بهذا المعنى، فيه حجة لأهل التأويل في تأويلهم، وإلزام لنا بموافقتهم، أو مداهنتهم فيما أولوه من صفات الله عز وجل
(1)
.
قيل: هذا الإيراد مبني على اعتقاد أن هذا المعنى: تأويل للحديث وصرف له عن ظاهره، وقد تقدم بيان أن القول بهذا المعنى عمل بظاهر الحديث وليس تأويلًا له.
وقد قال الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله تعالى- عن هذا القول: إن له حظًا من النظر
(2)
، مع أنه قد انتصر للقول الثاني.
ثم إن أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى وغيرها ينطلقون من دلالة نصوص الكتاب والسنة -ولذلك نلاحظ أن كلًا من أصحاب القولين السابقين ممن هم من أهل السنة يرى أنه قد عمل بظاهر الحديث- لا من مجرد مخالفة أهل التأويل.
وأما ما قيل في معنى: (وإذا أتاني يمشي .. ) أي: في عبادة تفتقر إلى المشي، فبعيد عن ظاهر الحديث، وهل يقال مثل ذلك في رواية:(وإن هرول سعيت إليه)
(3)
فيكون المعنى: في عبادة تفتقر إلى الهرولة؟ ! لا ريب أن هذا تكلف ظاهر، والله أعلم.
* * *
(1)
انظر: إزالة الستار للعثيمين (28).
(2)
انظر: القواعد المثلى (72)، وإزالة الستار (31).
(3)
تقدم تخريجه ص (181).