الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
يمكن إرجاع أهم الأقوال في معنى هذه الأحاديث إلى قولين، هما:
القول الأول: أن المراد بالردة في هذه الأحاديث: الردة عن الإسلام، وعلى هذا يكون المراد بالمُذَادِين عن الحوض: أهل الردة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وكذا من أظهر الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وصحبه وهو من المنافقين، فيجوز أن يحشر هؤلاء المرتدون والمنافقون بالغرة والتحجيل، لكونهم من جملة الأمة، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم من أجل السيما التي عليهم، أو لمعرفته إياهم بأعيانهم وإن لم يكن لهم غرة وتحجيل، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه من الإسلام.
وإلى هذا ذهب قبيصة بن عقبة
(1)
(2)
، وابن قتيبة
(3)
، والباجي
(4)
(5)
،
(1)
هو أبو عامر قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان بن عقبة السوائي الكوفي، إمام حافظ ثقة عابد، رووا له في الكتب الستة، توفي سنة خمس عشرة ومائتين على الصحيح (215). [انظر: تاريخ بغداد (12/ 469)، والسير (10/ 130)، وتذكرة الحفاظ (1/ 373)، والتقريب (2/ 26)].
(2)
انظر: صحيح البخاري (3/ 1272)، والفتح (6/ 490)، و (11/ 385، 386).
(3)
انظر: تاويل مختلف الحديث (217 - 218).
(4)
هو القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الأندلسي الباجي المالكي، علامة فقيه متكلم، أديب شاعر، له مصنفات منها: الإيماء في الفقه، وشرح المنهاج، توفي سنة (474). [انظر: وفيات الأعيان (2/ 340)، والسير (18/ 544)، وشذرات الذهب (3/ 344)].
(5)
انظر: إكمال المعلم (2/ 51)، والمفهم (1/ 504)، والفتح (11/ 386).
والقاضي عياض
(1)
، والقرطبي، وغيرهم
(2)
، وعزاه ابن بطال لبعض السلف
(3)
.
قال القرطبي: "وقوله: (فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك) اختلف العلماء في تأويله، فالذي صار إليه الباجي وغيره، وهو الأشبه بمساق الأحاديث: أن هؤلاء الذين يقال لهم هذا القول ناس نافقوا وارتدوا من الصحابة وغيرهم، فيحشرون في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم من قوله:(وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)
(4)
وعليهم سيما هذه الأمة، من الغرة والتحجيل، فإذا رآهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفهم بالسيما، ومن كان من أصحابه بأعيانهم، فيناديهم:(ألا هَلُمَّ)، فإذا انطلقوا نحوه حيل بينهم وبينه، وأُخِذَ بهم ذات الشمال، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:(يا رب أمتي ومن أمتي)، وفي لفظ آخر:(أصحابي)، فيقال له إذ ذاك:(إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وإنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم) "
(5)
.
واستدل أصحاب هذا القول بظاهر الأحاديث المتقدمة
(6)
.
القول الثاني: أن المراد بالردة في هذه الأحاديث: الردة عن الاستقامة، وذلك باقتراف السيئات وترك الواجبات، والإحداث في الدين، وعلى هذا يكون المُذَادُون عن الحوض: أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن
(1)
انظر: إكمال المعلم (2/ 51).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (3/ 138 - 139)، و (17/ 200)، والاعتصام (1/ 108)، والفتح (11/ 386)، ومختصر التحفة الاثني عشرية (273)، والانتصار للصحابة الأخيار (130).
(3)
انظر: شرح صحيح البخاري (10/ 7).
(4)
متفق عليه من حديث أبي هريرة، وقد تقدم تخريجه ص (165).
(5)
المفهم (1/ 504)، وانظر: إكمال المعلم (2/ 51).
(6)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 7)، وإكمال المعلم (2/ 52)، و (7/ 269)، و (8/ 391)، وشرح النووي على مسلم (17/ 200).
الإسلام، وبناءً عليه فلا يقطع لهؤلاء الذين يُذَادُون بالنار، بل يجوز أن يذادوا عقوبةً لهم ثم يرحمهم الله تعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب.
وإلى هذا ذهب الخطابي وابن بطال
(1)
، وابن عبد البر وغيرهم
(2)
.
قال الخطابي: "وقوله: (ما زالوا مرتدين على أعقابهم) لم يُرِدْ به الردة عن الإسلام، ولذلك قيده بقوله: على أعقابهم -وإنما يعقل من الارتداد: الكفر، إذا أُطلق من غير تقييد- ومعناه: التخلف عن بعض الحقوق الواجبة والتأخر عنها، كقولك: نكص فلان على عقبيه، وقولك: ارتد على عقبيه، إذا تراجع إلى وراء، ولم يرتد بحمد الله ومنِّه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب الذين كانوا دخلوا في الإسلام رغبةً ورهبةً، كعيينة بن حصن جيء به أبا بكر أسيرًا، وبالأشعث بن قيس، فلم يقتلهما ولم يسترقَّهما، فعاودا الإسلام بعد"
(3)
.
وقال ابن عبد البر: "كل من أحدث في الدين ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه -والله أعلم- وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، مثل: الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم يبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجَور والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المُسْتَخِفُّون بالمعاصي، وجميع أهل الزيغ والبدع، كل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبر"
(4)
.
(1)
انظر: شرح صحيح البخاري (10/ 6).
(2)
انظر: إكمال المعلم (2/ 52)، والتذكرة (1/ 464)، والجامع لأحكام القرآن (4/ 168)، وشرح النووي على مسلم (3/ 139)، والاعتصام (1/ 106 - 108)، والفتح (11/ 385، 386)، ولوامع الأنوار (2/ 197، 200).
(3)
أعلام الحديث (3/ 1536).
(4)
التمهيد (20/ 262).
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات: (أصحابي أصحابي)، فقد أجاب عنه بعضهم بأن المراد: مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له، وليس المراد ما هو معروف شرعًا من هذا اللفظ، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة: أصحاب أبي حنيفة، ولمقلدي الشافعي: أصحاب الشافعي، وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب: أصحابنا، مع أن بينه وبينهم عدة من السنين.
ومعرفته صلى الله عليه وسلم لهم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم، وجذبهم إلى ذات الشمال تأديبًا لهم وعقابًا لهم على معاصيهم
(1)
.
* * *
(1)
انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية لمحمود شكري الألوسي (272)، والروض الباسم لابن الوزير (1/ 115 - 119).