الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الحديث جاء لرد ما كان عليه أهل الجاهلية من نسبة المصائب التي تصيبهم، والكوارث التي تحل بهم إلى الدهر، فيقولون مثلًا: أصابتنا قوارع الدهر، وأبادنا الدهر، وأتى علينا الدهر، وهكذا
…
فينسبون كل ما يجري عليهم بقضاء الله وقدره، من موت أو سقم أو هرم أو فقر إلى الدهر، ثم يذمونه ويسبونه لأجل ذلك، فيقولون مثلًا: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا، وقد كثر ذلك في أشعارهم، ومن أمثلته:
قول المساور بن هند
(1)
:
بليت وعلمي في البلاد مكانه
…
وأفنى شبابي الدهر وهو جديد
(2)
وقول أبي ذؤيب الهذلي
(3)
:
(1)
هو مساور بن هند بن قيس بن زهير العبسي، شاعر مُعَمَّر، قيل: إنه ولد في حرب داحس والغبراء قبل الإسلام بخمسين سنةً، وعاش إلى أيام الحجاج، وهو من المتقدمين في الإسلام، توفي نحو سنة (75). [انظر: الشعر والشعراء (216)، والإصابة لابن حجر (6/ 227)، والأعلام (7/ 214)].
(2)
انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (216)، والتمهيد لابن عبد البر (18/ 156).
(3)
هو خويلد بن خالد بن محرِّث أبو ذؤيب الهذلي، شاعر فحل مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وعامة ما قاله من الشعر في الإسلام، عاش إلى زمن عثمان، وشارك في الغزو والفتوح، وتوفي بأفريقية سنة (27). [انظر: الشعر والشعراء (435)، والإصابة (2/ 358)، والأعلام (2/ 325)].
أمن المنون وريبها تتوجع
…
والدهر ليس بمعتب من يجزع
(1)
وقول الأعشى
(2)
:
فاستأثر الدهر الغداة بهم
…
والدهر يرميني ولا أرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
…
بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما ليس تُعقبنا
…
يا دهر ما أنصفت في الحكم
(3)
ومعنى الحديث على هذا: لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب، ولا تنسبوها إليه، فإن الله عز وجل هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر فإذا سببتم الفاعل وقع السب على الله عز وجل، إذ هو الفاعل لها لا الدهر.
ويكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنا الدهر): ما فسره بقوله: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).
وهكذا قوله: (فإن الله هو الدهر) أي: مدبر الدهر ومصرفه.
وعلى هذا، لا يكون الدهر اسمًا من أسماء الله تعالى.
وإلى هذا القول ذهب جمهور أهل العلم، كالشافعي
(4)
وأبي عبيد،
(1)
انظر: شرح أشعار الهذليين للسكري (1/ 4)، وساقه ابن قتيبة بسنده إلى أبي ذؤيب، في تأويل مختلف الحديث (208).
(2)
هو ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وأحد أصحاب المعلقات، كان كثير الوفود إلى الملوك من العرب والفرس، وكان من المعمَّرين أدرك الإسلام ولم يسلم، قيل: إن مولده ووفاته في منفوحة قرب مدينة الرياض، وكانت وفاته سنة سبع من الهجرة (7). [انظر: الشعر والشعراء (154)، وشرح المعلقات العشر (373)، والأعلام (7/ 341)].
(3)
انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 146)، ومعجم مقاييس اللغة (2/ 306)، وأحال محققه على ملحقات ديوان الأعشى (258)].
(4)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (6/ 109)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (7/ 183)، وشرح النووي على مسلم (15/ 6)، وتفسير ابن كثير (4/ 231)، وتيسير العزيز الحميد (608).
وابن جرير الطبري
(1)
، وابن قتيبة
(2)
، وإبراهيم الحربي
(3)
، والخطابي، وأبي يعلى
(4)
، وابن عبد البر
(5)
، وقوام السنة الأصبهاني، والقرطبي
(6)
والنووي
(7)
، وابن تيمية
(8)
، وابن كثير
(9)
، وابن حجر
(10)
، وسليمان بن عبد الله
(11)
، وابن عثيمين
(12)
، عليهم رحمة الله.
(1)
انظر: جامع البيان (11/ 263)، والطبري هو: الإمام العلم الفرد الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، كان إمامًا في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ، وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحدًا، وكان ثقة في نقله، ولذلك يُعدُّ كتابه التاريخ أصح التواريخ وأثبتها، توفي رحمه الله ببغداد سنة (310 هـ)، وله عدة مصنفات منها: تفسيره المشهور، وكذلك تاريخه المشهور، وتهذيب الآثار. [انظر: تاريخ بغداد (2/ 159)، ووفيات الأعيان (4/ 43)، وتذكرة الحفاظ (2/ 710)، وشذرات الذهب (2/ 260)].
(2)
انظر: تأويل مختلف الحديث (207 - 208).
(3)
انظر: إبطال التأويلات (2/ 375 - 376)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 126).
(4)
انظر: إبطال التأويلات (2/ 375).
(5)
انظر: التمهيد (18/ 155، 157).
(6)
انظر: المفهم (5/ 547 - 548).
(7)
انظر: شرح النووي على مسلم (15/ 5).
(8)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 491).
(9)
انظر: تفسير ابن كثير (4/ 231).
(10)
انظر: الفتح (10/ 565).
(11)
انظر: تيسير العزيز الحميد (608 - 611). وسليمان هو: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ، محدث فقيه، وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا عند دخوله الدرعية واستيلائة عليها، فأحضره وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة له ثم قتله، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين (1223)، له مؤلفات من أهمها وأشهرها: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد. [انظر: الأعلام للزركلي (3/ 129)، وعلماء نجد للبسام (2/ 341)].
(12)
انظر: القواعد المثلى (9 - 10)، والقول المفيد (2/ 357، 359).
قال أبو عبيد: "تأويله عندي -والله أعلم- أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم، من موت أو هرم أو تلف مال، أو غير ذلك، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر، فيجعلونه الذي يفعل ذلك، فيذمونه
…
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر)، على تأويل: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، ويصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى، لأنه عز وجل هو الفاعل لها، لا الدهر، فهذا وجه الحديث إن شاء الله، لا أعرف له وجهًا غيره"
(1)
.
وقال الخطابي: "قوله: (أنا الدهر) معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبُّه إليَّ، لأني فاعلها، وإنما الدهر زمان ووقت جعلته ظرفًا لمواقع الأمور، وكان من عادة أهل الجاهلية إذا أصابهم شدة من الزمان، أو مكروه من الأمر، أضافوه إلى الدهر، وسبوه، فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًا للدهر، ونحو ذلك من القول
…
فأعلم الله تبارك وتعالى أن الدهر محدث، يقلبه بين ليل ونهار، لا فعل له من خير أو شر، لكنه ظرف للحوادث ومحل لوقوعها، وأن الأمور كلها بيد الله تعالى، ومن قِبله يكون حدوثها، وهو محدثها ومنشئها سبحانه لا شريك له"
(2)
.
وقال قوام السنة الأصبهاني: "ومما جاء في الحديث مما لا يؤمن وقوع الغلط فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله هو الدهر)، لا يجوز أن يتوهم متوهم أن الدهر من أسماء الله تعالى، وإنما معنى هذا الكلام: أن أهل الجاهلية كان من عادتهم إذا أصاب الواحد منهم مكروه أن يضيفه إلى الدهر، فيسبون الدهر على أنه الفاعل لذلك، ولا يرونه صادرًا من فعل الله، وكائنًا بقضائه، فأعلمهم أن جميع ذلك من فعل الله تعالى، وأن مصدرها من قبله، وأنكم
(1)
غريب الحديث (2/ 146 - 147).
(2)
أعلام الحديث (3/ 1904).
متى سببتم فاعلها كان مرجع السب إلى الله سبحانه وتعالى"
(1)
.
القول الثاني: قول من يروي حديث: (وأنا الدهر) بنصب الدهر على الظرفية، فيكون المعنى: أنا الدهرَ كله بيدي الأمر أقلب الليل والنهار، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن داود الظاهري
(2)
وغيره.
قال الخطابي: "كان أبو بكر يرويه (وأنا الدهرَ) مفتوحة الراء، منصوبًا على الظرف، أي: أنا طول الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار، وكان يقول: لو كان مضمومًا لانقلب الدهر اسمًا من أسماء الله جلَّ وعز وعلا"
(3)
.
وقال ابن عبد البر: "فمن أهل العلم من يروي هذا الخبر بنصب الدهر على الظرف، يقول: أنا الدهر كله بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"
(4)
.
القول الثالث: أن الدهر من أسماء الله تعالى، ومعناه: القديم الأزلي، وإلى هذا ذهب نعيم بن حماد، وطائفة من أهل الحديث والصوفية
(5)
، وهو قول ابن حزم رحمه الله تعالى
(6)
.
وعمدتهم هذا الحديث.
(1)
الحجه في بيان المحجة (178 - 179).
(2)
هو محمد بن داود بن علي أبو بكر الظاهري، أحد من يضرب به المثل بذكائه، وكان له بصر تام بالحديث، وبأقوال الصحابة، وكان يجتهد ولا يقلد أحدًا، وقد تصدر للفتيا بعد والده، له كتاب الزهرة، في الأدب والشعر، توفي سنة سبع وتسعين ومائتين (297). [انظر: وفيات الأعيان (4/ 90)، والسير (13/ 109)، وشذرات الذهب (2/ 226)].
(3)
شأن الدعاء (108)، وانظر: معالم السنن (4/ 147).
(4)
التمهيد (18/ 154)، وانظر: إكمال المعلم (7/ 183)، والمفهم (5/ 548)، وشرح النووي على مسلم (15/ 6)، وفتح الباري (8/ 575).
(5)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 494)، وبيان تلبيس الجهمية، القسم الخامس، تحقيق د/ سليمان الغفيص (1/ 285).
(6)
انظر: المحلى (6/ 282).