الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناقشة الأقوال المرجوحة:
الحق أن ما ذكر من الأقوال الأخرى في توجيه الحديث -غير القول الأول- بعيدة عن مقصوده، ولا يدل عليها ظاهره، وبيان ذلك كما يلي:
أما القول الثاني والثالث وهما: حمل قوله: (لئن قدر علي ربي) على معنى: التضييق، أو القضاء والقدر، فمردود من عدة وجوه:
الأول: أن تقدير الكلام على المعنى الأول: (لئن ضيق علي ربي ليعذبني) وهذا لا يستقيم، لأن التضييق نوع من العذاب، فيرجع تقدير الكلام:(لئن عذبني ليعذبني) فيتحد الشرط والجزاء، وهذا خطأ ظاهر
(1)
.
وتقدير الكلام على المعنى الثاني: (لئن قضى علي ربي بالعذاب ليعذبني)، وهذا لا فائدة فيه، لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، فهو تحصيل حاصل
(2)
.
الوجه الثاني: أنه لو كان المراد: التقدير أو التضييق، لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه، وعلى هذا يكون أمره لأهله بإحراقه ثم ذره لا معنى له.
الوجه الثالث: أن قوله: (فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني) جاء مقترنًا بحرف الفاء، عقب قوله:(إذا أنا مت فأحرقوني) مما يدل على أنه سبب له، وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه، وهذا بيِّن لمن تأمله، بخلاف معنى التضييق أو التقدير، ولو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك، كقدرته عليه إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة له
(3)
.
قال ابن حزم: "قال بعض من حرَّف الكلم عن مواضعه إن معنى: لئن قدر الله علي، إنما هو: لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى:{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16].
(1)
انظر: الفصل لابن حزم (2/ 272)، ومجموع الفتاوى (11/ 410)، ومشكلات الأحاديث النبوية (143).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (11/ 411).
(3)
انظر: المرجع السابق (11/ 410 - 411)، وبغية المرتاد (310).
قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن، لأنه كان يكون معناه حينئذ: لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضًا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذرَّ رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى"
(1)
.
وأما القول الرابع: وهو أن هذا الرجل قد غلب عليه الخوف والجزع، فكان لا يعقل ما يقول، وأخطأ من شدة الخوف كما أخطأ صاحب الناقة من شدة الفرح، فقول ضعيف من وجهين
(2)
:
الأول: أنه لو كان غير مدرك ولا عاقل لما يقول، لفهم أولاده ذلك، ولما نفذوا هذه الوصية.
والثاني: أن تشبيه حال هذا الرجل بحال صاحب الناقة الذي أخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، تشبيه بعيد، لأن صاحب الناقة إنما سبق لسانه بالخطأ لشدة الفرح، واللسان يسبق في مثل هذه الأحوال، وأما الآخر فإنه أمر أهله بأوامر مرتبة تدل على اعتقاده أن ذلك ينجيه، فهو يعي ما يقول.
وأما القول الخامس: وهو أن هذا الرجل قد كفر بمقالته هذه، لكنه على شريعة فيها جواز المغفرة للكافر، فقول لا يلتفت إليه، لأنه لا خلاف بين أهل القبلة في عدم المغفرة لمن مات كافرًا
(3)
، ثم من أين لنا العلم أن هذا كان في شريعتهم، إلا محض التخرص والتوهم؟ ! ولهذا قال الحافظ ابن حجر:"وأبعد الأقوال: قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"
(4)
.
(1)
الفصل (2/ 272).
(2)
انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية للدكتور محمد الوهيبي (1/ 230)، وسعة رحمة رب العالمين، إعداد الغباشي (38 - 39).
(3)
انظر: التمهيد (18/ 40).
(4)
فتح الباري (6/ 523)، وانظر: مشكلات الأحاديث النبوية (142).