الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناقشة الأقوال المرجوحة:
أما القول الثاني: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عبَّر بالشك على معنى: التفاوت بين الإيمان والاطمئنان، لا أنه أراد حقيقة الشك، لأن إبراهيم عليه السلام كان موقنًا بلا ريب، فقول لا تسعفه اللغة، لأن معنى الشك -كما تقدم
(1)
-: التردد بين شيئين، بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، فهو نقيض اليقين.
وأما القول الثالث: وهو أن الخليلين عليهم السلام إنما شكَّا في إجابة الله تعالى لمَّا سألا، فليس في الآية والحديث ما يدل عليه، والله أعلم.
ومثله ما قيل في أن سبب سؤال إبراهيم عليه السلام وطلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: ليتبيَّن خلته ومنزلته عند الله تعالى، إذ ليس في الآية ما يدل عليه، وإنما الآية دالة على ما تقدم من أن سؤاله كان عن كيفية الإحياء ليزداد بذلك إيمانًا ويقينًا واطمئنانًا، ويترقى بذلك من علم اليقين إلى عين اليقين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر، لكن يريد عين اليقين، ولهذا جاء في الحديث:(ليس الخبر كالمعاينة)
(2)
، وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم، وعين، وحق، كلها موجودة في القرآن:
مثال "علم اليقين": قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: 5].
ومثال "عين اليقين ": قوله تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 7].
ومثال "حق اليقين": قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} [الواقعة: 95] "
(3)
.
(1)
انظر: ص (399) من هذا البحث.
(2)
حديث صحيح، تقدم تخريجه ص (404).
(3)
تفسير القرآن الكريم (3/ 303 - 304).
وأما المسلك الثاني: وهو القول بنسبة الشك إلى إبراهيم عليه السلام، وادعاء أن ذلك لعارض عرض له من الشيطان؟ ! فقد تقدم بيان بطلانه، وأما ما استند إليه الطبري في ترجيح هذا القول، فيمكن الإجابة عنه كما يلي:
- أما استناده إلى ما رواه عن ابن عباس رضي الله عنه، من أنه قال في قوله تعالى:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : "ما في القرآن آية أرجى عندي منها" فاستناد في غير محله، لأن كلام ابن عباس هذا غير صريح في نسبة الشك لإبراهيم عليه السلام، ولذا قال ابن عطية بعدما ذكر أن الطبري ترجم في تفسيره بقوله:"وقال آخرون: قال ذلك لربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى"
(1)
، وأنه أدخل تحت هذه الترجمة قول ابن عباس وقول عطاء، قال ابن عطية:"وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأوَّل"
(2)
.
- وأما قول عطاء: "دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوب الناس"، فإنه وإن كان أقرب من قول ابن عباس لهذا المعنى، إلا أنه ليس صريحًا فيه، بل هو محتمل له ولغيره، ولذا قال ابن عطية عنه:"معناه: من حُبِّ المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به"
(3)
.
وعلى فرض صحة هذين الأثرين وصراحتهما في نسبة الشك لإبراهيم عليه السلام، فإنه لا يُعوَّل عليهما، لأنها أقوال يستدل لها، لا بها، خاصة في مثل هذا الأمر الذي هو كفر، لا يشك مسلم في عصمة الأنبياء منه.
قال أبو عبد الله القرطبي: "لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث"
(4)
.
(1)
انظر: جامع البيان (3/ 51).
(2)
المحرر الوجيز (2/ 302)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 298)، وفتح القدير (1/ 281).
(3)
المحرر الوجيز (2/ 302)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 298).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 299)، وانظر: ما تقدم من كلام ابن حزم وابن عطية في أول هذا المطلب.
ثم على هذا القول، كيف يفسر قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؟ أيكون تفسيره ومعناه: نحن أحق بالشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى من إبراهيم؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم.
- وأما استدلال الطبري بحديث: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فقد تقدم الكلام على معناه -قريبًا- بما يغني عن إعادته.
* * *
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
أشار صلى الله عليه وسلم بهذا إلى قول لوط عليه السلام لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80].
قال أهل التفسير
(1)
: أراد لوط عليه السلام بقوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: قبيلة قوية مانعة، لمنعتكم من الوصول إلى أضيافي، وذلك أن الملائكة لما جاءت لوطًا عليه السلام في صورة شباب حِسان، في غاية الجمال والكمال -وهو لا يدري أنهم ملائكة- {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 78]، أي: شديد حرجه، لأنه يعلم أن قومه لا يتركونهم، فكان ما خشي، حيث جاءه قومه {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78]، أي: مسرعين مبادرين، يريدون أضيافه بعملهم الخبيث، فاشتد قلق لوط عليه السلام وخوفه على أضيافه، فقال:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: قبيلة مانعة لمنعتكم، وعندها أخبرته الملائكة بحالهم، ليطمئن قلبه {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81].
قال ابن حجر: "يُقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه، لأنهم من سدوم، وهي من الشام، وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى
(1)
انظر: جامع البيان (7/ 79 - 87)، والمحرر الوجيز (9/ 195 - 198)، ومعالم التنزيل (2/ 394 - 396)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 73 - 79)، وتفسير القرآن العظيم (2/ 701 - 702)، وفتح القدير (2/ 513 - 515)، وتيسير الكريم الرحمن (3/ 444 - 445).
أهل سدوم، فقال: لو أن لي منعةً وأقاربَ وعشيرة، لكنت أستنصر بهم عليكم، ليدفعوا عن ضيفاني"
(1)
.
قال البغوي: "قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأت الملائكة ما يلقى لوط بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن ربه عز وجل في عقوبتهم، فأذن له"
(2)
.
* * *
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فقد اختُلف في معناه على عدة أقوال، هي كالتالي:
القول الأول: أن المعنى، أي: رحمه الله على هذا التمني الذي فرط منه في وقت الضيق والشدة، حيث سها فذكر الأسباب المحسوسة، من قومه وعشيرته، مع أنه كان يأوي إلى أشد الأركان وأقواها، وهو الله تعالى.
وإلى هذا ذهب ابن قتيبة والبغوي
(3)
والقاضي عياض
(4)
وابن الأثير
(5)
وأبو عبد الله القرطبي
(6)
، وهو ظاهر كلام الطحاوي
(7)
وجوَّزه النووي
(8)
(1)
فتح الباري (6/ 415).
(2)
معالم التنزيل (2/ 396)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (9/ 78).
(3)
انظر: شرح السنة (1/ 117).
(4)
انظر: إكمال المعلم (1/ 466).
(5)
هو العلامة البارع القاضي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ثم الموصلي، كان فقيهًا محدثًا أديبًا نحويًا ورعًا عاقلًا، ذا برٍّ وإحسان، توفي رحمه الله سنة (606 هـ)، وله مصنفات بديعة منها جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهاية في غريب الحديث. [انظر: وفيات الأعيان (4/ 7)، والسير (21/ 488)، وشذرات الذهب (5/ 22)].
(6)
نظر: الجامع لأحكام القرآن (9/ 78).
(7)
انظر: شرح مشكل الآثار (1/ 185 - 187).
(8)
انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 543).
ورجحه ابن حجر
(1)
وغيره
(2)
.
قال ابن قتيبة: "وأما قوله: (رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد)، فإنه أراد قوله لقومه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يريد سهوهُ في هذا الوقت الذي ضاق فيه صدره، واشتد جزعه بما دهمه من قومه، حتى قال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، وهو يأوي إلى الله تعالى أشد الأركان"
(3)
.
وقال ابن الأثير: " (رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد) أي: إلى الله تعالى الذي هو أشد الأركان وأقواها، وإنما ترحم عليه، لسهوه حين ضاق صدره من قومه، حتى قال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، أراد عز العشيرة الذين يُستندُ إليهم كما يستند إلى الركن من الحائط"
(4)
.
واستشهد هؤلاء بما رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه)
(5)
، قال الحافظ: "زاد ابن مردويه من هذا
(1)
انظر: فتح الباري: (6/ 415).
(2)
انظر: تحفة الأحوذي (8/ 541)، ومنة المنعم (1/ 133)، و (4/ 63)، والقواعد الحسان للسعدي مطبوع ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفاته، قسم التفسير (8/ 157).
(3)
تأويل مختلف الحديث (92).
(4)
النهاية في غريب الحديث (2/ 260).
(5)
أخرجه الإمام أحمد (16/ 168) ح (8373)، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح"، وأخرجه الترمذي (تحفة 8/ 540، 541) ح (5119، 5120)، وقال:"هذا حديث حسن"، والحاكم (2/ 611) ح (4054)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه الزيادة"، وأخرجه الطبري في التفسير (7/ 86)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 186) ح (162)، وحسنه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 64).
الوجه: (ألم تر إلى قول قوم شعيب: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] "
(1)
والثروة: الكثرة والمنعه
(2)
.
القول الثاني: ما ذهب إليه ابن حزم من أنه لا تثريب على لوط في قوله هذا، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم لومه عليه، وإنما أراد الإخبار بأن لوطًا كان في نصر من الله بالملائكة، لكنه لم يكن يعلم ذلك.
قال رحمه الله: "إن لوطًا عليه السلام، إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه -مما هم عليه من الفواحش- من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن، فلا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس، فقد قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، فهذا هو الذي طلب لوط عليه السلام.
وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى، فكيف ينكِر على لوط أمرًا هو فعله عليه السلام؟ تالله ما أنكر ذلك رسول الله، وإنما أخبر عليه السلام أن لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني: من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط عليه السلام علم بذلك، ومن ظن أن لوطًا عليه السلام اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضًا ظن سخيف، إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات -وهو دائبًا يدعو إليه- هذا الظن"
(3)
.
القول الثالث: ما ذهب إليه ابن الجوزي من أن لوطًا عليه السلام لم يغفل عن الله تعالى، ولم يترك التوكل عليه، لكن لما كان ظاهر كلامه قد يفهم منه نسيانه لله تعالى، أراد النبي صلى الله عليه وسلم منا ألَّا نقول ما يوهم ذلك.
(1)
فتح الباري (6/ 416).
(2)
انظر: سنن الترمذي (تحفة 8/ 542)، وجامع البيان (7/ 86)، وشرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 187)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 210).
(3)
الفصل (2/ 294).
قال رحمه الله: "أما قصة لوط، فإن لوطًا لم يغفل عن الله عز وجل، ولم يترك التوكل عليه، وإنما ذكر السبب، وذكره للسبب وحده يتخايل منه السامع نسيانه لله، فأراد منه نبينا عليه السلام ألَّا نقول ما يوهم هذا"
(1)
.
القول الرابع: ما ذهب إليه الأُبيِّ
(2)
وهو: أن لوطًا عليه السلام قصد من قوله هذا إظهار العذر لأضيافه، وتطييب نفوسهم، ولم يكن قط معرضًا عن الله تعالى، والاعتماد عليه، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطًا
…
) فإنما أراد منه المدح والثناء.
قال رحمه الله: "لوط عليه السلام لم ينسَ اللجأ إلى الله تعالى في القضية، وإنما قال ذلك تطييبًا لنفوس الأضياف، وإبداء العذر لهم، بحسب ما ألف في العادة من أن الدفع إنما يكون بقوة أو عشيرة، وهذا في الحقيقة محمدة وكرم أخلاق، يستحق صاحبه الحمد، فقوله عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله لوطًا) ثناءٌ لا نقد، وهو جارٍ على عرف العرب في خطابها"
(3)
.
واستدل رحمه الله بسياق الحديث، حيث إن القصد منه بيان فضل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وسيأتي نقل كلامه قريبًا إن شاء الله تعالى.
هذه هي أهم الأقوال في معنى الحديث، وحاصلها:
- الاتفاق على أن لوطًا عليه السلام عنى بقوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} : عشيرته وقومه.
(1)
كشف المشكل (3/ 358 - 389)، وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (526).
(2)
هو محمد بن خِلْفَة بن عمر الأُبي المالكي، من أهل تونس، نسبته إلى (أُبَّة) من قراها، كان عالمًا محققًا، له شرح على صحيح مسلم سماه: إكمال إكمال المعلم، جمع فيه بين شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي مع زيادات عليها، توفي رحمه الله سنة سبع وعشرين وثمانمائة (827). [انظر: البدر الطالع (2/ 169)، والأعلام (6/ 115)، ومعجم المؤلفين (3/ 278)].
(3)
إكمال إكمال المعلم (1/ 436)، وانظر: شرح النووي على مسلم (2/ 543).
- وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: (ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد): الله تعالى، فهو أقوى الأركان وأشدها.
- أنه لا خلاف في أن لوطًا عليه السلام، لم يكن يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد، كيف وهو يركن ويأوي إليه في كل وقت وحين، ولذا قال ابن حزم رحمه الله تعالى -كما تقدم-:"ومن ظن أن لوطًا عليه السلام اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر".
وإنما موطن الخلاف في الآية هو: تلك اللحظة الحرجة التي تعرض لها لوط عليه السلام، هل نسي فيها ربه عندما قال -مشيرًا إلى عشيرته وقبيلته -:{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أم لا؟ وعلى هذا ينبني معنى الحديث.
فحرف المسألة في الحديث: هل قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لائمًا للوط عليه السلام، وسائلًا الله له الرحمة والتجاوز عن هذا الخطأ، أم قاله منافحًا عنه، ومخبرًا عن حاله، أنه كان يأوي إلى الله تعالى ويعتمد عليه، حتى لا يتوهم متوهم أن لوطًا عليه السلام في قوله هذا قد ترك الاعتماد على الله تعالى؟
أكثر أهل العلم -كما ترى- قالوا: بالأول، والثاني أليق بمقام النبوة، وعليه يدل السياق، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في سياق الثناء والمدح لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام، ونفي ما قد يُتوهم في حقهم من الباطل.
قال الأُبيِّ: "السياق إنما يدل على أن المقصود: إظهار كمال هؤلاء السادة، ورزانة عقولهم، فمعنى قوله:(لقد كان يأوي إلى ركن شديد): أن لوطًا عليه السلام كان مطمئن القلب بالاستناد إلى الله تعالى، غير ملتفت عنه أصلًا، وإنما قال ما قال بلسانه إظهارًا للعذر عند أضيافه، وقد وكد النبي صلى الله عليه وسلم ثبوت لجأ لوط عليه السلام إلى الله تعالى باللام المؤذنة بالقسم، وبقد المؤذنة بالتحقيق، وعبر بالمضارع وهو:(يأوي) للتنبيه على استقرار ذلك منه، وعدم مفارقته إياه.
فالكلام مسوق لدفع توهم إيواء لوط عليه الصلاة والسلام لغير الله تعالى، كما أن قوله قبله:(نحن أحق بالشك من إبراهيم) مسوق لتنزيه
ساحة إبراهيم عليه السلام من الشكوك، وأن ما صدر منه من سؤاله تعالى فالمقصود به شيء آخر"
(1)
.
وأما قول لوط عليه السلام لقومه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: من قبيلة وعشيرة تمنعكم مما تريدون، فإنما هو ذكرٌ للأسباب المحسوسة المشهودة المباشرة
(2)
، وأهميتها في دفع الأذى عنه وعن أضيافه -وهو يعلم أنها لا تكون إلا من الله تعالى- ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه)، ولا يلزم من هذا أنه قد نسي ربه، أو ترك الاعتماد عليه في هذا الموقف، فإن الأنبياء أكمل الناس إيمانًا وأعظمهم توكلًا على الله تعالى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام يوم حنين لما اشتد عليه المشركون، وأدبر عنه من كان حوله، حتى بقي وحده، قال مناديًا:(يا معشر الأنصار)، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك
(3)
، فهل يصح أن يُقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أصحابه واستعان بهم، وناداهم، ولم ينادِ ربه، كان ذلك لأنه نسي ربه في هذا الموقف الحرج؟ قطعًا لا، وحاشاه من ذلك، بل كان ذاكرًا ربه في كل وقت وحين، يستعين به، ويتوكل عليه، ويثق بنصره، وأما نداؤه لأصحابه واستعانته بهم فلأنهم سبب من الأسباب، ليس غير.
كما لا يلزم من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للوط عليه السلام بالرحمة أن يكون قد أخطأ ونسي الله تعالى، كما قد يُتوهم، لأن ذلك قد يجري على سبيل المدح وبيان الفضل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لما استُغضب:(يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، متفق عليه
(4)
.
(1)
إكمال إكمال المعلم (1/ 437).
(2)
انظر: الفصل (2/ 294)، وتيسير الكريم الرحمن (3/ 445).
(3)
متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري: (4/ 1576) ح (4082)، ومسلم (7/ 159) خ (1059).
(4)
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: البخاري (3/ 1249) ح (3224)، ومسلم (7/ 163) ح (1062).
وهذا منه صلى الله عليه وسلم جارٍ على عادته في دفع توهم النقص عن الأنبياء عليهم السلام، خاصةً إذا صدر منهم ما يوهم ذلك، ومن أمثلة ذلك:
قوله هنا -في هذا الحديث- عن إبراهيم عليه السلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
وقوله عن يونس عليه السلام لما حصل منه ما حصل مما ذكره الله تعالى في كتابه
(1)
-: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، متفق عليه
(2)
.
ومما يدل على أن لوطًا عليه السلام لم يكن ملومًا في تمنيه وجود العشيرة، أن الله تعالى لم يعاتبه على ذلك، مع أن من شأنه تعالى أنه لا يُقِر نبيًا على خطأ
(3)
.
قال ابن تيمية عن أهل السنة: "هم متفقون على أنهم لا يُقَرُّون على خطأ في الدين أصلًا، ولا على فسوق ولا على كذب، ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله، فهم متفقون على تنزيههم عنه، وعامة الجمهور الذين يُجوزون عليهم الصغائر، يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها، فلا يصدر عنهم ما يضرهم"
(4)
.
وقال أيضًا: "إن الله لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه، كما ذكر في قصة آدم وموسى وداود، وغيرهم من الأنبياء"
(5)
.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: (رحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
(1)
انظر: معالم السنن للخطابي (4/ 286 - 287).
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري: (2/ 850) ح (2281)، ومسلم (15/ 140) ح (2374).
(3)
انظر: الشفاء للقاضي عياض (347).
(4)
منهاج السنة (1/ 472)، وانظر: مجموع الفتاوى (15/ 180، 194)، ومنة المنعم (4/ 63)، وفتاوى اللجنة الدائمة (3/ 264).
(5)
مجموع الفتاوى (15/ 148)، وانظر:(15/ 150).
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه)، فليس فيه ما يدل على أن لوطًا عليه السلام قد نسي ربه وسها عنه في هذا الموقف، بل غاية ما فيه أن لوطًا عليه السلام تمنى أن لو كان ذا كثرة ومنعة من قوم أو عشيرة، حتى يستعين بهم في حماية أضيافه، وهذا لا إشكال فيه كما تقدم.
قال الطحاوي رحمه الله -معلقًا على هذا الحديث-: "فدل ذلك أن قول لوط هذا، كان لأنه لم يكن في ثروة من قومه، يكونون له ركنًا يأوي إليهم"
(1)
.
* * *
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي):
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا: الثناء على يوسف عليه السلام، وبيان فضله، وقوة صبره وحزمه، حيث إنه لما جاءه رسول الملك، آذِنًا له بالخروج، لم يبادر إلى الخروج -كما هو مقتضى الطبيعة- مع أنه مكث في السجن بضع سنين، بل قال:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، قال ذلك: حتى تظهر براءته وتتبين مظلمته، فيخرج خروج من له الحجة، لا خروج من قد عفي عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -تواضعًا منه وأدبًا-:(لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي) أي: لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولما قدمت طلب البراءة.
فقوله: (الداعي) أي: داعي الخروج من السجن.
هذا هو معنى الحديث عند أهل العلم، كابن قتيبة والطحاوي والخطابي
(2)
والبغوي وابن عطية
(3)
، والمازري
(4)
والقاضي عياض
(5)
وابن
(1)
شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 187).
(2)
انظر: أعلام الحديث (3/ 1546 - 1547).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (9/ 316 - 318).
(4)
انظر: المعلم (1/ 213).
(5)
انظر: إكمال المعلم (1/ 465).
الجوزي
(1)
والنووي
(2)
، والأبي
(3)
وابن حجر
(4)
وابن عثيمين
(5)
وغيرهم
(6)
.
قال ابن قتيبة في بيان معنى الحديث: "يعني: حين دعي للإطلاق من الحبس، بعد الغمِّ الطويل، فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، ولم يخرج من الحبس في وقته، يصفه بالأناة والصبر، وقال: لو كنت مكانه، ثم دُعيت إلى ما دُعي إليه من الخروج من الحبس، لأجبت ولم أتلبث، وهذا جنس من تواضعه، لا أنه كان عليه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج، أو على يوسف لو خرج من الحبس مع الرسول: نقص ولا إثم، وإنما أراد أنه لم يكن يستثقل محنة الله عز وجل له، فيُبادر ويتعجل، ولكنه كان صابرًا محتسبًا"
(7)
.
وقال الطحاوي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو لبثت في السجن مثل ما لبث يوسف، لأجبت الداعي) أي: لأن يوسف لما جاءه الداعي، قال له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} أي: كنت أجبت الداعي، لأن في ذلك خروجي من السجن الذي كنت فيه"
(8)
.
وقال البغوي بعد ذكره للحديث: "وصف يوسفَ بالأناة والصبر، حيث لم يبادر إلى الخروج حين جاءه رسول الملك -فِعْل المذنب الذي يُعفى عنه- مع طول لبثه في السجن، بل قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا
(1)
انظر: كشف المشكل (3/ 359).
(2)
انظر: شرح صحيح مسلم (2/ 543 - 544).
(3)
انظر: إكمال إكمال المعلم (1/ 437).
(4)
انظر: فتح الباري (6/ 413).
(5)
انظر: تفسير القرآن الكريم (3/ 305).
(6)
انظر: جامع البيان (7/ 232 - 233)، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 524)، وتفسير القرآن العظيم (2/ 744)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 206 - 207)، وفتح القدير (3/ 33)، وتحفة الأحوذي (8/ 540)، ومنة المنعم (4/ 63).
(7)
تأويل مختلف الحديث (93).
(8)
شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 187).
بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}، أراد أن يقيم عليهم الحجة في حبسهم إياه ظلمًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضًا على سبيل التواضع، لا أنه كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف.
والتواضع لا يصغِّر كبيرًا، ولا يضع رفيعًا، ولا يبطل لذي حق حقًا، ولكنه يوجب لصاحبه فضلًا، ويكسبه جلالًا وقدرًا"
(1)
.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، "يقول تعالى إخبارًا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي رآها بما أعجبه وأيقنه، فعرف فضل يوسف عليه السلام، وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه، وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه، فقال: {ائْتُونِي بِهِ} أي: أخرجوه من السجن وأحضروه، فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلمًا وعدوانًا، فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} الآية، وقد وردت السنة بمدحه على ذلك، والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره صلوات الله وسلامه عليه"
(2)
، ثم ذكر هذا الحديث.
* * *
(1)
شرح السنة (1/ 116)، وانظر: معالم السنن (2/ 430).
(2)
تفسير القرآن العظيم (2/ 744).