الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم فى هذا الإشكال
سلك أهل العلم في معنى هذا الحديث - (نحن أحق بالشك من إبراهيم) - مسلكين:
أحدهما: تنزيه إبراهيم ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام، عن الشك في قدرة الله على إحياء الموتى، والقطع بعدم دلالة الحديث على ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، لكنهم اختلفوا في معنى الحديث على عدة أقوال، أشهرها:
القول الأول: أن المراد بهذا الحديث نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، فكأنه قال: إن إبراهيم عليه السلام لم يشك، ولو كان الشك متطرقًا إليه لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا نحن لم نشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه السلام من باب أولى ألَّا يشك، قال ذلك عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع وهضم النفس.
وإلى هذا القول ذهب جمهور أهل العلم، كابن قتيبة، والطحاوي
(1)
، والخطابي، والحميدي
(2)
، وابن عطية
(3)
، وابن حزم
(4)
، والقاضي عياض
(5)
، وابن الجوزي، والنووي
(6)
، وصفي الرحمن
(1)
انظر: شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 184).
(2)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (292).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (2/ 303).
(4)
انظر: الفصل (2/ 292 - 293).
(5)
انظر: الشفاء (310).
(6)
انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 542).
المباركفوري
(1)
وابن عثيمين
(2)
وغيرهم
(3)
.
قال ابن قتيبة: "قال قوم سمعوا الآية: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام، تواضعًا منه، وتقديمًا لإبراهيم على نفسه، يريد: أنَّا لم نشك ونحن دونه فكيف يشك هو؟ "
(4)
.
وقال الخطابي: "مذهب الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم عليه السلام، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك فيه وأن لا يرتاب"
(5)
.
وقال ابن الجوزي: "مخرج هذا الحديث مخرج التواضع وكسر النفس، وليس في قوله: (نحن أحق بالشك) إثبات شك له ولا لإبراهيم، وإنما يتضمن نفي الشك عنهما، لأن قومًا ظنوا في قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] أنه شك، فنفى ذلك عنه، وإنما المعنى: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى ألَّا يشك، فكأنه رفعه على نفسه"
(6)
.
(1)
انظر: منة المنعم في شرح صحيح مسلم (1/ 133)، و (4/ 63).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم (3/ 305)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 219).
(3)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 525)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 488)، ومعالم التنزيل (1/ 248)، وشرح السنة كلاهما للبغوي، وإكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 465)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 298 - 299)، وشرح النووي على مسلم (2/ 542)، ومدارج السالكين (1/ 507)، وفتح الباري (6/ 412).
(4)
تأويل مختلف الحديث (91 - 92).
(5)
أعلام الحديث (3/ 1545 - 1546).
(6)
كشف المشكل (3/ 358).
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سمَّى التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكًا، فأطلق على ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم عليه السلام اسم الشك، وإلا فإبراهيم عليه السلام كان مؤمنًا مَوقنًا، ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
وإلى هذا ذهب ابن تيمية وابن القيم
(1)
عليهما رحمة الله.
قال ابن تيمية: "ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا، كما أخبر الله عنه بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى}، ولكن طلب طمأنينة قلبه، كما قال: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان، سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكًا لذلك بإحياء الموتى"
(2)
.
القول الثالث: أن إبراهيم عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يشكا في قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما شكَّا أن يجيبهما إلى ما سألا.
وإلى هذا ذهب المزني
(3)
(4)
وابن حبان
(5)
.
وذكر ابن الجوزي أن معنى قوله: (أنا أحق بالشك من إبراهيم) بناءً على هذا القول: "أي: أنا أولى أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الذي يشك السائل في إجابة ربه فيه، وإنما صار أحق، لِما عانى من تكذيب قومه له،
(1)
انظر: مدارج السالكين (1/ 507).
(2)
مجموع الفتاوى (15/ 178)، وانظر:(23/ 11).
(3)
هو الإمام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم المزني المصري صاحب الإمام الشافعي، كان زاهدًا عالمًا مجتهدًا فقيهًا قوي الحجة وهو إمام الشافعية توفي رحمه الله سنة (264 هـ) له مؤلفات منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر. [انظر: وفيات الأعيان (1/ 220)، والعبر (1/ 379)، وشذرات الذهب (2/ 148)، والأعلام (1/ 329)].
(4)
انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 487)، ومعالم التنزيل (1/ 248)، وشرح السنة (1/ 115).
(5)
انظر: صحيح ابن حبان (14/ 89 - 90).
وردهم عليه، وتعجبهم من ذكر البعث، فقال: أنا أحق أن أسأل ما سأل إبراهيم، لعظيم ما جرى عليَّ من قومي، ولمعرفتي بتفضيل الله عز وجل إياي على الأنبياء، ولكني لا أسأل"
(1)
.
هذه هي أهم الأقوال -التي تنفي الشك عن إبراهيم عليه السلام- في معنى الحديث.
وأما الآية، وهي قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فقد اختلف أصحاب هذا المسلك في معناها، أي: في سبب سؤال إبراهيم عليه السلام، وطلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى على عدة أقوال، أهمها:
1 -
أنه سأل عن كيفية الإحياء، ليزداد بذلك إيمانًا ويقينًا، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وذلك عندما يرى كيفية الإحياء، ولم يكن بذلك شاكًا في القدرة، ولا جاهلًا بمعنى الإحياء، وعلى هذا القول جمهور أهل العلم
(2)
.
ويكون معنى قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد إيمانًا مع إيمانه، ويقينًا مع يقينه.
قال ابن قتيبة: "تأويل قول إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي:
(1)
كشف المشكل (3/ 358).
(2)
انظر: جامع البيان (3/ 49)، والمحرر الوجيز لابن عطية (2/ 301، 303)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 488)، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 525)، والفصل لابن حزم (2/ 292)، والمعلم للمازري (1/ 213)، و (3/ 130)، ومعالم التنزيل للبغوي (1/ 247، 248)، وإكمال المعلم (1/ 464)، والشفاء (310) كلاهما للقاضي عياض وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 358)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 297، 299)، وشرح النووي على مسلم (2/ 542 - 543)، ومدارج السالكين (1/ 507)، وفتح الباري (6/ 413)، وفتح القدير (1/ 281)، وتيسير الكريم الرحمن (1/ 323)، و (2/ 364)، ومنة المنعم لصفي الرحمن المباركفوري (1/ 133)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 303).
يطمئن بيقين النظر، واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين البصر.
ويقين البصر أعلى اليقينين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليس المُخبر كالمُعاين)
(1)
، حين ذكرَ قوم موسى وعكوفهم على العجل، قال: أعلمه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل، فلم يُلقِ الألواح، فلما عاينهم عاكفين، غضب وألقى الألواح حتى تكسرت.
وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار، مستيقنون أن ذلك كله حق، وهو في القيامة -عند النظر والعيان- أعلى يقينًا.
فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن قلبه بالنظر الذي هو أعلى اليقينين"
(2)
.
وقال الخطابي: "المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم، واستفادة معرفة كيفية الإحياء، والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ما لا تجده بعلم الآنيَّة، والعلم في الوجهين حاصل، والشك مرفوع"
(3)
.
وقال أبو عبد الله القرطبي: "إنما سأل كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها، فأراد أن يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فقوله: {أَرِنِي كَيْفَ} طلب مشاهدة الكيفية"
(4)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس: (4/ 147) ح (2447)، ولفظه:(ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يُلقِ الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت)، وحكم أحمد شاكر على إسناده بالصحة، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 351) ح (3250)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، كما أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/ 96، 97) ح (6214، 6213)، والطبراني في الأوسط (1/ 12) ح (25). وأخرجه الإمام أحمد (3/ 254) ح (1843) مختصرًا بدون ذكر القصة، وصحح إسناده أحمد شاكر.
(2)
تأويل مختلف الحديث (92).
(3)
أعلام الحديث (3/ 1546).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 299).
2 -
أنه عندما بُشر بأن الله عز وجل قد اتخذه خليلًا، سأل ربه هذا السؤال، لتكون إجابة دعائه وإحياء الموتى بسؤاله دليلًا وعلامة على خلته، وعظيم منزلته عند الله تعالى، وعلى هذا يكون معنى قوله:{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: بالخلة وعلو المنزلة
(1)
.
وإلى هذا القول ذهب الطحاوي
(2)
، وهو مروي عن السدي
(3)
وسعيد بن جبير
(4)
(5)
وعبد الله بن المبارك
(6)
.
3 -
أن سبب سؤاله: المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين النمرود، فطلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليتضح استدلاله عيانًا بعد أن كان بيانًا
(7)
. وهذا القول يؤول إلى القول الأول، ولذا قال الطبري: "وهذان القولان -أعني: الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى، في أن مسألة إبراهيم
(1)
انظر: المعلم للمازري (3/ 130)، وإكمال المعلم (1/ 464)، والشفاء (310)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 300)، وشرح النووي على مسلم (2/ 542 - 543).
(2)
انظر: شرح مشكل الآثار (تحفة 1/ 184).
(3)
انظر: جامع البيان (3/ 50)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 300).
(4)
هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي مولاهم الكوفي أبو عبد الله -وقيل أبو محمد- الفقيه المفسر أحد الأعلام، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وكان مع عبد الرحمن بن الأشعث لما خرج على عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج لذلك سنة (95 هـ)، ولم يكمل الخمسين من عمره. [انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 76)، والسير (4/ 321) العبر (1/ 84)، وتقريب التهذيب (1/ 349)].
(5)
انظر: جامع البيان (3/ 50)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 488 - 489)، ومعالم التنزيل (1/ 247)، وشرح السنة (1/ 116)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 300).
(6)
انظر: أعلام الحديث للخطابي (3/ 1546)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 488)، وشرح السنة للبغوي (1/ 116).
(7)
انظر: جامع البيان (3/ 49 - 50)، ومعالم التنزيل (1/ 247)، وإكمال المعلم (1/ 465)، والشفاء (310)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 300).
ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا"
(1)
.
المسلك الثاني: الاستدلال بالحديث على وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام، وذلك عند ما سأل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، وكان هذا لعارض عرض له من الشيطان.
وقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: لئلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي ألقى من الشك
(2)
.
حكى هذا القول الطبري ورجحه، واستند في ذلك إلى ما يلي
(3)
:
1 -
ما رواه هو عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : "ما في القرآن آية أرجى عندي منها".
2 -
وما رواه أيضًا عن عطاء بن أبي رباح
(4)
أنه قال في هذه الآية: "دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ".
3 -
حديث: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، حيث جعل ظاهره -كما تقدم- يدل على وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام.
فأصحاب هذا القول جعلوا سبب سؤال إبراهيم عليه السلام: ما عرض له في قلبه من الشك.
(1)
جامع البيان (3/ 50).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 298)، وفتح الباري (6/ 410).
(3)
انظر: جامع البيان (3/ 51)، والمحرر الوجيز لابن عطية (2/ 301)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 298)، وفتح الباري (6/ 411).
(4)
هو عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم المكي الثقة الفقيه الفاضل مفتي أهل مكة ومحدثهم، سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم، له مناقب في العلم والزهد والتأله كثيرة، توفي رحمه الله سنة (114 هـ)، وقيل سنة (115). [انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 98)، والسير (5/ 78)، وتقريب التهذيب (1/ 674)].