الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
للناس مع هذا الحديث موقفان:
الموقف الأول: من فهم منه جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وهؤلاء هم القدرية من المعتزلة
(1)
ومن نحا نحوهم، وكذا الجبرية من الجهمية ومن وافقهم، وقد نتج عن هذا الفهم رأيان فاسدان:
أحدهما: ردُّه وإنكاره وتكذيبه كما فعل أبو علي الجبائي وغيره من المعتزلة القدرية ومن وافقهم، قالوا: لو صح هذا الحديث لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، وارتفع الذم والعقاب عمن عصى الله تعالى
(2)
.
(1)
المعتزلة: فرقة من الفرق الضالة، من رؤوسها ومؤسسيها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، تعتقد نفي صفات الله تعالى الأزلية وعدم إثباتها، وأن صاحب الكبيرة في الدنيا في منزلة بين المنزلتين وفي الآخرة خالد مخلد في النار، وفي باب القدر تعتقد مذهب القدرية النفاة، أي أن الله غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لها على جهة الاستقلال.
قيل في سبب تسميتهم بالمعتزلة: إن واصل بن عطاء كان من منتابي مجلس الحسن البصري، فلما قال بالمنزلة بين المنزلتين علم بذلك الحسن البصري فطرده عن مجلسه، فاعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم إليه قرينه في الضلالة عمرو بن عبيد، فقال الناس يومئذ فيهما: إنهما قد اعتزلا قول الأمة، وسمي أتباعهما من يومئذ: معتزلة. [انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 298، 235)، والفرق بين الفرق (112 - 116)، والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني (79)، والملل والنحل (1/ 43 - 46)].
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 304)، ودرء التعارض (8/ 418)، ومنهاج السنة =
والثاني: قبوله والاحتجاج به على فعل المعاصي، فكلما عملوا معصية احتجوا بالقدر، فجعلوا هذا الحديث عمدة لهم في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهبت الجبرية ومن نحا نحوهم من الصوفية وغيرهم
(1)
.
وأما الموقف الثاني: فهو القطع بعدم جواز الاحتجاج به على فعل المعاصي، وإلى هذا ذهب علماء أهل السنة والجماعة، ولكنهم اختلفوا في تفسير هذا الحديث -بعد قبوله والإيمان به- على عدة أقوال، منها:
القول الأول: أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على المصيبة التي حصلت له وذريته، وهي الإخراج من الجنة والنزول إلى الأرض دار الابتلاء والمحنة، وذلك بسبب فعله وخطيئته، ولذا قال:(أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم)، وذكر الذنب تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، فاحتج عليه آدم بالقدر على المصيبة، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟ .
وإلى هذا ذهب ابن تيمية، وابن القيم
(2)
، وابن كثير
(3)
، وابن أبي العز
(4)
، وابن رجب، وابن عثيمين
(5)
، وغيرهم، عليهم رحمة الله.
= (3/ 79)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (98)، وشفاء العليل (1/ 46)، والبداية والنهاية (1/ 78)، وشرح العقيدة الطحاوية (136)، وفتح الباري (11/ 510).
(1)
انظر: منهاج السنة (3/ 58)، ومجموع الفتاوى (8/ 305)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (98)، وشفاء العليل (1/ 49 - 50)، والبداية والنهاية (1/ 78).
(2)
انظر: شفاء العليل (1/ 56).
(3)
انظر: البداية والنهاية (1/ 78 - 79).
(4)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (135 - 136).
(5)
انظر: تقريب التدمرية (101 - 102).
قال ابن تيمية: "فآدم عليه السلام إنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة، بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122]، وموسى -ومن هو دون موسى- عليه السلام يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب، وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه، وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] "
(1)
.
وقال ابن رجب: "لما التقى آدم وموسى عليهم السلام، عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريته من الجنة، فاحتج آدم بالقدر السابق، والاحتجاج بالقدر على المصائب حسن، كما قال صلى الله عليه وسلم:(إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)
(2)
"
(3)
.
القول الثاني: أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على المعصية لكونها سبب المصيبة، لا لكونها معصية، فاحتج آدم بالقدر على المعصية لكونه قد تاب
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 108)، وانظر:(8/ 178، 319)، ودرء التعارض (8/ 419)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 857 - 858)، والتدمرية (230 - 231)، ومنهاج السنة (3/ 78، 80 - 81)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (98 - 99).
(2)
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (16/ 455) ح (2664).
(3)
لطائف المعارف (62).
منها، والاحتجاج بالقدر على المعصية بعد وقوعها والتوبة منها وترك معاودتها لا محذور فيه.
وهذا القول جواب آخر لابن القيم على هذا الحديث، وكذا الشيخ ابن عثيمين
(1)
، وبه قال ابن الوزير وعزاه لأهل السنة
(2)
.
قال ابن القيم: "وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتُج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمرًا ولا نهيًا، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى:(أتلومني على أن عملت عملًا كان مكتوبًا علي قبل أن أخلق؟ ) فإذا أذنب الرجل ذنبًا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقًا، ولا ذكره حجة على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلًا محرمًا أو يترك واجبًا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطل بالاحتجاج به حقًا ويرتكب باطلًا، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، فاحتجوا به مصوِّبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبيَّن له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
(1)
انظر: تقريب التدمرية (102 - 103)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (2/ 107).
(2)
انظر: الروض الباسم (2/ 465).
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا فالاحتجاج بالقدر باطل"
(1)
.
القول الثالث: أن ذلك مخصوص بآدم عليه السلام، وكانت له الحجة لأن موسى عليه السلام لامه على المعصية والخطيئة بعد أن تاب منها، فحسن من آدم عليه السلام أن يحتج بالقدر على فعل المعصية، لأنه قد تيب عليه منها، كما قال تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البر وغيره
(2)
.
قال رحمه الله: "وأما قوله: (أفتلومني على أمر قد قدر علي؟ )، فهذا -عندي- مخصوص به آدم، لأن ذلك إنما كان منه ومن موسى عليه السلام بعد أن تيب على آدم، وبعد أن تلقى من ربه كلمات تاب بها عليه، فحسن منه أن يقول ذلك لموسى، لأنه قد كان تيب عليه من ذلك الذنب، وهذا غير جائز أن يقوله اليوم أحد إذا أتى ما نهاه الله عنه، ويحتج بمثل هذا، فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وذلك قد سبق في علم الله وقدره علي قبل أن أخلق؟ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يقوله"
(3)
.
والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن هذا القول يجعل لوم موسى لآدم عليه السلام، على المعصية لذات المعصية، بينما القول السابق يجعل لوم موسى لآدم عليه السلام، على المعصية من أجل أنها سبب المصيبة، لا من أجل كونها معصية
(4)
.
القول الرابع: أن الحجة توجهت لآدم لأن موسى عليه السلام لامه في غير
(1)
شفاء العليل (1/ 56 - 57)، وانظر: تقريب التدمرية (102 - 103).
(2)
انظر: المفهم للقرطبي (6/ 668)، وشرح النووي على مسلم (16/ 441 - 442)، ومجموع الفتاوى (8/ 305)، ودرء التعارض (8/ 418)، وشفاء العليل (1/ 49)، والبداية والنهاية (1/ 78)، وفتح الباري (11/ 510).
(3)
التمهيد (18/ 15).
(4)
انظر: شفاء العليل (1/ 49).
دار التكليف -بعد أن مات آدم- ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى، لأن الأحكام حينئذٍ جارية عليه
(1)
.
القول الخامس: أن آدم حج موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى
(2)
.
القول السادس: أن آدم أب وموسى ابن، وليس للابن أن يلوم أباه، ولذا حجه آدم كما يحج الرجل ابنه
(3)
.
* * *
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 305)، ودرء التعارض (8/ 418)، ومنهاج السنة (3/ 79)، وشفاء العليل (1/ 49)، والبداية والنهاية (1/ 78)، والفتح (11/ 511).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 305)، ودرء التعارض (8/ 418)، ومنهاج السنة (3/ 80)، وشفاء العليل (1/ 49)، والبداية والنهاية (1/ 78)، والفتح (11/ 511).
(3)
انظر: المفهم (6/ 667)، ومجموع الفتاوى (8/ 305)، ودرء التعارض (8/ 418)، ومنهاج السنة (3/ 80)، وشفاء العليل (1/ 48)، والبداية والنهاية (1/ 78)، وفتح الباري (11/ 511).