الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في هذا الحديث على عدة أقوال:
القول الأول: أن ملك الموت قد أتى موسى عليه السلام في صورة بشرية، ولم يعرفه موسى عليه السلام، فلطمه، لأنه رآه آدميًا قد دخل داره بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى عليه السلام عن نفسه مدافعة أدَّت إلى فقء عين ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه.
وقالوا: إن مجيء الملك على صورة البشر، وعدم معرفة موسى له: له نظائر، فقد جاءت الملائكة إلى غير واحد من الأنبياء على صورة البشر، دون أن يعرفوا أنهم ملائكة، كما جاءت إلى إبراهيم وإلى لوط وإلى نبينا محمد عليهم الصلاة والسلام.
وإلى هذا ذهب ابن خزيمة
(1)
، وابن حبان، والخطابي
(2)
، والبغوي
(3)
، والمازري
(4)
، والقاضي عياض
(5)
، وابن الجوزي
(6)
، وابن
(1)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 322)، وإكمال المعلم (7/ 353)، والمفهم (6/ 221)، وشرح النووي على مسلم (15/ 138)، وفتح الباري (6/ 442).
(2)
انظر: أعلام الحديث (1/ 698 - 700)، وقد نقل كلامه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 450 - 452)، ولم ينقل غيره، ومثله البغوي في شرح السنة (10/ 266 - 268).
(3)
انظر: شرح السنة (10/ 266 - 268).
(4)
انظر: المعلم (3/ 133).
(5)
انظر: إكمال المعلم (7/ 353).
(6)
انظر: كشف المشكل (3/ 444).
كثير
(1)
، وابن الوزير
(2)
، والقسطلاني
(3)
، والمعلمي
(4)
، واستحسنه القرطبي
(5)
.
قال ابن حبان: "كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيورًا، فرأى في داره رجلًا لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها
…
ولمَّا كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل دارَه بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره، من غير جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الجمة الواردة فيه
…
كان جائزًا اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمَّن فقأ عين الداخل دارَه بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيًا بأمر آخر، أمر اختبار وابتلاء
…
فلما علم موسى كليم الله صلى الله على نبينا وعليه أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: الآن.
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به"
(6)
.
(1)
انظر: البداية والنهاية (1/ 296).
(2)
انظر: العواصم والقواصم (8/ 369 - 370)، والروض الباسم (2/ 477).
(3)
انظر: إرشاد الساري (3/ 425)، والقسطلاني هو: الإمام أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني الأصل المصري الشافعي، ولد ونشأ بمصر كان من علماء الحديث، توفي رحمه الله سنة (923 هـ) له عدة مؤلفات من أشهرها وأهمها: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري. [انظر: شذرات الذهب (8/ 121)، والبدر الطالع (1/ 102)، والأعلام (1/ 232)]
(4)
انظر: الأنوار الكاشفة (219 - 220).
(5)
انظر: المفهم (7/ 221).
(6)
صحيح ابن حبان (14/ 115 - 116).
وقال المازري: فإن قيل: "فقد رجع إليه ثانية واستسلم موسى إليه، فدلَّ على معرفته به، قلنا: قد يكون أتاه في الثانية بآية وعلامة علم بها أنه ملك الموت، وأنه من قِبَل الله عز وجل، فاستسلم لأمر الله، ولم يأته أولًا بآية يعرفه بها، فكان منه ما كان"
(1)
.
القول الثاني: أن ملك الموت قد تصوَّر لموسى عليه السلام بصورة بشر -وهي صورة تمثيل وتخييل- وقد لطمه موسى وأذهب عينه التي هي تمثيل وتخييل، لا حقيقة، ثم أعاده الله إلى خلقته الحقيقية، وهذا معنى قوله:(فرد الله عليه عينه).
وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره
(2)
.
قال ابن قتيبة: "قد جعل الله سبحانه للملائكة من الاستطاعة أن تتمثل في صور مختلفة، وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جبريلُ عليه السلام في صورة دحية الكلبي، وفي صورة أعرابي، ورآه مرة قد سد بجناحيه ما بين الأفقين.: وليس ما تنتقل إليه من هذه الأمثلة على الحقائق، إنما هي تمثيل وتخييل، لتلحقها بالأبصار، وحقائق خلقها أنها أرواح لطيفة
…
ولما مَثَلَ ملك الموت لموسى عليه السلام -وهذا ملك الله، وهذا نبي الله- وجاذبه، لطمه موسى لطمةً أذهبت العين التي هي تمثيل وتخييل، وليست حقيقة، وعاد ملك الموت عليه السلام إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان، لم ينتقص منه شيء"
(3)
.
القول الثالث: أن موسى عليه السلام قد أُذن له بهذا الفعل -اللطمة- ابتلاءً وامتحانًا لملك الموت.
(1)
المعلم (3/ 133).
(2)
انظر: مشكل الحديث لابن فورك (334)، والحجة في بيان المحجة (2/ 436 - 437)، والمعلم (3/ 132)، والمجموع المغيث (2/ 629)، والمفهم (6/ 221).
(3)
تأويل مختلف الحديث (257 - 258)، وانظر: الفتح (6/ 443).
جوَّز هذا ابن فورك
(1)
، وابن عقيل
(2)
، والنووي
(3)
، واستحسنه المازري
(4)
.
قال ابن عقيل: "يجوز أن يكون قد أُذن له في ذلك الفعل، وابتلي ملك الموت بالصبر عليه، كقصة الخضر مع موسى"
(5)
، حيث أُمر بالصبر على ما يصنع الخضر.
القول الرابع: أن هذا على طريق التوسع والتجوّز في الكلام، والمراد به: أن موسى عليه السلام ناظره فغلبه في الحجة، فقوله:(فقأ عينه) أي: أبطل حجته.
ذكر هذا ابن فورك ومال إليه
(6)
.
القول الخامس: أن موسى لطم ملك الموت وهو يعرفه، وفعل ذلك لأن ملك الموت جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، وكان من علم موسى أن الأنبياء لا تُقبض حتى تُخيَّر.
وإلى هذا ذهب القرطبي، حيث قال: "قد أظهر لي ذو الطَوْل
(1)
انظر: مشكل الحديث (434).
(2)
هو العلامة البحر شيخ الحنابلة أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي المتكلم، صاحب التصانيف، كان يتوقد ذكاءً، وكان صاحب معارف وفضائل، إلا أنه انحرف عن السنة ووافق المعتزلة في عدة بدع، من أشهر مصنفاته: كتاب الفنون، توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة (513). [انظر: طبقات الحنابلة (3/ 482)، والسير (19/ 443)، والعبر (2/ 400)، وشذرات الذهب (4/ 35)].
(3)
نقل ذلك عنه ابن حجر في الفتح (6/ 442).
(4)
انظر: المعلم (3/ 133).
(5)
نقل ذلك عنه ابن الجوزي في كشف المشكل (3/ 444)، وابن حجر في فتح الباري (6/ 443)، وانظر: المفهم (6/ 221).
(6)
انظر: مشكل الحديث (434)، والمعلم (3/ 132 - 133)، والمفهم (6/ 221)، والفتح (6/ 442).
والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادة الإشكال، وهو أن موسى عرف ملك الموت، وأنه جاء لقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نصَّ عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى (لا يقبض روح نبيٍّ حتى يخيره)
(1)
، فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم به، بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت، فلطمه فانفقأت عينه، امتحانًا لملك الموت، إذ لم يُصرِّح له بالتخيير، ومما يدل على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت، فخيَّره بين الحياة والموت، اختار الموت واستسلم"
(2)
.
* * *
(1)
متفق عليه من حديث عائشة: البخاري (4/ 1612 - 1613) ح (4171، 4172)، ومسلم (15/ 217 - 218) ح (2444).
(2)
المفهم (6/ 221).