الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
حاصل الأقوال المتقدمة كلها: الاتفاق على أن الكافر لا تنفعه أعماله الحسنة نفعًا يخلصه من النار ويدخله الجنة، حتى ولو اقترن ذلك بشفاعة شافع، وهذا مما انعقد الإجماع عليه، كما نقله القاضي عياض
(1)
، والنووي
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار، والاستغفار لهم، مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهًا، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى عنه:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41]، وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب، اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]، ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 114، 115]
…
فهذا لما مات مشركًا لم
(1)
انظر: إكمال المعلم (1/ 597)، وشرح النووي على مسلم (3/ 87).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (17/ 155).
ينفعه استغفار إبراهيم، مع عظم جاهه وقدره"
(1)
.
ويبقى الكلام في تخفيف العذاب على الكافر بسبب حسنات عملها، هل هو خاص في أبي طالب، لورود النص به، أم أنه عام فيه وفي غيره من الكفار؟ في هذا وقع الخلاف كما تقدم.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن ذلك خاص بأبي طالب، وأما سائر الكفار فقد أخبر الله تعالى أنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وعلى هذا فلا تعارض بين شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، وقوله تعالى عن الكفار:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48] لأن الآية محكمة، والحديث ثابت، فتعين القول بهذا، وهو تخصيص الآية بالحديث، علمًا أن هذا النفع الحاصل لأبي طالب ليس نفعًا كاملًا، وإنما هو نفع ناقص، فالعذاب لم يسقط عنه بالكلية وإنما خفف، ومع هذا فهو لا يرى أن أحدًا أشد عذابًا منه.
وأما القول الثاني وهو أن التخفيف يعم كل كافر له حسنات، فليس في الحديث ما يدل عليه، فإن التخفيف عن أبي طالب إنما كان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له لا بعمله، كما هو ظاهر الحديث:(لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة)، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له مبنية على سبب معين له تعلق به عليه السلام، حيث جاء في الحديث: فإنه كان يحوطك ويغضب لك، فنصرته للنبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له هي سبب الشفاعة، وليس سببها أعمال خير قدمها غير هذا، وعليه فلا وجه لإقحام أعمال الكفار الحسنة في هذا النزاع، ولا الاستدلال بهذا الحديث على نفعها لعموم الكفار في الآخرة، لا سيما وقد ورد النص الصحيح الصريح بخلافه، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:(لا إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
(1)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (8)، وانظر: مجموع الفتاوى (1/ 145 - 146).
قال النووي: "معنى هذا الحديث: أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام ووجوه المكارم، لا ينفعه في الآخرة لكونه كافرًا، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لم يقل: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: لم يكن مصدقًا بالبعث، ومن لم يصدق به كافر، ولا ينفعه عمل"
(1)
.
وجاء في صحيح مسلم أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
قال القاضي عياض: "الأصل أن الكافر لا يجزى في الآخرة على خير عمله في الدنيا، ولا يكتب له حسنة، لأن شرط الثواب والجزاء عُدِم، وهو الإيمان، لكن أخبر في هذا الحديث أنه من عدْل الله أنه قد جازاه بها في الدنيا بما أعطاه ورزقه وأطعمه، بخلاف المؤمن الذي يدخر له حسناته في الآخرة"
(2)
.
وأما استدلالهم بعموم قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]، فقد أجاب عنه الحافظ ابن كثير فقال:"قصارى هذه الآية: العموم، فيخص من ذلك الكافرون"
(3)
، ثم استدل على هذا التخصيص بقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن جدعان -وقد تقدم- وكذا قوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
وقال ابن حجر بعد ذكر هذا القول واستدلال أصحابه بهذه الآية: "هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وحديث أنس الذي أشرت إليه"
(4)
يعني الحديث المتقدم.
(1)
شرح النووي على مسلم (3/ 87).
(2)
إكمال المعلم (8/ 341 - 342)، وانظر: شرح النووي على مسلم (17/ 155).
(3)
النهاية (2/ 37).
(4)
الفتح (11/ 431).
وأما حديث عروة في أبي لهب وعتاقته ثويبه فقد ذكر الجواب عنه الحافظ ابن حجر فقال: "في الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
وأُجيب:
أولًا: بأن الخبر مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به.
وثانيًا: على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا من ذلك، بدليل قصة أبي طالب"
(1)
.
تنبيه:
رُوي في معنى هذا القول -أعني القول الثاني- حديث ضعيف، وهو ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما أحسنَ محسنٌ من مسلم ولا كافر إلا أثابه الله)، قال: فقلنا: يا رسول الله ما إثابة الله الكافر؟ قال: (إن كان قد وصل رحمًا أو تصدق بصدقةٍ أو عمل حسنةً، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك)، قال: فقلنا: ما إثابته في الآخرة؟ فقال: (عذابًا دون عذاب) قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]
(2)
.
(1)
الفتح (9/ 145)، وانظر: الجامع في شعب الإيمان (2/ 66 - 67)، وإكمال المعلم (1/ 596).
(2)
أخرجه الحاكم (2/ 278) ح (3001)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال:"عتبة واهٍ"، والبزار (كشف 1/ 448)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 64) ح (277)، وقال:"في إسناده من لا يحتج به"، وفي البعث (62) ح (15)، وقال:"في إسناده نظر"، وأورده الهيثمي في المجمع (3/ 111)، وقال: "رواه البزار، وفيه عتبة بن يقظان، وفيه كلام، وقد وثقه ابن حبان، =
فهذا الحديث ذكرته للتنبيه على ضعفه، وإلا فلم أقف -بعد البحث- على من احتج به، غير أن البيهقي قال بعد سياقه له: هذا إن ثبت ففيه الحجة، لكن في إسناده من لا يحتج به
(1)
.
وأما القول الثالث: وهو رد الحديث وإنكاره فقد قال عنه البيهقي: "حديث أبي طالب صحيح، ولا معنى لإنكار الحليمي رحمه الله الحديث، ولا أدري كيف ذهب عنه صحة ذلك، فقد رُوي من أوجه عن عبد الملك بن عمير، ورُوي من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وقد أخرجه صاحبا الصحيح، وغيرهما من الأئمة في كتبهم الصحاح"
(2)
.
* * *
= وبقية رجاله ثقات"، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 432): "سنده ضعيف"، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (5/ 40)، وعزاه لابن ماجه في التفسير، وقال عنه: "منكر".
قلت: وعتبة هذا هو ابن يقظان الراسبي، أبو عمرو، قال فيه النسائي: غير ثقة، وقال علي بن الحسين ابن الجنيد: لا يساوي شيئًا، وقال ابن حجر: ضعيف. [انظر: الجرح والتعديل (6/ 374)، وتهذيب الكمال (19/ 326)، وميزان الاعتدال (5/ 39 - 40)، وتهذيب التهذيب (7/ 92)، وتقريب التهذيب (1/ 654)].
(1)
انظر: الجامع لشعب الإيمان (2/ 65).
(2)
الجامع لشعب الإيمان (2/ 66)، وانظر: البعث (61).