الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه الإشكال
روى البخاري ومسلم عليهما رحمة الله حديث المُحَاجَّة بين آدم وموسى عليه السلام من عدة طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكلها بألفاظ متقاربة تدل على معنى واحد، ما عدا طريق واحد فقد جاء مخالفًا في معناه للطرق الأخرى، وإليك البيان:
أ- أما اللفظ الأول، والذي جاءت به جميع الطرق ماعدا واحدًا منها، فهو: أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على الإخراج من الجنة، فاحتج عليه آدم بأن ذلك مقدر عليه قبل أن يخلق بأربعين سنةً، وإليك طرقه وألفاظه:
1 -
طريق حميد بن عبد الرحمن، ولفظه: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:(فحجَّ آدم موسى) مرتين
(1)
.
2 -
طريق محمد بن سيرين، ولفظه: عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: (التقى آدم وموسى
(2)
، فقال موسى لآدم: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من
(1)
متفق عليه: البخاري في موضعين: في كتاب الأنبياء، باب: وفاة موسى وذكره بعد (3/ 1251) ح (3228)، وفي كتاب التوحيد، باب: قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (6/ 2730) ح (7077).
ومسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليه السلام (16/ 441) ح (2652).
(2)
اختلف أهل العلم في وقت هذه المحاجة وهذا الالتقاء بين آدم وموسى عليه السلام، فذكروا فيها عدة أقوال، منها:
الجنة، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدتها كتب علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحج آدم موسى)
(1)
.
3 -
طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، ولفظه: عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: (حاجَّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم، قال: قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره علي
= - أن ذلك كان في زمان موسى عليه السلام، حيث أحيا الله آدم معجزة له فكلمه.
- وقيل: بل كشف الله لموسى عليه السلام عن قبر آدم عليه السلام فكلمه.
- وقيل: إن ذلك لم يقع بعد، وإنما يقع في الآخرة، وأخبر عنه النبي -صلي الله عليه وسلم- بلفظ الماضي لتحقق وقوعه.
[انظر: التمهيد (18/ 16)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 382)، والمفهم (6/ 665)، وشرح النووي على مسلم (16/ 439)، وفتح الباري (11/ 506)، وطرح التثريب (8/ 247)] وكلها اجتهادات لا دليل عليها، إذ لم يرد في أي من طرق هذا الحديث تحديد وقتها ولا مكانها ولا كيفيتها، وعلى هذا فالواجب الوقوف عند حدود ما ورد، والله أعلم.
قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 16): "ذلك عندي لا يحتمل تكييفًا، وإنما فيه التسليم، لأنا لم نؤتَ من جنس هذا العلم إلا قليلًا".
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل (3/ 382 - 383): "فإن قال قائل: كيف اجتمعا ومتى اجتمعا؟ فالجواب: أنه يجب الإيمان بكل ما نخبر به عن الصادق المصدوق وإن لم نطلع على كيفيته
…
وليس هذا بأول خبر يجب علينا الإيمان به وإن جهلنا معناه
…
ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات للإحساس لم يبقَ إلا فرض التسليم" قلت: المعنى واضح غير مجهول، وإنما المجهول الكيفية، وهذا مراد ابن الجوزي في قوله: "وإن جهلنا معناه" أي: كيفيته كما قد صرح به في أول هذا النقل، والله أعلم.
(1)
متفق عليه: البخاري: كتاب التفسير، باب: قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} (4/ 1764) ح (4459)، ومسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليه السلام (16/ 442) ح (2652).
قبل أن يخلقني) قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (فحج آدم موسى)
(1)
.
4 -
طريق طاووس، ولفظه: عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: (احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا
(2)
وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنةً
(3)
؟ فحج آدم موسى،
(1)
متفق عليه: البخاري: كتاب التفسير، باب:{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (4/ 1764) ح (4461)، ومسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليه السلام (16/ 441) ح (2652).
(2)
أي: كنت سببًا في حرماننا. انظر: الفتح (11/ 508).
(3)
اختلف أهل العلم في وقت هذه الكتابة، لأنه قد ثبت في صحيح مسلم (16/ 442) ح (2653) أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
- فذهب ابن الجوزي إلى أن المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلفه بأربعين سنة، ويجوز أن تكون هذه المدة -الأربعون سنةً- هي مدة لبثه طينًا إلى أن نفخت فيه الروح، فإنه قد رُوي أن ما بين تصويره ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير عمومًا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. [انظر: كشف المشكل (3/ 383)، وفتح الباري (11/ 508)].
وقال ابن القيم في شفاء العليل (1/ 46): "هذا التقدير بعد التقدير الأول السابق بخلق السموات بخمسين ألف سنة"، يعني: وهو داخل في التقدير الأول لم يخرج عنه. [انظر: شفاء العليل (1/ 73)].
- وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة، ما بين قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى نفخ الروح في آدم. [انظر: فتح الباري (11/ 508)، ومعالم السنن للخطابي (4/ 297)].
- وقال المازري: الأشبه أنه أراد بقوله: (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) أي: كتبه في التوراة، ألا تراه يقول في بعض طرقه: (فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملًا كتبه الله علي أن أعمله =
فحج آدم موسى) ثلاثًا
(1)
.
5 -
طريق همام بن منبه، أخرجه مسلم وقال: بمعنى حديثهم
(2)
أي: بمعنى الأحاديث السابقة.
6 -
طريق عبد الرحمن بن الأعرج، ولفظه: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: (تحاج آدم وموسى، فحج آدم موسى، فقال: له موسى: أنت آدم الذي أغويت
(3)
الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: أنت الذي أعطاه الله
= قبل أن يخلقني بأربعين سنة). [انظر: المعلم (3/ 178)، وفتح الباري (11/ 509)] وإلى هذا ذهب ابن مفلح رحمه الله حيث قال في الآداب الشرعيه (1/ 277): "هذه الكتابة في التوراة، كصريح هذه الرواية، لأن علم الله عز وجل وما قدره وأراده قديم".
- وقيل غير ذلك. [انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 440 - 441)، وفتح الباري (11/ 508 - 509)].
والذي تدل عليه روايات الحديث:
- أن التوراة كتبت قبل خلق آدم بأربعين سنة، وفيها ذكر معصية آدم.
- أن المعصية كتبت قبل خلق آدم بأربعين سنة، وعليه تكون هذه الكتابة كتابة ثانية.
- إذ أنها داخلة في كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في الحديث المتقدم -فهي من جنس كتابة الملَك ما يتعلق بالجنين، من عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:(إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملَكًا فيؤمر بأربع كلمات، وُيقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح). متفق عليه: البخاري (3/ 1174) ح (3036)، ومسلم (16/ 429) ح (2643).
(1)
متفق عليه: البخاري: كتاب القدر، باب: تحاج آدم وموسى عند الله (6/ 2439) ح (6240).
ومسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليه السلام (16/ 439) ح (2652).
(2)
صحيح مسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهم السلام (16/ 442) ح (2652).
(3)
أي: "كنت سببًا لغواية من غوى منهم، وهو سبب بعيد، إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة، لم يقع الإخراج من الجنة، ولو لم يقع الإخراج، ما تسلط عليهم =
علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم، قال: فتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)
(1)
.
ب- وأما اللفظ الثاني: ففيه أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام، على الإهباط إلى الأرض، فاحتج عليه آدم بأن معصيته مكتوبة عليه قبل أن يخلق بأربعين سنة.
وهذا اللفظ تفرد به مسلم عن يزيد بن هرمز وعبد الرحمن بن الأعرج -علمًا أنه قد جاء عن ابن الأعرج ما يوافق اللفظ الأول، كما تقدم- ونص هذا اللفظ كما عند مسلم: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (احتج آدم وموسى عليهم السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيًا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملًا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنةً)، قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-:(فحج آدم موسى)
(2)
.
= الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد وهو الانهماك في غير الطاعة" فتح الباري (11/ 507).
(1)
متفق عليه: البخاري تعليقًا: كتاب القدر، باب: تحاج آدم وموسى عند الله (6/ 2439) ح (6240). ومسلم -واللفظ له-: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليه السلام (16/ 440) ح (2652).
(2)
صحيح مسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهم السلام (16/ 440) ح (2652).
- وجاء هذا اللفظ من هذه الطريق عند عبد الله بن وهب في كتاب القدر (53، 54) ح (1، 2).
- وجاء هذا اللفظ أيضًا من طريق همام بن منبه كما عند الإمام أحمد في مسنده =