الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثانى: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
سلك أهل العلم في هذه المسألة مسلكين: أحدهما الجمع، والآخر الترجيح، وإليك البيان:
أولًا: مسلك الترجيح
(1)
، وهو ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها، حيث خطأت ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه، وعارضته بالآية، فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كلنت أقول لهم هو الحق) ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} .
قال ابن حجر: "وهذا مصير من عائشة إلى رد رواية ابن عمر المذكورة"
(2)
.
ثانيًا: مسلك الجمع: أي: الجمع بين الآية والحديث، فقالوا: إن أهل القليب قد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم، كما هو صريح حديث عمر وابنه وأبي طلحة رضي الله عنهم، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، كقتادة
(3)
، وابن أبي عاصم
(4)
،
(1)
بدأت به أولًا قبل مسلك الجمع لأن الكلام في مسلك الجمع طويل.
(2)
الفتح (3/ 234).
(3)
انظر: صحيح البخاري (4/ 1461) ح (3757)، وقد تقدم كلامه في المطلب الأول.
(4)
هو أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني البصري، كان إمامًا حافظًا كبيرًا بارعًا متَّبعًا للآثار، من أهل السنة والحديث والنسك، ولي قضاء أصبهان ونشر بها علمه، له مصنفات منها: كتاب السنة، توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين ومائتين (287) [انظر: السير (13/ 430)، وتذكرة الحفاظ (2/ 640)، وشذرات الذهب (2/ 195)].
وابن قتيبة
(1)
، والبربهاري
(2)
، والمازري
(3)
، وابن عطية
(4)
، والقاضي عياض
(5)
، وابن الجوزي
(6)
، وأبي العباس القرطبي
(7)
، وأبي عبد الله القرطبي
(8)
، والنووي
(9)
، وابن تيمية
(10)
، وابن القيم
(11)
، وابن كثير
(12)
، وابن مفلح
(13)
، والآلوسي
(14)
، والشنقيطي
(15)
، والألباني
(16)
،
(1)
انظر: تأويل مختلف الحديث (142 - 143).
(2)
انظر: شرح السنة (34).
(3)
انظر: المعلم (3/ 207).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (12/ 130، 131).
(5)
انظر: إكمال المعلم (2/ 47)(8/ 405).
(6)
انظر: كشف المشكل (1/ 148).
(7)
انظر: المفهم (2/ 585)، و (7/ 151).
(8)
انظر: التذكرة (1/ 227).
(9)
انظر: شرح النووي على مسلم (17/ 211 - 212).
(10)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 298)، و (24/ 363 - 364).
(11)
انظر: الروح (67 - 68).
(12)
انظر: البداية والنهاية (3/ 293).
(13)
انظر: الفروع (2/ 301). وابن مفلح هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، الشيخ الإمام العالم العلامة، تفقه وبرع ودرس وأفتى وأفاد، كان آية وغاية في نقل مذهب الإمام أحمد، قال ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، توفي رحمه الله سنة (763 هـ) له مصنفات عديدة أشهرها كتاب الفروع. [انظر: شذرات الذهب (6/ 199)، والأعلام (7/ 107)، ومعجم المؤلفين (3/ 729)].
(14)
انظر: روح المعاني (21/ 57 - 58). والآلوسي هو: أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، مفسر محدث أديب مجدد، من أهل بغداد، مولده ووفاته فيها، وكان مجتهدًا سلفي الاعتقاد، له مؤلفات منها: تفسيره المشهور، واسمه: روح المعاني، وغرائب الاغتراب، توفي سنة (1270). [انظر: الأعلام (7/ 176)، ومعجم المؤلفين (3/ 815)].
(15)
انظر: أضواء البيان (6/ 422).
(16)
انظر: مقدمة الآيات البينات (40)، وكتاب السنة لابن أبي عاصم (414) هامش (1).
وغيرهم
(1)
.
قال ابن أبي عاصم: "والأخبار التي في قليب بدر، ونداء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وما أخبر أنهم يسمعون كلامه، أخبار ثابتة توجب العمل والمحاسبة"
(2)
.
وأما الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، فقد أجابوا عنها بعدة أجوبة
(3)
.
قال الشنقيطي: "اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية، واستقراء القرآن أن معنى قوله هنا:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا يصح فيه من أقوال العلماء إلا تفسيران:
الأول: أن المعنى: إنك لا تسمع الموتى، أي: لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدىً وانتفاع، لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذنهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع
…
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى: الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مَثَلٌ ضُرِبَ للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم يُنفَ ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا"
(4)
.
(1)
انظر: فتح القدير (4/ 151)، والآيات البينات (55 - 56، 68).
(2)
السنة (414).
(3)
انظر: الفتح (3/ 234 - 235).
(4)
أضواء البيان (6/ 416 - 421)، وقد تكلم على معنى هذه الآية وقرره بكلام =
قلت: والتفسير الأول الذي ذكره عليه أغلب المفسرين
(1)
، وأما الثاني فقد قال: به ابن تيمية
(2)
وغيره
(3)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، المراد السماع المعتاد الذي يتضمن القبول والانتفاع -كما في حق الكفار- السماع النافع في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وقوله تعالى: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10]، فإذا كان قد نفى عن الكافر السمع مطلقًا، وعلم أنه إنما نفى سمع القلب المتضمن للفهم والقبول، لا مجرد سماع الكلام، فكذلك المشبه به وهو الميت"
(4)
.
والقول في الآية الأخرى -آية فاطر- وهي قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، كالقول في الآية المتقدمة
(5)
.
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في سماع الموتى، هل هو عام دائم، أم مخصوص مقيد بما ورد؟
1 -
فذهب البعض إلى القول: بالعموم والإطلاق كابن مفلح
(6)
= رصين متين، لا تكاد تجده في غيره، فراجعه إن شئت.
(1)
انظر: جامع البيان (10/ 13)، وتفسير القرآن للسمعاني (4/ 112)، ومعالم التنزيل (3/ 428)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 232)، والآيات البينات في عدم سماع الأموات (21 - 22).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 298)، و (24/ 364)، وأضواء البيان (6/ 420).
(3)
انظر: الروح لابن القيم (68)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 598)، وتهذيب الآثار للطبري (2/ 520).
(4)
المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 94).
(5)
انظر: جامع البيان (10/ 407)، وتفسير القرآن للسمعاني (4/ 355)، ومعالم التنزيل (3/ 569)، والجامع لأحكام القرآن (14/ 340)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 879)، وأضواء البيان (6/ 419).
(6)
انظر: الفروع (2/ 301).
والشنقيطي، وهو ظاهر كلام قوام السنة الأصبهاني
(1)
وغيره
(2)
، وحكاه الطبري وابن حجر عن جماعة من العلماء
(3)
.
قال الشنقيطي: "اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم، وأن قول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون استدلالًا بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وما جاء في معناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها، وممن تبعها، وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ متعددة، ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.
والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه، لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتأول بعض الصحابة بعضَ الآيات"
(4)
.
وقال تعليقًا على حديث القليب: "وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك تخصيصًا، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه فيما يظهر"
(5)
.
2 -
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأموات يسمعون في الجملة، فيسمعون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت.
(1)
انظر: الحجة (2/ 331).
(2)
انظر: تأويل مختلف الحديث (142).
(3)
انظر: تهذيب الآثار (2/ 510)، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 359)، وفتاوى الحافظ ابن حجر، قسم العقيدة (58).
(4)
أضواء البيان (6/ 421)، وانظر:(6/ 429).
(5)
أضواء البيان (6/ 422)، وانظر:(6/ 423، 424، 425).
وممن ذهب إلى هذا الطبري
(1)
، وابن تيمية، وابن القيم
(2)
، وجوَّزه أبو العباس القرطبي
(3)
.
قال ابن تيمية بعد ذكره لبعض النصوص، كحديث القليب وغيره: "فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به ونهي عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]
(4)
"
(5)
.
واستدل هؤلاء -أعني: أصحاب هذين القولين- على قولهم: بسماع الموتى بعدة أدلة، أهمها:
- حديث القليب، وقد تقدم.
- حديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان
…
)،
(1)
انظر: تهذيب الآثار (2/ 520 - 521)، وأهوال القبور لابن رجب (133).
(2)
انظر: الروح (67 - 68).
(3)
انظر: المفهم (2/ 586)، و (7/ 151).
(4)
انظر في تفسير الآية: جامع البيان (6/ 209)، ومعالم التنزيل (2/ 240)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 388)، وتفسير القرآن العظيم (2/ 468).
(5)
مجموع الفتاوى (24/ 364)، وانظر (4/ 298).
متفق عليه
(1)
.
- مشروعية السلام على أهل القبور بصيغة الخطاب للحاضر، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، رواه مسلم
(2)
.
قال ابن تيمية: "فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطب من يسمع"
(3)
.
وقال الشنقيطي: "وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: (السلام عليكم)، وقوله: (وإنا إن شاء الله بكم) ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه، لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم"
(4)
.
3 -
وذهب آخرون إلى أن الأصل عدم السماع، وأما حديث القليب وغيره مما ورد فهو مستثنى من هذا الأصل، فيكون من قَبِيْل تخصيص العموم، وهذا ما ذهب إليه قتادة والقاضي أبو يعلى
(5)
، والمازري، وابن عطية
(6)
، وابن الجوزي
(7)
، وأبو عبد الله القرطبي، والشوكاني
(8)
، والآلوسي
(9)
، وابنه نعمان
(10)
، .........................................................
(1)
البخاري: (1/ 462) ح (1308)، ومسلم (17/ 208) ح (2870).
(2)
تقدم تخريجه ص (661 - 662).
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 363)، وانظر: الروح لابن القيم (15 - 16، 68)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 697، 699).
(4)
أضواء البيان (6/ 425 - 426).
(5)
نقل ذلك عنه ابن رجب في أهوال القبور (133).
(6)
انظر: المحرر الوجيز (12/ 130)، و (13/ 169).
(7)
انظر: كشف المشكل (1/ 148)، والفروع لابن مفلح (2/ 302).
(8)
انظر: فتح القدير (4/ 151).
(9)
انظر: روح المعاني (21/ 57 - 58).
(10)
وقد ألَّف رسالةً في هذا بعنوان: "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند =
والألباني
(1)
-وقد انتصرا له- وغيرهم
(2)
.
قال قتادة: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا"
(3)
.
وقال ابن بطال: "وعلى تأويل قتادة فقهاء الأئمة وجماعة أهل السنة، وعلى ذلك تأوَّله عبد الله بن عمر راوي الحديث عن النبي عليه السلام"
(4)
.
وقال المازري تعليقًا على حديث القليب: "ذهب بعض الناس إلى أن الميت يسمع، أخذًا بظاهر هذا الحديث، والذي عليه المحصلون من العلماء: أن الله تعالى خرق العادة بأن أعاد الحياة إلى هؤلاء الموتى ليقرعهم صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب قتادة"
(5)
.
وقال أبو عبد الله القرطبي: "اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى، واستدلت بقوله تعالى:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ولا تعارض بينهما، لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المُخَصِّص، وقد وجد هنا بما ذكرناه -وقد تقدم
(6)
- وبقوله عليه الصلاة
= الحنفية السادات". وهو: أبو البركات خير الدين نعمان بن محمود بن عبد الله الآلوسي، واعظ فقيه، ولد ونشأ ببغداد وبها توفي، وهو ابن العلامة محمود الآلوسي، له مؤلفات منها: كتابه المتقدم، وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، توفي سنة (1317). [انظر: الأعلام (8/ 42)، ومعجم المؤلفين (4/ 34)].
(1)
انظر: مقدمة كتاب: "الآيات البينات"(40)، والسنة لابن أبي عاصم (414) هامش (1).
(2)
انظر: الفتح (3/ 235)، والآيات البينات (58، 68)، وفتاوى اللجنة الدائمة (1/ 472).
(3)
صحيح البخاري: (4/ 1461) ح (3757).
(4)
شرح صحيح البخاري (3/ 359).
(5)
انظر: المعلم (3/ 207).
(6)
يعني حديث القليب.
والسلام: (إنه ليسمع قرع نعالهم)
(1)
، وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره وجوابه لهما، وغير ذلك"
(2)
.
وهذا القول قريب من سابقه، فإن كلًا منهما لم يطلق القول: بالسماع، إلا أن القول السابق جعل السماع أصلًا، استنادًا إلى ما ورد من الأحاديث، وأما أصحاب هذا القول فقد جعلوا عدم السماع أصلًا، استنادًا إلى ما ورد من الآيات وغيرها، ولم يستثنوا من ذلك إلا ما ورد النص بإثباته.
قال الألباني: "وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم
…
على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال، كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلًا، فيقال: إن الموتى يسمعون، كما فعل بعضهم، كلا فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام، كما هو المقرر في علم أصول الفقه"
(3)
.
وعمدة هؤلاء فيما ذهبوا إليه أمران:
1 -
الآيات الواردة في نفي سماع الموتى، والتي منها:
- الآيتان اللتان استدلت بهما عائشة رضي الله عنها، وهما: قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} [النمل: 80]، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
فقالوا: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى المراد
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
التذكرة (1/ 227).
(3)
مقدمة الآيات البينات (40).
منهما هو: تشبيه الكفار الأحياء بحال الموتى وأهل القبور، فهما واردتان في حق الكفار على ما تقدم بيانه، لا ننازع في هذا، بل نقول: على هذا جرى علماء التفسير، لكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على عدم سماع الموتى، لأن الموتى لمَّا كانوا لا يسمعون حقيقة، وكان ذلك معروفًا عند المخاطبين، شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع، فدل هذا التشبيه على أن المُشَبَّه بهم -وهم الموتى في قبورهم- لا يسمعون، كما يدل مثلًا تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع، بل هو في ذلك أقوى من زيد، ولذلك شُبِّه به، وإن كان الكلام لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه، وإنما عن زيد، وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور، فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون، بل إن كل عربي سليم السليقة، لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم، كما في المثال السابق.
قالوا: ومما يؤكد عدم سماع الأموات: تمام الآية الأولى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، فقد شبه الله موتى الأحياء من الكفار بالصم أيضًا، فهل هذا يقتضي في المُشَبَّه بهم (الصم) أنهم يسمعون أيضًا، ولكن سماعًا لا انتفاع فيه؟ ! أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقًا، كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه
(1)
.
قال ابن الهُمَام
(2)
عن هاتين الآيتين: "إنهما تفيدان تحقق عدم
(1)
انظر: مقدمة الآيات البينات (21 - 23)، وروح المعاني (2/ 19 - 20).
(2)
هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السواسي الأصل، الإسكندري ثم القاهري الحنفي، المعروف بابن الهمام -كمال الدين- من علماء الحنفية وفقهائهم، مشارك في الأصول والتفسير والنحو والصرف وغيرها، له مؤلفات منها: شرح الهداية في فروع الفقه الحنفي، سماه: فتح القدير، وله أيضًا: التحرير في أصول الفقه، توفي سنة (860). [انظر: الضوء اللامع (8/ 127)، والبدر الطالع (2/ 201)، والأعلام (6/ 255)، =
سماعهم، فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى، لإفادة تعذر سماعهم، وهو فرع عدم سماع الموتى"
(1)
.
قالوا: وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا، فقد قال الطبري في تفسيره:"وقوله: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}، يقول: وكما لا تقدر أن تسمع الصم -الذين قد سلبوا السمع- الدعاءَ، إذا هم ولُّوا عنك مدبرين، كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء -الذين قد سلبهم الله فَهَم آيات كتابه-، لسماع ذلك وفهمه"، ثم روى بإسناده عن قتادة أنه قال:"هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}، يقول: لو أن أصم ولَّى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع"
(2)
.
قالوا: وبهذا يتبين صحة فهم عائشة رضي الله عنها للآية، وتَوَجُّهِ اعتراضها، لولا أنه في مقابلة النص، وقد وافقها على هذا الفهم عمر رضي الله عنه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثة أيام، حتى جيفوا، ثم أتاهم فقام عليهم فقال:(يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا)، قال: فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ يقول الله عز وجل {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، فقال:(والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا)
(3)
.
= ومعجم المؤلفين (3/ 469)].
(1)
نقل ذلك عنه الآلوسي في الآيات البينات (59).
(2)
جامع البيان (10/ 197)، والأثر صحح إسناده الألباني في مقدمته للآيات البينات (23)، وانظر: فتح القدير (4/ 150 - 151).
(3)
المسند (21/ 451) ح (1464)، وقال الألباني في الآيات البينات:"سنده صحيح على شرط مسلم".
فعمر رضي الله عنه فهم من عموم الآية دخول أهل القليب فيه، فأشكل عليه مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يسمعونه، ولم ينكر عليه فهمه للآية
(1)
.
قال ابن رجب: "وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء، طائفة من العلماء، ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا
…
واحتجوا بما احتجت به عائشة، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو سماع الموتى كلامه"
(2)
.
- ومما استدلوا به أيضًا على عدم سماع الموتى، قوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: 13، 14].
فقالوا: هذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين، الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم، يعبدونهم فيها، وأخبر أن المعبودين يتبرؤؤن من عابديهم يوم القيامة، فإنهم محشورون جميعًا كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)} [الفرقان: 17، 18].
وقال أيضًا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41].
(1)
انظر: الآيات البينات (31، 68).
(2)
أهوال القبور (133).
2 -
أن هذه المسألة من الأمور الغيبية التي لا يجوز الخوض فيها إلا بنص، ولم يرد ما يدل على أن الموتى يسمعون مطلقًا، فيجب الوقوف عند حدود ما ورد
(1)
.
وأما أدلة أصحاب القولين السابقين فقد أجاب عنها بعضهم بما يلي:
- أما حديث القليب فقالوا: إنه وإن دل على سماع المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم حين مناداته لهم، إلا أنه لا يدل على عموم هذا السماع في كل وقت وحين، ومما يؤيد هذا ما جاء في رواية ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنهم الآن يسمعون ما أقول)، فقوله:(الآن) قيد يفهم منه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وعلى هذا يكون هذا الحديث حجة في كون الأصل في الموتى عدم السماع.
ومما يدل على هذا أيضًا -من نفس الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرًا في نفوسهم واعتقادهم من أن الموتى لا يسمعون، فلم ينكر ذلك عليهم، وإنما بين لهم ما كان خافيًا عليهم من شأن أهل القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقًا
(2)
.
- وأما حديث أنس رضي الله عنه: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان
…
)، فهو محمول على أنه في أول الوضع، أي أن هذا السماع خاص بهذا الوقت، وبقية الحديث يشعر بهذا، فإن روحه تعاد حينئذ استعدادًا لسؤال الملكين
(3)
.
قال المُنَاوِي
(4)
عند هذا الحديث: "وعورض بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ
(1)
انظر: مقدمة الآيات البينات للألباني (20 - 21).
(2)
انظر: روح المعاني (21/ 56)، ومقدمة الآيات البينات للألباني (29 - 32).
(3)
انظر: الآيات البينات (56، 59).
(4)
هو العلامة محمد عبد الرؤوف بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، من كبار العلماء، انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام كثير السهر فمرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده محمد يستملي منه تأليفه، توفي رحمه الله =
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، وأُجيب: بأن السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال"
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إنه "وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن"
(2)
.
- وأما استدلالهم بمشروعية السلام على أهل المقابر بصيغة المخاطب، فالجواب عنه: أنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في التشهد وهو لا يسمعهم قطعًا، وهذا شائع في العربية، فإن العرب تسلم على الديار وتخاطبها، على بعد المزار
(3)
.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن مثل هذا الخطاب يقصد منه استحضار المخاطب في القلب، ثم قال بعد ذكر السلام في التشهد:"والإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا، يخاطب من يتصور في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب"
(4)
.
وقال القاضي عياض تعليقًا على الحديث السابق في سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المقابر: "يحتمل أن يُحيوا له حتى يسمعوا كلامه، كما سمعه أهل القليب، ويحتمل أن يفعل ذلك مع موتهم ليبين ذلك لأمته"
(5)
.
وقال ابن عطية: "هذا كله غير معارض للآية، لأن السلام على القبور إنما هو عبادة، وعند الله الثواب عليها، وهو تذكير للنفس بحالة الموت، وبحالة الموتى في حياتهم"
(6)
.
= سنة (1031 هـ) له مصنفات عديدة منها: فيض القدير، وشرح الشمائل للترمذي. [انظر: البدر الطالع (1/ 357)، والأعلام (6/ 204)، ومعجم المؤلفين (2/ 143)].
(1)
فيض القدير (2/ 298).
(2)
القول المفيد (290).
(3)
انظر: الآيات البينات (39، 95 - 96)، والقول المفيد (1/ 290).
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 793).
(5)
إكمال المعلم (2/ 47)، وانظر: الآيات البينات (97).
(6)
المحرر الوجيز (12/ 131).