الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن في حديث شريك أكثر من عشر إشكالات، وقد اجتهد في محاولة الإجابة عنها، ببيان عدم التفرد تارة، وبالتأويل تارة أخرى، وبيَّن أن هذا المسلك هو الأولى في التعامل مع مخالفات شريك، حيث قال:"والأولى: التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها، إما بدفع تفرده، وإما بتأويله على وفاق الجماعة، ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك"
(1)
.
والحق أن في بعض هذه المخالفات -التي عُدت على شريك- نظر، إذ الصواب فيها مع شريك رحمه الله، إما لموافقة غيره له فيها، وحينئذٍ تنتفي دعوى التفرد، وإما لكونها ليست مخَالَفة في الحقيقة.
ويبقى عدد من هذه المخالفات يصعب الإجابة عنها، ومن رام ذلك فقد تكلف عنتًا، وفيما يلي عرض لهذه المخالفات مرتبة حسب ورودها في الحديث، مع بيان ما يترجح فيها حسب الإمكان:
أولًا: قوله: (ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه) ففي هذا أن حادثة الإسراء والمعراج وقعت قبل البعثة، وهذا خطأ ظاهر، والعلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون ذلك إذا كان الإسراء قبل أن يوحى إليه؟ !
(2)
(1)
فتح الباري (13/ 485)، وانظر:(13/ 486).
(2)
انظر: إكمال المعلم (1/ 498)، وشرح النووي على مسلم (2/ 568)، وفتح =
ولذا أنكر أهل العلم هذه اللفظة على شريك وعدوها من أخطائه، وممن أنكر ذلك: الخطابي وابن حزم وعبد الحق الإشبيلي والقاضي عياض والنووي
(1)
وابن القيم
(2)
.
قال القاضي عياض عن هذه اللفظة: "هو غلط لم يوافق عليه"
(3)
.
قال الحافظ: "وفي دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس -بمعجمة ونون، مصغر- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب المغازي من طريقه"
(4)
.
وقد خرَّج هذه اللفظة ابن كثير وابن حجر على أن المجيء كان مرتين:
الأول: قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة، ولم يكن فيها شيء.
والثاني: بعد أن أُوحي إليه، وحينئذٍ وقع شق الصدر ثم الإسراء والمعراج.
وقبل ذكر كلامهما أسوق ما يتعلق بهذه اللفظة من الحديث، حتى يتضح مأخذهما منه: حدَّث شريك عن أنس: (ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته
…
).
= الباري (13/ 480).
(1)
انظر: فتح الباري (13/ 480)، وكشف المشكل (3/ 212).
(2)
انظر: زاد المعاد (1/ 99 - 100).
(3)
إكمال المعلم (1/ 497).
(4)
فتح الباري (13/ 480).
قال ابن كثير: "وفي سياقه -أي: حديث شريك- غرابة من وجوه، منها: قوله: (قبل أن يوحى إليه)، والجواب: أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة، ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى، ولم يقل في ذلك: (قبل أن يوحى إليه) بل جاءه بعد ما أُوحي إليه، فكان الإسراء قطعًا بعد الإيحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون، وهو الأظهر"
(1)
.
وقال ابن حجر: "قوله: (فلم يرهم) أي: بعد ذلك (حتى أتوه ليلة أخرى)، ولم يعين المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذٍ وقع الإسراء والمعراج
…
وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق: أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة، ويسقط تشنيع الخطابي وابن حزم وغيرهما، بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وبالله التوفيق"
(2)
.
ولكن يشكل على هذا الجواب: أن الحديث ينص على أن المجيء الأول كان ليلة الإسراء حيث جاء في أوله: (ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه
…
)، وقوله في هذا المجيء -أعني الأول-:(فقال آخرهم: خذوا خيرهم)، يشعر أنه قد كان في هذه الليلة شيء، والله أعلم.
وأجاب بعضهم: بأن الوحي ها هنا مقيد، وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة، والمراد: قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام
(3)
.
(1)
البداية والنهاية (3/ 109) بتصرف يسير.
(2)
فتح الباري (13/ 480)، وانظر:(6/ 579).
(3)
انظر: زاد المعاد (1/ 100)، وفتح الباري (13/ 485).
قال ابن حجر: "ويؤيده: قوله في حديث الزهري: (فرج سقف بيتي) "
(1)
.
ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف، والله أعلم.
ثانيًا: قوله: (وهو نائم في المسجد الحرام)، ثم أكد ذلك بقوله في آخر الحديث:(واستيقظ وهو في مسجد الحرام)، وبهذا ونحوه تعلق من جعل الإسراء والمعراج وقعا منامًا
(2)
.
قال ابن رجب: "هذه اللفظة مما تفرد بها شريك، وقد تعلق بها من قال: إن الإسراء كان منامًا"
(3)
.
وقد أجاب عن هذا القاضي عياض والقرطبي فقالا: قوله: (وهو نائم في المسجد الحرام) أي: أنه كان قد ابتدأ نومه، فأتاه الملك فأيقظه.
وأما قوله: (واستيقظ وهو في مسجد الحرام)، فيحتمل أن يكون استيقاظه من نوم نامه بعد الإسراء، ويحتمل أن يكون بمعنى: أفقت، أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بما شاهده من العجائب والآيات العظيمة والملكوت
(4)
.
وبنحو هذا أجاب ابن كثير
(5)
، وابن حجر
(6)
، وغيرهما
(7)
.
(1)
فتح الباري (13/ 485).
(2)
انظر: أعلام الحديث (4/ 2352)، ومعالم التنزيل (3/ 96)، وكشف المشكل (3/ 211، 212)، وإكمال المعلم (1/ 499)، وفتح الباري (13/ 483)، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 445).
(3)
فتح الباري (2/ 320).
(4)
انظر: الشفاء (115) المفهم (1/ 385).
(5)
انظر: البداية والنهاية (3/ 112).
(6)
انظر: فتح الباري (7/ 204)، و (13/ 481).
(7)
انظر: الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (1/ 540)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 320)، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 446).
وحاول بعضهم الجمع بين الروايات فقال: بالتعدد، أي أن الإسراء وقع مرتين: مرة يقظة، ومرة منامًا
(1)
.
والحق الذي عليه جمهور أهل السنة أن الإسراء والمعراج وقعا مرة واحدة، يقظة لا منامًا، وأن ذلك كان بجسده وروحه.
وقد سمَّى القاضي عياض من ذهب إلى هذا فقال: "ذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق"، ثم ذكر أنه قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبي حبَّة البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب
(2)
، وابن شهاب، والحسن، وإبراهيم
(3)
، ومسروق
(4)
،
(1)
انظر: زاد المعاد (3/ 42)، وشرح العقيدة الطحاوية (271).
(2)
هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو المخزومي القرشي، شيخ الإسلام وفقيه المدينة وعالمها، وسيِّد التابعين في زمانه، رأى عمر وسمع عثمان وعليًا وزيد بن ثابت وجمعًا من الصحابة سواهم رضي الله عنهم، وكانت أكثر روايته عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان قد تزوج ابنته، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، توفي رحمه الله سنة (94 هـ). [انظر: وفيات الأعيان (2/ 313)، وتذكرة الحفاظ (1/ 54)، والسير (4/ 217)، والعبر (1/ 82)، وتقريب التهذيب (1/ 364)، وشذرات الذهب (1/ 102)].
(3)
هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي الإمام الحافظ فقيه العراق، روى عن علقمة ومسروق وطائفة ودخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهو صبي توفي سنة ست وتسعين وقيل في آخر سنة خمس وتسعين (95). [انظر: وفيات الأعيان (1/ 52)، وتذكرة الحفاظ (1/ 73)، وسير أعلام النبلاء (4/ 520)، وتقريب التهذيب (1/ 69)].
(4)
هو الإمام العلم القدوة أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني الكوفي، يُقال: إنه سُرق وهو صغير ثم وُجد فسُمي مسروقًا، وكانت عائشة قد تبنته فسمى بنته عائشة، صحب ابن مسعود رضي الله عنه وصلى خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان فقيهًا عابدًا، توفي رحمه الله سنة (63 هـ). [انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 49)، والسير (4/ 63)، والعبر (1/ 50)، وتقريب التهذيب (2/ 175) شذرات الذهب (1/ 71)].
ومجاهد، وعكرمة
(1)
، وابن جريج
(2)
، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين
(3)
.
وممن نصَّ على هذا القول أيضًا: الطبري
(4)
، والطحاوي
(5)
، والبربهاري
(6)
، والآجري
(7)
، وابن منده
(8)
، وابن حزم
(9)
، وقوَّام السنة الأصبهاني
(10)
، وأبو العباس القرطبي
(11)
، وأبو عبد الله القرطبي
(12)
، وابن القيم
(13)
، .....................................................................................
(1)
هو عكرمة بن عبد الله القرشي مولاهم المدني، أصله بربري كان مولى ابن عباس وكان ثقة ثبتًا عالمًا بالتفسير، حدث عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وابن عمر وطائفة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم اتهم بأنه على رأي الخوارج، توفي رحمه الله سنة (107 هـ). [انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 95)، والسير (5/ 12)، والعبر (1/ 100)، وتقريب التهذيب (1/ 685)].
(2)
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، العلامة الثقة الحافظ شيخ الحرم، وأول من دون العلم بمكة، لازم عطاء فأكثر عنه وجوَّد، وكان صاحب تعبد وتهجد، وكان يدلس ويرسل، توفي سنة خمسين ومائة (150)، وقيل غير ذلك. [انظر: تاريخ بغداد (10/ 399)، ووفيات الأعيان (3/ 138)، والسير (6/ 325)، والتقريب (1/ 617)].
(3)
انظر: الشفاء (113).
(4)
انظر: جامع البيان (8/ 16).
(5)
انظر: العقيدة الطحاوية مع شرحها (270).
(6)
انظر: شرح السنة (36).
(7)
انظر: الشريعة (3/ 1539).
(8)
انظر: التوحيد له (3/ 276).
(9)
انظر: المحلى (1/ 57).
(10)
انظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 540).
(11)
انظر: المفهم (1/ 384).
(12)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (10/ 208).
(13)
انظر: زاد المعاد (1/ 99)، و (3/ 34).
وابن كثير
(1)
، وابن أبي العز
(2)
، وابن حجر
(3)
، وغيرهم كثير.
قال ابن القيم رحمه الله: "كان الإسراء مرة واحدة، وقيل: مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله:(ثم استيقظت) وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين: مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك: (
…
قبل أن يوحى إليه)، ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومرتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع، والصواب الذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة.
ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارًا، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسًا، ثم يقول:(أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشرًا عشرًا؟ ! "
(4)
.
ومن الأدلة على أن الإسراء كان يقظةً لا منامًا، وأنه كان بجسده وروحه
(5)
:
1 -
ظاهر القرآن حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 38، 39)، والبداية والنهاية (3/ 112).
(2)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (273).
(3)
انظر: فتح الباري (1/ 460)، و (7/ 218).
(4)
زاد المعاد (3/ 42)، وانظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 38).
(5)
انظر: جامع البيان (8/ 16)، والشريعة للآجري (3/ 1539)، والحجة في بيان المحجة (1/ 540)، والمعلم (1/ 220)، والشفاء (113)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 208)، وتفسير القرآن العظيم (3/ 39)، والبداية والنهاية (3/ 112)، وشرح العقيدة الطحاوية (276)، وفتح الباري (1/ 460)، و (7/ 218).
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1].
وجه الدلالة: أن التسبيح إنما يكون عند الأمور العظيمة والآيات الباهرة، مما يدل على أن الإسراء كان في اليقظة، بالروح والجسد، ولو كان منامًا، أو بالروح فقط لم يكن فيه كبير أمر، ولم يكن مستعظمًا.
ووجه آخر من الآية: وهو أنه تعالى قال: {بِعَبْدِهِ} ، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلًا، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر.
2 -
ظاهر أحاديث الإسراء -كما تقدم- فإن سياقاتها تدل دلالة واضحة على أن الإسراء كان يقظة بالروح والجسد، ففيها ذكر الركوب والصعود في المعراج والصلاة وغير ذلك، ولذا قال البغوي:"الأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك"
(1)
.
3 -
مبادرة مشركي قريش إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وارتداد بعض من ضعف إسلامه عن الإسلام، ولو كان منامًا لما أنكروه، لأنهم لا ينكرون أن يرى الرائي في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟ ! فدل هذا على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا منامًا.
قال الطبري عن القول: بأن الإسراء كان منامًا: "ذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين"
(2)
.
(1)
معالم التنزيل (3/ 92).
(2)
جامع البيان (8/ 16).
وقال الآجري: "من زعم أنه منام فقد أخطأ في قوله، وقصَّر في حق نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد القرآن والسنة، وتعرض لعظيم"
(1)
.
وقال القرطبي: "الذي عليه معظم السلف والخلف، أنه أسري بجسده وحقيقته في اليقظة، إلى آخر ما انطوى عليه الإسراء، وعليه يدل ظاهر الكتاب، وصحيح الأخبار، ومبادرة قريش لإنكار ذلك وتكذيبه، ولو كان منامًا لما أنكروه، ولما افتتن به من افتتن، إذ كثيرًا ما يُرى في المنام أمور عجيبة، وأحوال هائلة، فلا يستبعد ذلك في النوم، وإنما يستبعد في اليقظة"
(2)
.
ثالثًا: قوله: (فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه
…
).
أنكر بعضهم -كالقاضي عياض
(3)
وغيره
(4)
- وقوع شق الصدر ليلة الإسراء، وعدوا هذا من أغلاط شريك
(5)
، وقالوا: إنما وقع ذلك وهو صغير، عندما كان مسترضعًا في بني سعد، كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني: ظِئْره- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره
(6)
.
(1)
الشريعة (3/ 1540).
(2)
المفهم (1/ 384 - 385)، وانظر: الشفاء للقاضي عياض (113).
(3)
انظر: إكمال المعلم (1/ 498)، وفتح الباري (1/ 460).
(4)
انظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 535)، وفتح الباري (7/ 204).
(5)
انظر: فتح الباري (13/ 485).
(6)
صحيح مسلم (2/ 574) ح (162).
ولا ريب أن إنكارهم هذا غير صحيح، فشق الصدر ثابت ليلة الإسراء، وشريك لم يتفرد بهذا، بل وافقه قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، والزهري عن أنس عن أبي ذر، كما تقدم.
قال ابن رجب: "وشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وغسله من طست من ذهب من ماء زمزم، ومَلؤه إيمانًا وحكمة مما تطابقت عليه أحاديث المعراج"
(1)
.
وعلى هذا يكون شق الصدر قد وقع مرتين: مرة في صغره، كما في حديث أنس المتقدم قريبًا، ومرة في ليلة الإسراء.
قال القرطبي عند حديث أنس المتقدم -في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره-: "هذا الشق هو خلاف الشق المذكور في حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة، بدليل اختلاف الزمانين، والمكانين، والحالين، أما الزمانان: فالأول: في صغره، والثاني: في كبره، وأما المكانان: فالأول: كان ببعض جهات مكة، عند مرضعته، والثاني: عند البيت، وأما الحالان: فالأول نُزع من قلبه ما كان يضره وغسل، وهو إشارة إلى عصمته، والثاني: غُسل وملئ حكمة وإيمانًا، وهو إشارة إلى التهيؤ إلى مشاهدته ما شاء الله أن يشهده.
ولا يُلتفت إلى قول من قال: إن ذلك كان مرةً واحدةً في صغره، وأخذ يُغلِّط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين، فإن الغلط به أليق، والوهم منه أقرب، فإن رواة الحديثين أئمةٌ مشاهير حفاظ، ولا إحالة في شيء مما ذكروه، ولا معارضة بينهما ولا تناقض، فصحَّ ما قلناه، وبهذا قال جماعة من العلماء"
(2)
.
(1)
فتح الباري (2/ 312).
(2)
المفهم (1/ 382 - 383)، وانظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 541)، والروض الأنف (1/ 190)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 313)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 460)، و (7/ 204 - 205).
رابعًا: قوله: (ثم أتي بطست من ذهب، فيه تور من ذهب، محشوًا إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره ولغاديده
…
) حيث ذكر التور، بينما الروايات الأخرى ليس فيها ذكر التور، وإنما فيها الاقتصار على ذكر الطست، ففي رواية قتادة عن أنس:(ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا فغسل قلبي ثم حشي).
وفي رواية ابن شهاب عن أنس: (ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري).
قال الحافظ ابن حجر عند رواية شريك: "هذا يقتضي أنه غير الطست، وأنه كان داخل الطست
…
فإن كانت هذه الزيادة محفوظة، احتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم، والآخر هو المحشو بالإيمان، واحتمل أن يكون التور ظرف الماء وغيره، والطست لما يُصب فيه عند الغسل، صيانة له عن التبدد في الأرض، وجريًا له على العادة في الطست وما يوضع فيه الماء"
(1)
.
وقد يُقال: إن ذكر التور ليس فيه مخالفة، وإنما هو من قبيل زيادة الثقة، والله أعلم.
خامسًا: قوله: (فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: (ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عُنْصُرُهُمَا)، فهذا يخالف الثابت في غير روايته، من كون النيل والفرات في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى، كما في حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى:(وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات)، وفي رواية للبخاري قال بعد ذكر سدرة المنتهى: (في أصلها أربعة أنهار
…
)
(2)
، ولفظ مسلم: (يخرج من أصلها
…
).
(1)
فتح الباري (13/ 481).
(2)
صحيح البخاري (3/ 1173) ح (3035).
قال ابن حجر عند رواية شريك: "ظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: (فإذا في أصلها أربعة أنهار)، ويجمع بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض"
(1)
.
وقال نقلًا عن ابن دحية
(2)
: "الجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر: عنصر امتيازهما في السماء الدنيا"
(3)
.
وهذا الجواب فيه بعد، وما ذكره الحافظ ابن حجر يشكل عليه أنه جاء في رواية شريك قوله:(هذا النيل والفرات عُنْصُرُهُمَا) أي: أصلهما، والله أعلم.
سادسًا: جاء في روايته ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور الثابت أنه في الجنة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر نهر في الجنة)
(4)
.
وعن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} أن
(1)
فتح الباري (13/ 482)، وانظر:(13/ 485).
(2)
هو العلامة أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجُميل الكلبي الأندلسي الداني الأصل ثم السبتي، الحافظ اللغوي الظاهري المذهب -يذكر أنه من ولد دحية الكلبي- كان بصيرًا بالحديث معنيًا بتقييده مكبًا على سماعه، عيب عليه أنه كان يثلب علماء المسلمين، ويقع في أئمة الدين، ومن أجل ذلك ترك الناس كلامه، توفي رحمه الله سنة (633 هـ). [انظر: وفيات الأعيان (3/ 393)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1420)، والعبر (3/ 217)، وشذرات الذهب (5/ 160)].
(3)
فتح الباري (7/ 214).
(4)
أخرجه الترمذي (تحفة 9/ 294) ح (3419)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1450) ح (4334)، وأحمد (9/ 257) ح (5355)، وصححه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 135) ح (2677).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو نهر في الجنة)
(1)
.
قال ابن حجر عند رواية شريك: "هذا مما يُستشكل من رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة، والجنة في السماء السابعة" ثم قال محاولًا الجمع بينها وبين سائر الروايات: "ويمكن أن يكون في هذا الموضع شيء محذوف تقديره: ثم مضى به في السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر
…
"
(2)
.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا من الأخطاء المعدودة على شريك.
سابعًا: قوله: (كل سماء فيها أنبياء قد سمَّاهم، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله)، وهذا مخالف لسائر الروايات في تحديد أماكن الأنبياء، مما يدل على أن شريكًا لم يضبط أماكنهم، كما قد صرح هو بذلك.
قال ابن رجب: "هذا كله إنما جاء من عدم ضبط منازلهم، كما صرح به في الحديث نفسه"
(3)
ونحوه قال ابن حجر
(4)
.
وقد وافق الزهري شريكًا في كون إبراهيم في السماء السادسة، فجاء في روايته:(قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة).
(1)
أخرجه الترمذي (تحفة 9/ 291) ح (3417)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى (10/ 274) ح (11469)، وأحمد (20/ 109) ح (12679)، وصححه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 134) ح (2675).
(2)
فتح الباري (13/ 482)، وانظر:(13/ 485)، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 451).
(3)
فتح الباري (2/ 317).
(4)
فتح الباري (13/ 485).
قال ابن رجب: "هذا -والله أعلم- مما لم يحفظه الزهري جيدًا"
(1)
.
وعلى هذا، فالصحيح في ترتيب أماكن الأنبياء ما جاء في رواية قتادة وثابت عن أنس رضي الله عنه: ففي الأولى آدم عليه السلام، وفي الثانية عيسى ويحيى عليه السلام، وفي الثالثة يوسف عليه السلام، وفي الرابعة إدريس عليه السلام، وفي الخامسة هارون عليه السلام، وفي السادسة موسى عليه السلام، وفي السابعة إبراهيم عليه السلام.
قال ابن حجر: "الأكثر وافقوا قتادة، وسياقه يدل على رجحان روايته، فإنه ضبط اسم كل نبي والسماء التي هو فيها، ووافقه ثابت عن أنس وجماعة، فهو المعتمد"
(2)
.
وقد ذهب البعض كابن كثير
(3)
وغيره
(4)
إلى ترجيح رواية الزهري وشريك في كون إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، وأيدوا ذلك بقوله عند ذكر موسى:(وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله)، فقالوا: هذا التعليق يدل على أن شريكًا قد ضبط كون موسى في السابعة
(5)
.
قال ابن حجر: "لكن المشهور في الروايات: أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور"
(6)
.
وقال أيضًا: "الأرجح رواية الجماعة لقوله فيها: (أنه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور)، وهو في السابعة بلا خلاف"
(7)
.
(1)
فتح الباري (2/ 316).
(2)
فتح الباري (13/ 482).
(3)
انظر: البداية والنهاية (3/ 110)، وفي التفسير (3/ 38) ذكر العكس، فأشار إلى أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة.
(4)
انظر: شرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 453).
(5)
انظر: فتح الباري (13/ 482)، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان (2/ 453).
(6)
فتح الباري (13/ 482).
(7)
فتح الباري (1/ 462)، وانظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 541).
كما استدلوا بما حصل من المراجعة بين موسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، فقالوا: إن ذلك يناسب كون موسى في السابعة
(1)
.
وقد أُجيب عن هذا: بأن المراجعة إنما وقعت من موسى عليه السلام لأنه كان له أمة عظيمة، عالجهم أشد المعالجة، وكان عليهم في دينهم آصارٌ وأثقال، فلهذا تفرد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك دون إبراهيم عليه السلام
(2)
.
وقد حاول ابن حجر الجمع بين الروايات فقال: "إن موسى كان في حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة
…
ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأُصعد معه إلى السابعة، تفضيلًا له على غيره من أجل كلام الله تعالى"
(3)
.
وبنحو هذا الجمع قال النووي
(4)
، وهو جمع محتمل لكنه يفتقر إلى دليل، والله أعلم.
ثامنًا: قوله بعد ذكر السماء السابعة: (ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى).
قال ابن حجر: "كذا وقع في رواية شريك، وهو مما خالف فيه غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة
(5)
، وعند بعضهم في السادسة
(6)
"
(7)
.
(1)
انظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 319)، وفتح الباري لابن حجر (13/ 482).
(2)
انظر: فتح الباري لابن رجب (2/ 319).
(3)
فتح الباري (13/ 482).
(4)
انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 576).
(5)
كما يدل على ذلك باقي روايات الإسراء، وانظر: عارضة الأحوذي (12/ 119)، وشرح النووي على مسلم (3/ 5)، وإكمال إكمال المعلم (1/ 537)، وفتح الباري (7/ 213).
(6)
لِما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة" أخرجه مسلم (3/ 5) ح (173).
(7)
فتح الباري (13/ 483)، وانظر:(13/ 485)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 318).
ثم قال محاولًا الجمع: "لعل في السياق تقديمًا وتأخيرًا، وكان ذكر سدرة المنتهى قبل، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله
…
ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلو البالغ لسدرة المنتهى: صفة أعلاها، وما تقدم صفة أصلها"
(1)
.
تاسعًا: قوله: (ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى).
استنكرت هذه اللفظة على شريك، إذ لم يذكرها غيره ممن روى الحديث، حتى قال الخطابي:"ليس في هذا الكتاب حديث أشنع ظاهرًا وأبشع مذاقًا من هذا الحديث"، ثم قال معللًا ذلك:"إن هذا يوجب تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي يعلو من فوق إلى أسفل"، وقال: "حاصل الأمر في التدلي وإطلاق اللفظ به على الوجه الذي تضمنه الخبر: أنه رأي: إما أنس بن مالك، وإما رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ، إذا رواها من حيث لا يتابعه عليها سائر الرواة، وأيهما صح هذا القول عنه وأضيف إليه، فقد خالفه فيه عامة السلف المتقدمين والعلماء، وأهل التفسير منهم ومن المتأخرين
…
ولم يثبت في شيء مما رُوي عن السلف أن التدلي مضاف إلى الله سبحانه، جل ربنا عن صفات المخلوقين، ونعوت المربوبين المحدودين، وقد رُوي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك بن عبد الله، فلم تذكر فيه هذه الألفاظ البشعة، فكان ذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من قبل شريك، والله أعلم"
(2)
.
(1)
الفتح (13/ 483).
(2)
أعلام الحديث (4/ 2352 - 2354)، وانظر: كشف المشكل (3/ 212)، وفتح الباري (13/ 483 - 484)، وقد تعقب الشيخ عبدُ الله الغنيمان الخطابيّ في كلامه هذا. [انظر: شرح كتاب التوحيد (2/ 456 - 460)].
وممن استنكر هذه اللفظة أيضًا ابن حزم
(1)
وهو ظاهر كلام ابن رجب، فإنه لما ذكر هذا الجزء من الحديث قال:"قد تفرد شريك بهذه الألفاظ في هذا الحديث، وهي مما أنكرت عليه فيه"
(2)
.
ويلاحظ أن منطلق الخطابي في استنكار هذه اللفظة: اعتقاده أن فيها تشبيهًا للخالق بالمخلوق، ولا ريب أن هذا منطلق فاسد، لا يجوز أن ترد بمثله الأحاديث الصحيحة، فإن هذا شأن أهل التعطيل الذين يردون النصوص الثابتة أو يؤولونها لمجرد توهم التشبيه.
والحق الذي لا يجوز العدول عنه: ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات ما تضمنته النصوص الصحيحة من الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تأويل.
وقد ذهب بعض السلف إلى القول: بما تضمنه هذا الحديث من إثبات صفة الدنو والتدلي لله تعالى، وممن ذهب إلى هذا ابن خزيمة
(3)
وابن القيم وابن أبي العز
(4)
ومحمد خليل هراس
(5)
:
قال ابن القيم: "فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه"
(6)
.
وأما ابن كثير فقد أثبت ذلك في كتابه الفصول، حيث قال:"ودنا الجبار، رب العزة فتدلى، كما يشاء على ما ورد في الحديث"
(7)
.
وأما في كتابه البداية والنهاية فقد جوَّز أن يكون ذلك من فهم الراوي، فقال: "فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء: (ثم دنا
(1)
انظر: كشف المشكل (3/ 212)، وفتح الباري (13/ 484 - 485).
(2)
فتح الباري (2/ 318).
(3)
انظر: التوحيد (2/ 521).
(4)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (276).
(5)
انظر: تعليقه على كتاب التوحيد لابن خزيمة (140، 213).
(6)
زاد المعاد (3/ 38)، وانظر: نونيته بشرح ابن عيسى (1/ 408، 410).
(7)
الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (267).
الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى)، فقد يكون من فهم الراوي، فأقحمه في الحديث، والله أعلم"
(1)
.
وجدير بالتنبيه هنا أن هؤلاء -عدا ابن خزيمة- يقولون: إن الدنو والتدلي المذكور في قصة الإسراء هو غير الدنو والتدلي الوارد في سورة النجم، فإن المراد به في سورة النجم جبريل عليه السلام.
قال ابن القيم: "وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم: 8]، فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة
(2)
وابن مسعود
(3)
، والسياق يدل عليه، فإنه قال:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 5]، وهو جبريل {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم: 6 - 8]، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديد القوى، وهو ذو المرَّة، أي: القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنى فتدلى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى، فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه، ولا تَعَرُّض في سورة النجم لذلك، بل فيها أنه رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمد على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم"
(4)
.
وقال ابن كثير بعد ذكره لآية النجم: "الصحيح من قول المفسرين، بل المقطوع به: أن المتدلي في هذه الآية هو جبريل عليه السلام، كما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ذاك جبريل)
(5)
، فقد قطع هذا الحديث النزاع، وأزاح الإشكال"
(6)
.
(1)
البداية والنهاية (3/ 110).
(2)
أخرجه البخاري (3/ 1181) ح (3063)، ومسلم (3/ 14) ح (177).
(3)
أخرجه البخاري (3/ 1181) ح (3060)، ومسلم (3/ 6) ح (174).
(4)
زاد المعاد (3/ 38)، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (276).
(5)
أخرجه البخاري (4/ 1840) ح (4574) لكن بدون هذا اللفظ، وأخرجه مسلم واللفظ له (3/ 10) ح (177).
(6)
الفصول (272)، وانظر: البداية والنهاية (3/ 110).
ولا ريب في اتصاف الله تعالى بصفة الدنو الذي هو بمعنى: القرب، فإن هذه الصفة ثابتة لله تعالى في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ )
(1)
.
وعلى إثبات هذه الصفة لله تعالى معتقد أهل السنة والجماعة.
قال ابن تيمية: "وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر"
(2)
.
وأما ما يتعلق بصفة التدلي فليس فيها -فيما وقفت عليه بعد البحث- إلا رواية شريك هذه، ولذا فإني أتوقف فيها، لا سيما وقد روى هذا الحديث أئمة أثبات، هم أوثق من شريك وأحفظ، كقتادة وثابت والزهري، ولم يذكروا هذه اللفظة فيه، مع أن إثباتها يدل على عظيم المنزلة ورفعة الدرجة للنبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، فالظن أنهم لا يغفلونها وهي بهذه المنزلة، بل سيكونون على نقلها وإثباتها أشد حرصًا، خاصة وأنهم نقلوا تفاصيل وقعت في الإسراء هي أقل شأنًا منها، والله أعلم.
عاشرًا: قوله: (فعلا به إلى الجبار فقال، وهو مكانه: يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا).
قال الخطابي: "وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك لم يذكرها غيره، وهي: قوله: (فقال وهو مكانه)، والمكان لا يضاف إلى الله
(1)
صحيح مسلم (9/ 125) ح (1348)، وذكر ابن حجر في الفتح (13/ 483) أنه جاء عند الطبري من حديث ميمون بن سياه عن أنس، في قصة الإسراء:"فدنا ربك عز وجل، فكان قاب قوسين أو أدنى".
(2)
شرح حديث النزول (318)، وانظر: مجموع الفتاوى (5/ 466).
سبحانه، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم، ومقامه الأول الذي أُقيم فيه"
(1)
.
والحق أنه لا وجه لاستشكال هذه اللفظة، لأن الضمير في قوله:(وهو مكانه) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: وهو في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى عليه السلام
(2)
وما ذكره الخطابي ليس في السياق ما يدل عليه.
قال الحافظ ابن حجر تعليقًا على كلام الخطابي: "وهذا الأخير متعين، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى"
(3)
.
وأما قول الخطابي: "والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه" فهذا الإطلاق فيه نظر، لأن إجماع السلف منعقد على ما دلَّ عليه الكتاب والسنة من أن الله تعالى على عرشه فوق سماواته، كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، لكن لفظ المكان يتوقف في إطلاقه على الله تعالى لعدم ورود النص به
(4)
.
قال الشيخ عبد الله الغنيمان تعليقًا على قول الخطابي في الإشكال المتقدم: "إن هذا يوجب تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما" قال: "مفهوم هذا القول من الخطابي: أنه لا تمييز بين مكان الخالق والمخلوق، ولا مسافة، ولا تحديد، وهذا لا يعدو أمرين لا ثالث لهما:
إما أن يكون الرب تعالى حالًا في الخلق، ومداخلًا لهم، فهو في كل
(1)
أعلام الحديث (4/ 2355)، وانظر: كشف المشكل (3/ 212)، وفتح الباري (13/ 484)، و (13/ 485).
(2)
انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (2/ 461).
(3)
الفتح (13/ 484).
(4)
ينبه هنا إلى أن الإمام الدارمي رحمه الله، قد أطلق لفظ المكان على الله تعالى، مفسرًا ذلك بما دلت عليه النصوص من أنه سبحانه على عرشه فوق سماواته، ويلاحظ أنه قال ذلك في مقام الرد على المنكرين لعلو الله تعالى وفوقيته واستوائه على عرشه. [انظر: نقضه على المريسي (1/ 223 - 228، 493)].
مكان، لا يختص به مكان دون آخر، حتى أجواف الحيوانات والناس والأمكنة الخبيثة، وهذا مذهب الحلولية الذين هم من أضل خلق الله، وأبعدهم عن معرفة الله، والتمييز بينه وبين خلقه، وهذا غاية الكفر ومنتهاه.
الثاني: أنه لا مكان لله أصلًا، ومن ليس له مكان -بمعنى: أنه ليس في جهة- فهو عدم لا وجود له، والعدم هو إله المعطلة والملاحدة"
(1)
.
الحادي عشر: قوله: (فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات)، ففي هذه الرواية أن التخفيف للصلوات أثناء المراجعة كان عشرًا عشرًا، وقد عدَّ الحافظ ابن حجر هذا من مخالفات شريك، لأن مقتضى رواية ثابت عن أنس أن التخفيف كان خمسًا خمسًا
(2)
.
والحق أن شريكًا لم يتفرد بهذا، فقد تابعه عليه قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، كما تقدم.
وقد رجح ابن الجوزي هذه الرواية، أي: كون التخفيف عشرًا عشرًا لاتفاق البخاري ومسلم عليها من حديث أنس عن مالك بن صعصعة، ومن حديث أنس نفسه، بخلاف رواية التخفيف خمسًا خمسًا فإنها من أفراد مسلم، وقال عنها: إنها غلط من الراوي، وتابعه على هذا السفاريني
(3)
.
أما ابن حجر فقد رجح رواية ثابت البناني في كون التخفيف كان
(1)
شرح كتاب التوحيد (2/ 485)، وانظر:(1/ 364 - 366).
(2)
انظر: الفتح (13/ 485).
(3)
انظر: لوامع الأنوار (2/ 284)، والسفاريني هو: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي عالم بالحديث والأصول والأدب ولد ونشأ في سفارين من قرى نابلس، ثم رحل إلى دمشق لطلب العلم فأخذ عن علمائها ثم رجع إلى بلده نابلس فدرس وأفتى وأفاد حتى توفي رحمه الله سنة (1188 هـ)، وله مؤلفات عدة أشهرها: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية. [انظر: الأعلام (6/ 14)، ومعجم المؤلفين (365)، وآخر الجزء الأول من لوامع الأنوار فيه ترجمة مطولة له].
خمسًا خمسًا، فقال:"وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا، وهي زيادة معتمدة، يتعين حمل باقي الروايات عليها"
(1)
، وبناءً على هذا، فهو يرى أن عدد مرات المراجعة كانت تسعًا
(2)
.
ولكن يشكل على هذا الترجيح أن كون التخفيف خمسًا خمسًا لا يصح جعله زيادة، لأن التخفيف جاء ذكره في باقي الروايات، لكن ليس على هذه الصفة، فالحق أن هذا يعتبر مخالفة لا زيادة، لأنه لا يمكن القول: بكلا الروايتين، فإحداهما تخالف الأخرى، وليسن لزيادة عدد مرات المراجعة أثر في جعل هذه الرواية زيادة يجب قبولها، لكونها أكثر تفصيلًا لأن قبولها يعني: طرح رواية العشر، مع أنها متفق على صحتها.
ومما قد يرجح رواية العشر: أنها استوعبت ذكر مرات المراجعة كلها، مما يدل على أن الراوي قد ضبط روايته، وإليك نص هذه الرواية: قال صلى الله عليه وسلم: (ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بمَ أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم).
وهذا بخلاف رواية الخمس فإنه لم يُذكر فيها من مرات المراجعة إلا واحدةً، ثم اختصر الباقي بقوله: (فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى
(1)
الفتح (1/ 462).
(2)
انظر: الفتح (13/ 485، 486).