الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناقشة الأقوال المرجوحة:
أما القول الثاني وهو: أن العين التي فقأها موسى عليه السلام، إنما هي تمثيل وتخييل، لا عينًا حقيقة، لأن ما تنتقل الملائكة إليه من الصور ليس على الحقائق، وإنما هو تمثيل وتخييل، فالجواب عنه: أن هذا يقتضي أن كل صورة رآها الأنبياء من الملائكة فإنما هي مجرد تمثيل وتخييل لا حقيقة لها، وهذا باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، سادًا عِظَمُ خَلْقِه ما بين السماء إلى الأرض، ففي الصحيحين من حديث عائشة، أنها سألته عن قوله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]، فقال:(إنما هو جبريل لم أرَه على صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًا عِظَمُ خَلْقِه ما بين السماء إلى الأرض)
(1)
.
ولهذا قال القرطبي: هذا القول لا يُلتفت إليه لظهور فساده، فإنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة والأدلة المعقولة
(2)
.
ثم إن هذا القول -أيضًا- لم يُزل الإشكال، لأنه يمكن أن يُقال: إذا كان قد علم أنه ملك، وأن ذلك تخييل، فلماذا يلطمه، ويقابله بهذه المقابلة؟ ! هذا مما لا يليق بالنبي
(3)
.
وأما القول الثالث وهو: أن موسى قد أُذن له بهذا الفعل، ابتلاءً وامتحانًا لملك الموت، فالجواب عنه، أن يُقال: إن كان المراد بالإذن هنا: الإذن الكوني القدري، فهو صحيح، لكن ليس هذا جوابًا، لأن كل شيء يقع فهو بإذن الله تعالى الكوني القدري.
(1)
البخاري (4/ 1840) ح (4574)، ومسلم واللفظ له (3/ 10) ح (177).
(2)
انظر: المفهم (6/ 221).
(3)
انظر: المعلم (3/ 132).
وإن كان المراد: الإذن الشرعي -وهو الأقرب- فهو محتمل لكنه يحتاج إلى دليل، والله أعلم.
وقد قال القرطبي عن هذا القول: "هذا ليس بجواب، فإنه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الامتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟ "
(1)
.
وأما القول الرابع وهو: أن المراد بالحديث: أن موسى عليه السلام ناظر ملك الموت فغلبه بالحجة، فقول باطل، لأنه مخالف لظاهر الحديث وما يقتضيه سياقه.
قال قِوَام السنة الأصبهاني: "هذا الحديث: حكم أهل الحفظ بصحته، وحمله أهل السنة على ظاهره، وأن ذلك الفعل كان من موسى عليه السلام، على الحقيقة"، إلى أن قال: "وقول من قال: معنى اللطمة: إلزام الحجة، غلط، لأن في الخبر أنه عرج إلى ربه فرد عليه عينه، ولا يكون هذا إلا في عين حقيقة، لأن التي ليست بحقيقة لا تحتاج إلى ردها.
وقوله: اللطمة: إلزام الحجة: لو كانت اللطمة إلزام الحجة لم يعد إلى قبض روحه، لأن الحجة قد لزمته في ترك قبض روحه"
(2)
.
وقال ابن حجر عن هذا القول: "هو مردود بقوله في نفس الحديث: (فرد الله عينه)، وبقوله: (لطمه) و (صكه) وغير ذلك من قرائن السياق"
(3)
.
وأما القول الخامس وهو: أن موسى قد لطم ملك الموت وهو يعرفه، لأنه لم يُخيِّره، ففيه نظر من وجهين:
الأول: أنه من المستبعد جدًا أن يصدر هذا الفعل من كليم الرحمن
(1)
المفهم (6/ 221).
(2)
الحجة (2/ 436 - 437)، وانظر: المعلم (3/ 133)، والمفهم (6/ 221).
(3)
الفتح (6/ 442 - 443).
تجاه ملك الموت -الذي هو رسول رب العالمين- وهو يعرفه، فإن هذا مما يُنزه عنه الأنبياء.
الثاني: أن هذا الجواب ليس فيه حسم لمادة الإشكال، لأن الله تعالى أخبر عن الملائكة أنهم:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فلماذا خالف ملك الموت أمر الله هنا، فلم يُخيِّر موسى عليه السلام؟ ! .
ولهذا قال ابن حجر عن هذا الجواب: "فيه نظر، لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لِمَ أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط؟ ! "
(1)
.
* * *
(1)
الفتح (6/ 442).