الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الناظر في الأقوال المتقدمة في توجيه حديث: (إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها) يلاحظ أنها كلها تذهب إلى أن طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات على الإطلاق، وأن وصفها بالأولية إنما هو نسبي إضافي، أي: بالنسبة إلى آيات معينة، وهذا هو الحق الذي لا مِرْيَة فيه، لأنه بعد طلوعها من المغرب لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولازم هذا أن يكون نزول عيسى عليه السلام سابقًا لخروجها من مغربها لأن الإيمان في زمنه نافع ومقبول، وباب التوبة مفتوح، ومعلوم أن خروج الدجال سابق لنزوله، وأن ظهور يأجوج ومأجوج ثم هلاكهم، يكون في زمنه، كما دلَّ على ذلك حديث النواس بن سمعان عند مسلم
(1)
، فهذه الآيات كلها متقدمة على طلوع الشمس من مغربها، والله أعلم.
قال البيهقي: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق على خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا، وتطاول الزمان، وعاد بعضهم إلى الكفر، عاد تكليف الإيمان بالغيب.
وإن كان في علم الله تعالى أن طلوع الشمس بعد نزول عيسى عليه السلام، احتمل أن يكون المراد بالآيات في هذا الحديث آيات أخرى غير الدجال ونزول عيسى، إذ ليس في الخبر نص على أنه يتقدم
(1)
تقدم تخريجه ص (571).
عيسى عليه السلام
(1)
.
قال ابن حجر: "وهذا الثاني هو المعتمد، والأخبار الصحيحة لا تخالفه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)
(2)
، فمفهومه أن من تاب بعد ذلك لم تقبل"
(3)
.
وقال محمد صديق حسن القنوجي: "والحاصل أن الأولية إضافية لا حقيقية"
(4)
.
وما ذكر من الأقوال في توجيه الحديث فكل ذلك محتمل، ولا تعارض بينها، إذ يمكن القول: بمجموعها، فيقال: طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات السماوية التي ليست مألوفة، وذلك مؤذن بتغير العالم العلوي، وانقطاع التوبة، وقيام الساعة، والله أعلم.
قال ابن حجر: "قال الحاكم أبو عبد الله: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم، أو الذي يقرب منه.
قلت: والحكمة من ذلك أنه عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر، تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة"
(5)
.
* * *
(1)
انظر: البعث والنشور، تحقيق عبد العزيز الصاعدي (1/ 345) رسالة دكتوراة -غير مطبوعة- في الجامعة الإسلامية، والفتح (11/ 354)، ولوامع الأنوار (2/ 141).
(2)
صحيح مسلم (17/ 28) ح (2703).
(3)
الفتح (11/ 354) بتصرف يسير.
(4)
الإذاعة (170).
(5)
الفتح (11/ 353).
وأما حديث أنس رضي الله عنه: (أول أشراط الساعة نار تحشر الناس
…
)، فقد أجاب عنه ابن حجر -كما تقدم- بأن المراد: أن النار أول الآيات المؤذنة بقيام الساعة.
وأولى من هذا الجواب ما دلَّ النص عليه حيث أخرج الإمام أحمد هذا الحديث بلفظ: (وأما أول شيء يحشر الناس فنار تخرج
…
)
(1)
، وهذا يؤيد ما تقدم من كون الأولية هنا نسبية لا مطلقة.
وقد أخرج مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة فقال في آخرها: (وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم).
قال ابن حجر: "وهذا في الظاهر يعارض حديث أنس"، ثم قال:"ويجمع بينهما: بأن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلًا، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذكر معها، فإنه يبقى بعد كل آية أشياء من أمور الدنيا"
(2)
.
ولكن الذي يظهر أن المراد بأوليتها ما تقدم في رواية الإمام أحمد: أنها أول ما يحشر الناس، وأما آخريتها فالمتعين ما ذكره الحافظ بن حجر، والله تعالى أعلم.
* * *
(1)
المسند (21/ 349) ح (13868)، وقال المحقق:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
(2)
الفتح (13/ 82).