الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: كل من نفى حقيقة السحر وأثره
(1)
، ورأى أنه مجرد تمويه وتخييل لا حقيقة له -فلا تأثير له في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد ولا غير ذلك- فقد نفى السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكره من باب أولى، كالمعتزلة
(2)
، ومن وافقهم في هذا، كأبي منصور المَاتُرِيْدِي
(3)
وأبي جعفر الإسترابادي من الشافعية
(4)
، وأبي بكر الرازي الجصاص من
(1)
انظر في الكلام على حقيقة السحر وأثره: كتاب السحر بين الحقيقة والخيال، للدكتور أحمد بن ناصر الحمد، وقد استفدت منه كثيرًا في هذا الجانب.
(2)
انظر: الكشاف للزمخشري (1/ 306)، ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/ 101)، والإرشاد للجويني (131)، وكشف المشكل لابن الجوزي (4/ 342)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 44، 46)، والنبوات (1/ 130، 484) و (2/ 1031، 1036)، وبدائع الفوائد (2/ 365)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 216، 220)، وتيسير العزيز الحميد (383)، وفتح القدير (1/ 119، 121)، وتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور (1/ 673).
(3)
انظر: التوحيد له (209). وأبو منصور هو: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي -نسبة إلى (ماتريد) محلة بسمرقند- السمرقندي، من أئمة علماء الكلام، وهو الذي ينسب إليه المذهب الماتريدي، له مؤلفات منها: التوحيد، والرد على القرامطة، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة (333). [انظر: الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفية للقرشي (3/ 1532)، والمواعظ والآثار -خطط المقريزي- (2/ 359)، والأعلام (6/ 19)، ومعجم المؤلفين (3/ 692)].
(4)
انظر: روضة الطالبين للنووي (9/ 346)، وفتح الباري (10/ 222)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 46) غير أنه كناه بأبي إسحاق، ولم أجد له ذكرًا =
الأحناف
(1)
وابن حزم
(2)
وغيرهم
(3)
، وهو منسوب لأبي حنيفة
(4)
، ونقل القرافي
(5)
عن الحنفية: القولَ بعدم تأثير السحر ما لم يكن مباشرًا
(6)
ولعل هذا مراد أبي حنيفة رحمه الله.
= بهاتين الكنيتين في تراجم الشافعية ولا غيرها، وقد نقل ابن كثير في تفسيره (1/ 220)، وحافظ الحكمي في معارج القبول (1/ 368) كلام القرطبي في نسبة هذا القول لأبي إسحاق، لكنهما قالا: الإسفراييني، بدل: الإستراباذي، وقد اشتُهر عن أبي إسحاق الإسفراييني إنكاره لخوارق السحرة وكرامات الأولياء لئلا تلتبس بمعجزات الأنبياء، والله أعلم. [انظر: الإرشاد للجويني (129)، والنبوات لابن تيمية (1/ 131)، و (2/ 1031)، ولوامع الأنوار (2/ 394)، والإنصاف للصنعاني (63)].
(1)
انظر: أحكام القرآن له (1/ 43، 49). وأبو بكر الجصاص هو: العلامة المفتي عالم العراق أحمد بن علي الرازي أبو بكر الجصاص الحنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية في وقته، صنَّف وجمع وتخرج به الأصحاب ببغداد، وإليه المنتهى في معرفة المذهب، وكان مع براعته في العلم ذا زهد وتعبد، عُرض عليه القضاء فامتنع، وقيل: إنه كان يميل إلى الاعتزال، توفي سنة سبعين وثلاثمائة (370)، له مؤلفات منها: أحكام القرآن، والأسماء الحسنى. [انظر: تاريخ بغداد (5/ 72)، والسير (16/ 340)، والجواهر المضية (1/ 220)، وشذرات الذهب (3/ 71)، والأعلام (1/ 171)، ومعجم المؤلفين (1/ 202)].
(2)
انظر: الفصل (3/ 168 - 178)، والدرة فيما يجب اعتقاده (192 - 197)، والمحلى (1/ 58).
(3)
انظر: تفسير التحرير والتنوير (1/ 634، 645).
(4)
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (2/ 226)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 220)، وفتح القدير (1/ 119، 121)، ومعارج القبول (1/ 368).
(5)
هو: أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي الأصل، المشهور بالقرافي، فقيه أصولي مفسر، من علماء المالكية، ولد بمصر وتوفي فيها سنة (684 هـ) له عدة تصانيف منها: الفروق، والذخيرة في الفقه، والتنقيح في أصول الفقه. [انظر: الأعلام (1/ 94)، ومعجم المؤلفين (1/ 100)].
(6)
انظر: الفروق (4/ 149).
قال ابن حجر: "واختُلِف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وهذا اختيار أبي جعفر الإسترباذي
(1)
من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة"
(2)
.
وهؤلاء منهم من ردَّ الحديث أصلًا كالمعتزلة والجصاص
(3)
، ومنهم من أثبته كابن حزم وغيره، لكنه نفى أن يكون السحر قد أثر بالنبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وقد استدلوا بأدلة عامة على نفي حقيقة السحر وأثره، وأدلة خاصة على نفي السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإليك أهم هذه الأدلة، مبتدئًا بالأدلة العامة ثم الخاصة.
1 -
قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، حيث نفى حصول الضرر بالسحر إلا بإذنه، مما يدل على أنه ليس له تأثير في نفسه وذاته، وليس المعنى: أن السحر قد يضر وقد لا يضر، بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان بإيصال أشياء ضارة بطبعها، ومباشَرَةِ بدن المسحور بها
(5)
.
2 -
قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وقوله:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقوله:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وقول عائشة رضي الله عنها: أن النبي حين سُحر: كان يُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله.
(1)
هكذا ذكره الحافظ، وقد تقدم أن النووي والقرطبي ذكراه بلفظ: الإسترابادي، وكنياه بأبي إسحاق.
(2)
فتح الباري (10/ 222).
(3)
انظر: أحكام القرآن له (1/ 49).
(4)
انظر: الفصل (3/ 172)، وتفسير التحرير والتنوير (1/ 634)
(5)
انظر: الكشاف (1/ 306)، وبدائع الفوائد (2/ 366)، وتفسير التحرير والتنوير (1/ 645).
فقالوا: إن هذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن السحر إنما هو مجرد تمويه وتخييل على الأعين، وتحيل وكيد مفتعل لا حقيقة له ولا تأثير
(1)
.
قال ابن حزم: "وقد نص الله عز وجل على ما قلنا، فقال:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ، فأخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلًا لا حقيقة له، وقال تعالى:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له
…
وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أي: أنهم أوهموا الناس فيما رأوه ظنونًا متوهمة لا حقيقة لها، ولو فتشوها للاح لهم الحق"
(2)
.
3 -
أنه لو كان للسحر تأثير وحقيقة لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات، لأنها حينئذٍ تشتبه، فلا يمكن التفريق والتمييز بين السحر والمعجزة.
قال الجصاص -مبينًا ما يلزم على القول: بحقيقة السحر وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم به-: يلزم من ذلك أن "لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام، وإثبات معجزاتهم، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة"
(3)
.
وقال الرازي في مَعْرِض بيان حجج المعتزلة، أنهم قالوا:"لو جاز ذلك من السحر، فكيف يتميز المعجز عن السحر"
(4)
.
(1)
انظر: الكشاف (2/ 486)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 43، 49)، والتفسير الكبير (14/ 203)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 46)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 213)، وأضواء البيان (4/ 474).
(2)
الفصل (3/ 171 - 172) بتصرف يسير.
(3)
أحكام القرآن (1/ 49).
(4)
التفسير الكبير (3/ 214)، وانظر:(3/ 306)، والمحلى (1/ 58)، والدرة (194)، =
4 -
أن القول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر فيه السحر، يصدق قول المشركين في تعييرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور، كما حكى الله عنهم ذلك فقال:{إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، ومعلوم أن تعييرهم هذا باطل، ولذا ذمهم الله عليه
(1)
.
5 -
أن القول: بلحوق ضرر السحر بالنبي صلى الله عليه وسلم منافٍ لعصمته، وطعن في نبوته، ومزيل للثقة بما جاء به، فإنه إذا سحر وخيل إليه أنه يفعل الأمر، وهو لم يفعله، أمكن أن يخيل إليه أنه أوحي إليه وهو لم يوحَ إليه، وأنه بلغ ما أوحي إليه، وهو لم يبلغه، وهكذا في جميع أمور الدين، مما يُفقد الحجة والاطمئنان بقوله وفعله
(2)
.
6 -
أن السحر من عمل الشياطين، وهم لا يتسلطون إلا على من غفل عن الله تعالى وطاعته، أما من تحصن بطاعة الله تعالى وذكره -كالرسول صلى الله عليه وسلم- فليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل، كما قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]
(3)
.
القول الثاني: أن للسحر حقيقة وأثرًا، كما دل على ذلك الكتاب والسنة
(4)
وقد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر فيه ذلك السحر وأمرضه، فكان يُخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، غير أنه لم يوجب له خللًا في عقله، ولا تخليطًا له في قوله، إذ قد قام دليل النقل، وبرهان المعجزة على صدقه وعصمة الله تعالى له من الغلط فيما يبلغه بقوله وفعله، فالسحر الذي تعرض
= والفصل (3/ 173) ثلاثتها لابن حزم، والنبوات (1/ 484)، و (2/ 1036 - 1037)، وبدائع الفوائد (2/ 371).
(1)
انظر التفسير الكبير للرازي (3/ 214)، وبدائع الفوائد (2/ 363)، وأضواء البيان (4/ 506).
(2)
انظر: بدائع الفوائد (2/ 363)، والمعلم (3/ 93).
(3)
انظر: تأويل مختلف الحديث (166، 169)، وبدائع الفوائد (2/ 363)، والأنوار الكاشفة (252).
(4)
سيأتي ذكر هذه الأدلة في المطلب التالي إن شاء الله تعالى.
له المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنما هو عرض من الأعراض التي تعتري البشر جميعًا، بما في ذلك الأنبياء، كالمرض، والجوع والعطش، والحر والبرد، والتعب والإعياء والإغماء، وغيرها.
وإلى هذا القول ذهب عامة أهل السنة والجماعة
(1)
، ومن وافقهم، وقد نص عليه ابن قتيبة
(2)
، والخطابي
(3)
، والمازري، وقوَّام السنة الأصبهاني
(4)
، وابن قدامة
(5)
، والقاضي عياض، وابن الجوزي
(6)
، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي
(7)
، والنووي
(8)
، والقرافي
(9)
، وابن القيم
(10)
، وسليمان بن عبد الله
(11)
، وحافظ الحكمي
(12)
، والمعلمي
(13)
، والشنقيطي
(14)
، وابن باز
(15)
، وابن عثيمين
(16)
، وغيرهم
(17)
.
(1)
انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (296)، ومعالم التنزيل (1/ 99)، والمعلم (3/ 93)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 46)، والنبوات (1/ 485)، وبدائع الفوائد (2/ 365)، وتفسير القرآن العظيم (1/ 220)، وفتح القدير (1/ 121).
(2)
انظر: تأويل مختلف الحديث (167 - 175)، وتأويل مشكل القرآن (116).
(3)
انظر: أعلام الحديث (2/ 1500 - 1501).
(4)
انظر: الحجة في بيان المحجة (1/ 519 - 521).
(5)
انظر: الكافي (5/ 331).
(6)
انظر: كشف المشكل (4/ 342).
(7)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 44، 46).
(8)
انظر: شرح النووي على مسلم (14/ 424 - 425)، وفتح الباري (10/ 222).
(9)
انظر: الفروق (4/ 149).
(10)
انظر: زاد المعاد (4/ 124)، وبدائع الفوائد (2/ 362 - 365).
(11)
انظر: تيسير العزيز الحميد (382 - 383).
(12)
انظر: معارج القبول (1/ 368).
(13)
انظر: الأنوار الكاشفة (249 - 253).
(14)
انظر: أضواء البيان (4/ 474).
(15)
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعه له (8/ 149).
(16)
انظر: المجموع الثمين (1/ 132 - 133)، وتفسير القرآن الكريم، له (1/ 328).
(17)
انظر: شرح مشكل الآثار (تحفة 6/ 610)، ومنة المنعم (3/ 449)، وظلمات أبي رية =
وعمدتهم في تأثر النبي صلى الله عليه وسلم ومرضه بسبب السحر حديث عائشة رضي الله عنها -المتقدم- قالت: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُرَيق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال:(يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال في مُشْطٍ ومُشَاطةٍ وجفِّ طَلعِ نخلةٍ ذكرِ، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال:(يا عائشة، كأن ماءها نُقَاعةُ الحِنَّاء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين)، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: (قد عافاني الله، فكرهت أن أثوِّرَ على الناس فيه شرًا) فأمر بها فدفنت.
قال القرطبي: "وقول عائشة رضي الله عنها: (سحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ)، هذا الحديث يدل على أن السحر موجود، وأن له أثرًا في المسحور، وقد دل على ذلك مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، بحيث يحصل بذلك القطع بأن السحر حق، وأنه موجود"
(1)
.
وقال الشنقيطي: "في هذا الحديث الصحيح أن تأثير السحر فيه صلى الله عليه وسلم سبب له المرض، بدليل قوله: (أما الله فقد شفاني)، وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري وغيره بلفظ: فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، أي: مسحور، وهو صريح بأن السحر سبب له وجعًا"
(2)
.
وقال الخطابي: "السحر ثابت، وحقيقته موجودة، وقد اتفق أكثر
= لمحمد عبد الرزاق حمزة (269)، وفتاوى اللجنة الدائمة (1/ 569).
(1)
المفهم (5/ 568).
(2)
أضواء البيان (4/ 506).
الأمم، من العرب والفرس والهند وبعض الروم على إثباته
…
والأنبياء صلوات الله عليهم يجوز عليهم من الأعراض والعلل ما يجوز على غيرهم، إلا فيما خصهم الله به من العصمة في أمر الدين، الذي أرصدهم له، وبعثهم به، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل، وتأثير السم والأمراض وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا وابنه يحيى عليه السلام، وسُمَّ نبينا صلى الله عليه وسلم في الشاة التي أُهديت له بخيبر
…
فلم يكن شيء مما ذكرنا قادحًا في نبوتهم، ولا دافعًا لفضيلتهم، وإنما هو امتحان وابتلاء
…
فأما ما يتعلق من أمره صلى الله عليه وسلم بالنبوة فقد عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، وإنما كان يخيل إليه من أنه يفعل الشيء ولا يفعله في أمر النساء خصوصًا، وفي إتيان أهله قصرةً، إذ كان قد أُخذ عنهن بالسحر، دون ما سواه من أمر الدين والنبوة، وهذا من جملة ما تضمنه قوله عز وجل:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] الآية، فلا ضرر إذن مما لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، والحمد لله على ذلك"
(1)
.
وقال المازري: "أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقائق غيره من الأشياء الثابتة، خلافًا لمن أنكره ونفى حقيقته، وأضاف ما يتفق منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز، وذكر أنه مما يُتعلم، وذكر ما يشير إلى أنه مما يُكفَّرُ به، وأنه يُفرَّقُ به بين المرء وزوجه، وهذا كله مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له، وكيف يُتعلم ما لا حقيقة له.
وهذا الحديث أيضًا فيه إثباته، وأنه أشياء دفنت وأُخرجت، وهذا كله يبطل ما قالوه"
(2)
.
وقال القاضي عياض: "السحر مرض من الأمراض، وعارض من
(1)
أعلام الحديث (2/ 1500 - 1504).
(2)
المعلم (3/ 93).
العلل، تجوز عليه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- كأنواع الأمراض مما لا يُنكَر، ولا يَقدح في نبوته عليه السلام، وأما ما ورد أنه كان يُخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يُدخل عليه داخلةً في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروؤه عليه في أمر دنياه، التي لم يبعث بسببها ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يُخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان"
(1)
.
وقال القرطبي: "الأنبياء من البشر، فيجوز عليهم من الأمراض والآلام والغضب والضجر والعجز والسحر والعين وغير ذلك ما يجوز على البشر، لكنهم معصومون عما يناقض دلالة المعجزة من معرفة الله تعالى، والصدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ، وعن هذا المعنى عبَّر الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، من حيث البشرية: يجوز عليهم ما يجوز عليهم، ومن حيث الخاصة النبوية: امتاز عنهم، وهو الذي شهد له العلي الأعلى بأن بصره ما زاغ وما طغى، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحي يُوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى"
(2)
.
* * *
(1)
الشفاء (378).
(2)
المفهم (5/ 570).