الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال
اختلف أهل العلم في هذا الحديث على قولين:
القول الأول: أن هذا الحديث معلول سندًا ومتنًا، فلا يعتمد عليه، وإلى هذا ذهب البخاري وعلي بن المديني ويحيى بن معين
(1)
، وعبد الرحمن بن مهدي
(2)
والبيهقي
(3)
وابن تيمية، وابن القيم وابن كثير وابن عثيمين
(4)
وغيرهم، عليهم رحمة الله.
أما إعلاله من جهة السند: فقد رواه مسلم من طريق سريج بن يونس وهارون بن عبد الله قالا: حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة
…
فذكر الحديث.
وقد أُعل هذا السند من ثلاثة وجوه:
(1)
انظر: الجواب الصحيح (2/ 443)، والتوسل والوسيلة (100)، ومجموع الفتاوى (1/ 256)، و (18/ 18) كلها لابن تيمية.
(2)
انظر: الجواب الصحيح (2/ 443 - 444)، وابن مهدي هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن أبو سعيد العنبري مولاهم البصري، الإمام الناقد المجود سيد الحفاظ، برع في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ، توفي رحمه الله سنة ثمان وتسعين ومائة (198). [انظر: تاريخ بغداد (10/ 239)، والسير (9/ 192)، وتذكرة الحفاظ (1/ 329)، وتقريب التهذيب (1/ 592)، وشذرات الذهب (1/ 355)].
(3)
انظر: الأسماء والصفات (2/ 256)، ومجموع الفتاوى (17/ 236)، و (18/ 18)، والبداية والنهاية (1/ 14).
(4)
انظر: شرح رياض الصالحين (4/ 522).
الأول: أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار
(1)
موقوفًا عليه.
قال البخاري: "روى إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله التربة يوم السبت)، وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح"
(2)
.
وقال ابن القيم عن هذا الحديث: "وقع فيه الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، في تاريخه الكبير، وقاله غيره من علماء المسلمين أيضًا، وهو كما قالوا"
(3)
.
الثاني: أن إسماعيل بن أمية قد أخذ هذا الحديث -كما يرى ابن المديني- من إبراهيم بن أبي يحيى، وإبراهيم بن أبي يحيى هذا ضعيف لا يحتج به، بل هو عند أهل الحديث متروك متهم بالكذب
(4)
.
قال علي بن المديني -مُعِلًّا إسناد هذا الحديث-: "ما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى"
(5)
.
وقد جاء هذا الحديث من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، كما أشار إلى
(1)
هو كعب بن ماتع الحميري من أهل اليمن كان من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب، أسلم في زمن أبي بكر وقدم من اليمن في دولة عمر، فأخذ عن الصحابة وغيرهم، وله رواية في صحيح مسلم، وكان يحدث الصحابة عن الكتب الإسرائيلية توفي سنة (34 هـ). [انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 52)، والسير (3/ 489)، والعبر (1/ 26)، وتقريب التهذيب (2/ 43)].
(2)
التاريخ الكبير (1/ 413) في ترجمة أيوب بن خالد.
(3)
المنار المنيف (72)، وانظر: بدائع الفوائد (1/ 71).
(4)
انظر: الضعفاء الصغير للبخاري (408)، والضعفاء والمتروكين للنسائي (42)، وسير أعلام النبلاء (8/ 405 - 454)، وتقريب التهذيب (1/ 65).
(5)
الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 255 - 256).
ذلك البيهقي، فقال معقبًا على كلام ابن المديني:"قلت: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإسناده ضعيف"
(1)
.
الثالث: أن في سنده: أيوب بن خالد، وهو ضعيف.
قال الأزدي
(2)
: "أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك، تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه"
(3)
.
وقال ابن حجر: "فيه لين"
(4)
.
هذه هي العلل الموجهة إلى سند هذا الحديث، وقد أوجبت القدح فيه، وعدم الاعتماد عليه عند أصحاب هذا القول.
قال ابن تيمية: "وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: (خلق الله التربة يوم السبت)، فهو حديث معلول، قدح فيه أئمة الحديث، كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضًا، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه"
(5)
.
وقال أيضًا: "هذا الحديث قد بين أئمة الحديث، كيحيى بن معين
(1)
الأسماء والصفات (2/ 256).
(2)
هو الحافظ البارع أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بريدة الأزدي الموصلي، صاحب كتاب الضعفاء، أُخذ عليه فيه أنه ضعَّف جماعة بلا دليل، وقد تكلم فيه بعض النقاد وقالوا: في حديثه مناكير، توفي رحمه الله سنة (374). [انظر: تاريخ بغداد (2/ 240)، والسير (16/ 347)، وتذكرة الحفاظ (3/ 967)، وشذرات الذهب (2/ 84)].
(3)
تهذيب التهذيب (1/ 365).
(4)
تقريب التهذيب (1/ 117)، وانظر: الأنوار الكاشفة للمعلمي (189).
(5)
مجموع الفتاوى (17/ 235 - 236).
وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري، وغيرهم، أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار"
(1)
.
وقال ابن كثير: "تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ
…
فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صُحُفِهِ، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
وأما إعلاله من جهة المتن، فمن عدة وجوه
(3)
:
الأول: أنه جعل استيعاب الخلق في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن، حيث أخبر الله تعالى فيه أن خلق السموات والأرض وما بينهما كان في ستة أيام، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4].
الثاني: أنه لم يذكر خلق السموات.
الثالث: أنه جعل خلق الأرض وما فيها في ستة أيام، وهذا خلاف القرآن، ففيه أن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماء في يومين، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا
(1)
الجواب الصحيح (2/ 443 - 444)، وانظر: مجموع الفتاوى (1/ 256)، و (18/ 73، 18) بغية المرتاد (306).
(2)
البداية والنهاية (1/ 14 - 15)، وانظر: التفسير (1/ 106)، و (2/ 352).
(3)
انظر: بغية المرتاد (306 - 307)، والجواب الصحيح (2/ 444 - 445)، والتوسل والوسيلة (100)، ومجموع الفتاوى (1/ 257)، و (17/ 235 - 237)، و (18/ 18) كلها لابن تيمية، وبدائع الفوائد (1/ 71)، والمنار المنيف (72) كلاهما لابن القيم، والبداية والنهاية (1/ 15)، وتفسير القرآن العظيم (353) كلاهما لابن كثير، وفيض القدير للمناوي (3/ 448)، والجواهر المضيَّة في طبقات الحنفية للقرشي (4/ 568)، والأنوار الكاشفة للمعلمي (188 - 189).
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 9 - 12].
الرابع: أنه مخالف للآثار القائلة: إن أول الستة، يوم الأحد، فقد روي ذلك عن ابن عباس
(1)
وكعب الأحبار
(2)
وعبد الله بن سلام
(3)
ومجاهد
(4)
والضحاك
(5)
والسدي
(6)
وغيرهم
(7)
، وروي مرفوعًا إلى
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 88، 90)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (4/ 1361، 1362، 1364، 1365)، وابن منده في التوحيد (1/ 186).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 5)، وفي التاريخ (1/ 43).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 232)، وابن منده في التوحيد (1/ 183، 185)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 250)، وحكم المحقق عليه بالصحة، وأبو الشيخ في العظمة (4/ 1366)، وقال المحقق:"إسناده صحيح"، وانظر:(4/ 1368).
(4)
أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 513)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 242)، وصحح المحقق إسناده.
ومجاهد هو: الإمام شيخ القراء والمفسرين مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي، مولى السائب بن أبي السائب، عرض القرآن على ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثين مرة، فعنه أخذ القرآن، وعنه أيضًا أخذ التفسير والفقه، روى عن عدد من الصحابة كأبي هريرة وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم، اختلف في سنة وفاته على أقوال، أشهرها أنه توفي سنة (103 هـ). [انظر: السير (4/ 449)، والعبر (1/ 94)، وتقريب التهذيب (2/ 159)، وشذرات الذهب (1/ 125)].
(5)
أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 5).
(6)
أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 88)، والسدي هو: الإمام المفسر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة أبو محمد الحجازي ثم الكوفي الأعور السدي، أحد موالي قريش، حدَّث عن أنس بن مالك وابن عباس رضي الله عنهم، وقد ليَّنه بعض النقاد، وقال فيه ابن حجر: صدوق يهم، توفي رحمه الله سنة (127). [انظر: السير (5/ 264)، والعبر (1/ 127)، وتقريب التهذيب (1/ 97)].
(7)
انظر: مجموع الفتاوى (17/ 236)، والبداية والنهاية (1/ 13).
النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، ونقل الطبري وغيره الإجماع على هذا
(2)
، وهو الذي تدل عليه أسماء الأيام: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس.
قال ابن تيمية: "ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم، وكان خلقه يوم جمعة، وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أن خلق ذلك في الأيام السبعة، وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد"
(3)
.
وقال أيضًا: "لما ثبت بهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، أن آدم خلق يوم الجمعة، وثبت أنه آخر المخلوقات بلا نزاع، علم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، لأن القرآن قد أخبر أن الخلق كان في ستة أيام، وبهذا النقل المتواتر، مع شهادة ما عند أهل الكتاب على ذلك، وموافقة الأسماء وغير ذلك، علم ضعف الحديث المعارض لذلك، مع أنه في نفسه متعارض
…
فهو قد بين ما يوافق سائر الأحاديث من أن آدم خلق يوم الجمعة، وأنه خلق آخر الخلق، ومعلوم بنصوص القرآن أن الخلق كان في ستة أيام، وذلك يدل على ما وقع فيه من الوهم بذكر الخلق يوم السبت"
(4)
.
وقال ابن القيم عن يوم السبت: "لم يكن يومًا من أيام تخليق العالم، بل ابتداء أيام التخليق الأحد، وخاتمتها الجمعة، هذا أصح القولين، وعليه يدل القرآن، وإجماع الأمة على أن أيام تخليق العالم ستة، فلو كان أولها السبت لكان سبعة"
(5)
.
وقال ابن كثير عن هذا الحديث: "في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك
(1)
انظر: العظمة لأبي الشيخ (4/ 1362، 1371، 1372، 1374).
(2)
انظر: تاريخ الأمم والملوك (1/ 45).
(3)
التوسل والوسيلة (100)، وانظر: مجموع الفتاوى (1/ 257).
(4)
بغية المرتاد (306 - 307) بتصرف يسير.
(5)
بدائع الفوائد (1/ 71)، وانظر: المنار المنيف (72).
أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن، لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السموات في يومين من دخان"
(1)
.
وقال أيضًا: "هذا الحديث من غرائب الصحيح"
(2)
.
القول الثاني: أن الحديث صحيح لا مطعن في إسناده البتة، وعلى رأس القائلين بهذا الإمام مسلم، عليه رحمة الله، وصححه أيضًا ابن حبان
(3)
، وابن الأنباري
(4)
، وابن الجوزي
(5)
، وأحمد شاكر
(6)
، وانتصر لتصحيحه والرد على الطاعنين في صحته كل من المعلمي والألباني، عليهما رحمة الله، فأجابا عن العلل الموجهة إلى سند هذا الحديث بما يلي
(7)
:
(1)
البداية والنهاية (1/ 15).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 106).
(3)
انظر: صحيح ابن حبان (14/ 30) ح (6161).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (18/ 18)، وابن الأنباري هو: الشيخ المُعَمَّر مسند بغداد
أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن الهيثم الأنباري، تفرد بالرواية عن جماعة، وتوفي سنة ستين وثلاثمائة (360). [انظر: تاريخ بغداد (2/ 148)، والسير (16/ 63)، والعبر (2/ 106)، وشذرات الذهب (3/ 31)].
(5)
انظر: تفسيره زاد المسير (7/ 243)، ومجموع الفتاوى (17/ 236)، و (18/ 18).
(6)
انظر: تعليقه على المسند (16/ 146)، وأحمد شاكر هو: أحمد بن محمد بن شاكر بن عبد القادر الحسيني محدث مفسر فقيه أديب، ولد بالقاهرة ودرس بالسودان ثم بمعهد الإسكندرية، وكان لوالده أثر كبير في حياته العلمية، وبعد ذلك التحق بالأزهر وتخرج منه فعين مدرسًا ثم قاضيًا ثم عضوًا بالمحكمة العليا، وله جهود في خدمة السنة النبوية، توفي سنة (1377 هـ) له العديد من المؤلفات منها: تحقيق مسند الإمام أحمد بن حنبل، ولم يكمله، وكتاب الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير. [انظر: الأعلام (1/ 253)، ومعجم المؤلفين (1/ 284)].
(7)
وللشيخ عبد القادر السندي مقالة -في حلقتين- عن هذا الحديث في مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (49)، و (50) بعنوان:"إزالة الشبهة عن حديث التربة" توجه فيها لتصحيحه.
أما إعلال البخاري لهذا الحديث بقوله: "وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح"، فقد قال عنه المعلمي: "مؤدى صنيعه أنه يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبني على ثلاثة أمور:
الأول: استنكار الخبر لما مر.
الثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل، لم يخرج له مسلم إلا هذا الحديث، لما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي، ولم ينقل توثيقه عن أحد من الأئمة، إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف.
الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله: "وقال بعضهم"، وليته ذكر سندها ومتنها، فقد تكون ضعيفة في نفسها، وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين، ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبد الله بن سلام ووهب بن منبه
(1)
ومن يأخذ عنهم: أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم، وعليه بنوا قولهم في السبت
…
وهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب"
(2)
.
وأما إعلال ابن المديني للحديث بأنه يرى أن إسماعيل بن أمية قد رواه عن إبرهيم بن أبي يحيى، وهو متروك متهم بالكذب، فقد أجاب عنه المعلمي أيضًا فقال: "يرد على هذا أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير
(1)
هو وهب بن منبه بن كامل بن سيج أبو عبد الله الصنعاني اليماني، عالم أهل اليمن، كان ثقة واسع العلم، عنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، صاحب قصص وأخبار، روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، توفي رحمه الله سنة (114 هـ). [انظر: وفيات الأعيان (5/ 28)، وتذكرة الحفاظ (1/ 100)، والسير (4/ 544)، وتقريب التهذيب (2/ 293)، وشذرات الذهب (1/ 150)].
(2)
الأنوار الكاشفة (189 - 190) بتصرف يسير، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 449).
مدلس، فلهذا -والله أعلم- لم يرتضِ البخاري قول شيخه ابن المديني، وأعل الخبر بأمر آخر"
(1)
.
وقال الألباني: "هذه دعوى عارية من الدليل، إلا مجرد الرأي، وبمثله لا ترد رواية إسماعيل بن أمية، فإنه ثقة ثبت، كما قال الحافظ في التقريب
(2)
"
(3)
.
وأما إعلال الحديث بأيوب بن خالد لأن فيه لينًا فقد قال عنه الألباني: "ليس بشيء، فإنه لم يضعفه أحد سوى الأزدي، وهو نفسه لين عند المحدثين، فتنبه"
(4)
.
وقال المعلمي: "وأيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدل على قوَّته عنده، وقد أخرج له مسلم في صحيحه كما علمت، وإن لم يكن حده أن يحتج به في الصحيح"
(5)
.
وأما العلل الموجهة إلى متن هذا الحديث فقد أجاب عنها المعلمي كما سيأتي، أما إجابات غيره من المصححين لهذا الحديث فتكاد تنحصر في الإجابة على علة واحدة -العلة الأولى- وهي مخالفة هذا الحديث للقرآن من حيث إن الحديث يفيد أن الخلق تم في سبعة أيام، والقرآن صريح بأنه في ستة أيام، وهذه الأجوبة تعتبر هي توجيهات أصحاب هذا القول لهذا الحديث، والمتأمل لها يجد أن أغلبها تجعل ابتداء الخلق يوم السبت، وانتهاءه يوم الخميس، فهذه ستة أيام، وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وأما خلق آدم فجعلوه غير داخل في الأيام الستة، قالوا: وبهذا يندفع الإشكال، وتنتفي مخالفة هذا الحديث للقرآن.
(1)
الأنوار الكاشفة (189).
(2)
انظر: تقريب التهذيب (1/ 91).
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 449).
(4)
سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 450).
(5)
الأنوار الكاشفة (190).
قال ابن إسحاق
(1)
-فيما روى الطبري عنه-: "نقول: نحن المسلمون فيما انتهى إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتدأ الله الخلق يوم السبت"
(2)
.
وقال السهيلي
(3)
-معلقًا على حديث التربة-: "فبين أن أول الأيام التي خلق الله فيها الخلق: السبت، وآخر الأيام الستة إذًا الخميس، وكذلك قال ابن إسحاق فيما ذكر عنه الطبري"
(4)
. واختلف أصحاب هذا القول في وجه عدم دخول اليوم الذي خلق فيه آدم عليه السلام في الأيام الستة على عدة أقوال:
1 -
فذهب ابن هبيرة
(5)
إلى أنه مستقل عن خلق الأرض، ليس منها،
(1)
هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر القرشي المطلبي مولاهم، المدني، إمام حافظ أخباري، علامة في السير والمغازي، وله فيها كتاب السيرة النبوية، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة (151) على الصحيح. [انظر: وفيات الأعيان (4/ 103)، والسير (7/ 33)، وتذكرة الحفاظ (1/ 172)، وتقريب التهذيب (2/ 54)].
(2)
تاريخ الأمم والملوك (1/ 44)، وانظر: مجموع الفتاوى (17/ 237).
(3)
هو العلامة عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي الأندلسي، النحوي الحافظ العلم صاحب التصانيف، كان مالكيًا ضريرًا، برع في العربية واللغات والأخبار وتصدر للإفادة وكان مشهورًا بالصلاح والورع والقناعة بالكفاف توفي رحمه الله سنة (581 هـ) له مصنفات منها: الروض الأنف، في شرح السيرة النبوية لابن هشام، ونتائج الفكر. [انظر: وفيات الأعيان (3/ 119)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1348)، وشذرات الذهب (4/ 271)، والأعلام (3/ 313)].
(4)
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية (2/ 197).
(5)
هو الإمام العالم والوزير العادل أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن الشيباني الدوري العراقي الحنبلي، صاحب التصانيف، كان سلفيًا أثريًا دينًا خيرًا عاقلًا وقورًا متواضعًا، جزل الرأي، بارًا بالعلماء، مكبًا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه، ومن مؤلفاته: الإفصاح عن معاني الصحاح، شرح فيه صحيحي البخاري ومسلم، توفي رحمه الله مسمومًا سنة ستين وخمسمائة (560). [انظر: وفيات الأعيان (5/ 191)، والسير (2/ 426)، والعبر (3/ 34)، وشذرات الذهب (4/ 191)].
فلا يكون يومه معدودًا في الأيام الستة، قال رحمه الله:"لما كملت هذه الأشياء في ستة أيام، كما قال عز وجل، واستتب أمر الدار، مستدعية بلسان حالها قدوم الساكن حين تهيئة الأسباب، والفراغ من الرزق والمركب والرياش، وتبين ما يكره وما يطلب، كان خلق ساكن الدار، أبي البشر في يوم الجمعة عند آخر النهار"
(1)
.
2 -
وذهب ابن الجوزي إلى أن أصول الأشياء هي التي خلقت في ستة أيام، وآدم ليس أصلًا وإنما هو كالفرع من بعضها، وبناءً عليه، فلا يلزم أن يكون يوم خلقه في جملة الأيام الستة.
قال رحمه الله: "فإن قيل: فالقرآن يدل على أن خلق الأشياء في ستة أيام، وهذا الحديث يدل على أنها في سبعة؟ ! فالجواب: أن السموات والأرض وما بينهما خلق في ستة أيام، وخُلق آدم من الأرض، والأصول خلقت في ستة، وآدم كالفرع من بعضها"
(2)
.
3 -
وذهب المعلمي إلى القول: بأن خالقية الله تعالى لم تتوقف بعد الأيام الستة، لأن الله تعالى ما زال ولا يزال خالقًا، فخلقُ آدم كان بعدها، وليس في القرآن ما يدل على أن خلق آدم كان في الأيام الستة حتى يُقال: إنها صارت -بهذا الحديث- سبعة.
قال رحمه الله: "ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل أنَّ خلق آدم كان في الأيام الستة، ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق آدم في سورة البقرة، وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمَّار قبل آدم، عاشوا فيها دهرًا، فهذا يساعد القول: بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السموات والأرض، فتدبر
(1)
الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 150 - 151).
(2)
كشف المشكل (3/ 580).
الآيات والحديث على ضوء هذا البيان، يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد"
(1)
.
4 -
أما الألباني فقد جعل هذه الأيام المذكورة في الحديث غير الأيام الستة المذكورة في القرآن، واستدل على ذلك بحديث أبي هريرة عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يا أبا هريرة: إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الإثنين، والشر يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة، في آخر ساعة من النهار بعد العصر، خلقه من أديم الأرض بأحمرها وأسودها، وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله من آدم الطيب والخبيث)
(2)
.
قال الألباني تعليقًا على حديث التربة: "الأيام السبعة في الحديث هي غير الأيام الستة في القرآن، فالحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض، فهو يزيد على القرآن، ولا يخالفه، وكان هذا الجمع قبل أن أقف على حديث الأخضر -يعني: الحديث المتقدم- فإذا هو صريح فيما كنت ذهبت إليه من الجمع، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"
(3)
.
(1)
الأنوار الكاشفة (190).
(2)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في كتاب التفسير، كما في تحفة الأشراف (10/ 133) ح (13557) من طريق الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة
…
، وأورده الذهبي في العلو (94)، وعزاه للنسائي، وقال:"الأخضر وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولينه الأزدي، وحديثه في السنن الأربعة، وهذا الحديث غريب من أفراده"، وأورده أيضًا ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 14)، وقال:"اختلف فيه على ابن جريج"، وقال المعلمي في الأنوار الكاشفة (192):"في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نظر"، وقال الألباني في مختصر العلو (112) عن هذا الحديث:"جيد الإسناد".
(3)
مختصر العلو (112)، وانظر: تعليقه على مشكاة المصابيح (3/ 1598) تنبيه: =
هذه هي توجيهات أصحاب هذا القول لهذا الحديث، وهي كما أسلفت تنحصر في الإجابة عن العلة الأولى من علل المتن، وحاصلها: أن اليوم الذي خلق فيه آدم غير داخل في الأيام الستة، وأما الألباني فقد جعل الأيام السبعة كلها غير الأيام الستة المذكورة في القرآن.
وأما بقية العلل فقد أجاب عنها المعلمي:
فقال عن العلة الثانية، وهي عدم ذكر خلق السموات:"الحديث وإن لم ينص على خلق السماء، فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية".
وأما العلة الثالثة: وهي أن الحديث يدل على أن خلق الأرض كان في ستة أيام، وصريح القرآن يدل على أن خلقها كان في أربعة أيام، فقد أجاب عنها بقوله:"الذي فيه -يعني: الحديث- أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئًا، والمعقول أنه بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن"
(1)
.
وأما العلة الرابعة: وهي مخالفة الحديث للآثار القائلة: بأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، فقد قال عنها المعلمي:"ما كان منها مرفوعًا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام وكعب ووهب، ومن يأخذ من الإسرائيليات"
(2)
.
= ما ذهب إليه الألباني يدل على أنه لا يجعل ابتداءًا لخلق يوم السبت، كما هو رأي الآخرين، والله أعلم.
(1)
الأنوار الكاشفة (190).
(2)
الأنوار الكاشفة (191).
وأما دلالة أسماء الأيام على أن أول الأيام الستة هو يوم الأحد فقد قال عنها السهيلي: "ليس في تسمية هذه الأيام:
(1)
والإثنين إلى الخميس ما يشد قول من قال: إن أول الأسبوع الأحد، وسابعها السبت كما قال أهل الكتاب، لأنها تسمية طارئة، وإنما كانت أسماؤها في اللغة القديمة: شيار وأول وأهون وجبار ودبار ومؤنس والعروبة، وأسماؤها بالسريانية قبل هذا: أبو جاد هوز حطي
…
إلى آخرها، ولو كان الله تعالى ذكرها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد، لقلنا: هي تسمية صادقة على المسمَّى بها، ولكنه لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وليسا من المشتقة من العدد، ولم يسمِها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيًا للغة قومه لا مبتدئًا لتسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعًا لهم"
(2)
.
* * *
(1)
السياق هنا يقتضي وجود كلمة ساقطة، ولعلها:(الأحد)، والله أعلم.
(2)
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية (2/ 198)، وانظر: الأنوار الكاشفة للمعلمي (191).