الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الذي يظهر -والله تعالى أعلم بالصواب- أن المراد بالظل المضاف إلى الله تعالى في الحديث: ظل العرش -على ما جاء في القول الأول- فيكون من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ويدل على هذا عدة أمور منها:
1 -
أنه جاء مفسرًا في بعض رواياته بذلك، ومخرج الحديث واحد، وإذا كان كذلك فلا بد من حمل إحدى الروايتين على الأخرى، ولا يجوز حمل رواية:(ظل العرش) على رواية: (ظل الله)؛ لأنه لا يمكن أن يطلق (ظل العرش) ويراد به (ظل الله)، لكن العكس ممكن؛ لأن الله تعالى هو خالق العرش -وكل ظل في القيامة فهو ظله على هذا المعنى- لا سيما وأنه قد ثبت في عدة أحاديث أن للعرش ظلًا يستظل به من شاء الله تعالى من عباده، كما في أدلة القول الأول.
ومما يؤيد هذا أن كثيرًا من الأحاديث التي فيها إضافة الظل إلى العرش، قد جاءت في بعض ألفاظها بإضافة الظل إلى الله تعالى، مما يدل على أن المراد بها شيء واحد، وهو ظل العرش كما تقدم.
فمثلًا: حديث أبي اليسر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسرًا أو وضع عنه، أظله الله تعالى في ظل عرشه)
(1)
.
قد جاء عند مسلم وأحمدَ وغيرهما بلفظ: (من أنظر معسرًا أو وضع
(1)
تقدم تخريجه ص (275).
عنه أظله الله في ظله)
(1)
.
2 -
أن هذا المعنى، وهو التعبير عن ظل العرش، بظل الله تعالى قد جاء مصرحًا به في سياق واحد، مما يجعله لا يقبل أي احتمال غيره، فعن العِرْبَاض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: المتحابون بجلالي، في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي)
(2)
.
3 -
أن حمل قوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله
…
) على ظل الله تعالى نفسه، ينافي الأحاديث الكثيرة التي جاءت بإثبات الظل للعرش، لأن الله تعالى نفى وجود ظل غير ظله في ذلك اليوم، علمًا أنني لم أجد -بعد بحثي المتواضع- من أثبت الظل صفة لله تعالى، بل ظاهر صنيع السلف عليهم رحمة الله، حمل الظل المضاف إلى الله تعالى، على ظل العرش، لمجيئه مفسرًا بذلك، والله أعلم.
وأما القول الثاني وهو: تأويل الظل بمعنى الرحمة، فهو إخراج للفظ عن ظاهره وحقيقته من غير قرينة توجب ذلك.
وتفسير بعضهم، الرحمة بدخول الجنة والاستظلال بظلها، لا يستقيم مع هذا الحديث، لأن دخول الجنة والاستظلال بظلها لا يختص بهؤلاء السبعة، وبالتالي فلن يكون لهم مزية على غيرهم، والحديث يدل على امتيازهم على غيرهم بهذا الاستظلال.
وأيضًا فإن تفسير الظل بالرحمة ترده الرواية الأخرى للحديث، وهي:(سبعة يظلهم الله في ظل عرشه)؛ لأن المعنى سيكون: في رحمة عرشه؟ ! وهذا لا يقول به أحد.
(1)
صحيح مسلم (18/ 343) ح (3006)، والمسند (24/ 279) ح (15521).
(2)
أخرجه أحمد (28/ 389) ح (17158)، والطبراني في الكبير (18/ 258) ح (644)، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 629) ح (4445)، وقال:"رواه أحمد بإسناد جيد"، والذهبي في العلو (84)، وقال:"إسناده حسن"، والهيثمي في المجمع (10/ 279)، وقال:"رواه أحمد والطبراني، وإسنادهما جيد".
كما لا يصح حمل الظل على معنى الحماية والكرامة والرعاية، لأن هذه تحصل في الدنيا أيضًا، والحديث قد جاء تقييده بيوم القيامة، كما في رواية للبخاري:(سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله)
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: "إذا كان المراد: ظل العرش، استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح، وبه جزم القرطبي.
ويؤيده أيضًا تقييد ذلك بيوم القيامة، كما صرح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر، وهو عند المصنف في كتاب الحدود.
وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة، لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش"
(2)
.
وأما القول الثالث، وهو أن المراد بالظل في الحديث: ظل يخلقه الله تعالى، فقول يفتقر إلى دليل يدل عليه، لأنه غيب، والغيب سبيله الوقوف عند حدود ما ورد.
وأما القول بأنه يلزم من حمل الظل على ظل الله تعالى، أن يكون الله تحت الشمس، فقول غريب جدًا، لأنه دخول في الكيفية، فلو لم ترد الرواية الأخرى:(في ظل عرشه)؛ لتعين حمل الحديث على ظاهره، دون الخوض في كيفية ذلك، والله أعلم.
وكذا القول: بأن رواية: (في ظل عرشه) يلزم منها أن يكون العرش تحت الشمس، مع أنه أكبر منها، كل ذلك دخول في الكيفية، ومذهب أهل السنة والجماعة -كما هو معلوم- تفويض الكيفية وعدم الخوض فيها، علمًا
(1)
صحيح البخاري (6/ 2496) ح (6421).
(2)
فتح الباري (2/ 144).
أن هذا اللازم ليس بلازم في الحقيقة، وذلك أنه يمكن أن يكون للعرش ظل وهو فوق الشمس، ويكون ذلك دليلًا على عظم خلقه، وقد أشار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى نحو من هذا حينما قال:"لو صح الحديث، لقلنا: ربما يكون طرف العرش مثلًا، والله على كل شيء قدير"
(1)
.
ثم إنه قد ثبت أن للعرش ظلًا في عدة أحاديث غير هذا
(2)
، فلو أمكن رد هذه الرواية، لما أمكن رد تلك الأحاديث الأخرى، والتي جاءت بإثبات الظل للعرش.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "وقد بلغ في ظل العرش أحاديث تبلغ التواتر"
(3)
.
* * *
(1)
شرح رياض الصالحين (2/ 244).
(2)
انظر: ص (274 - 275) من هذا البحث.
(3)
العلو (84).