الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الترجيح
الحق أن مثار الإشكال في هذا الحديث هو المتن، لمخالفة ظاهره صريح القرآن، وهو الذي دعا بعض أهل العلم إلى التفتيش في سنده لمعرفة مصدر الوهم فيه، فمنهم من جعل مصدره كون إسماعيل بن أمية رواه عن إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف متهم بالكذب، ومنهم من جعل مصدره أيوب بن خالد، حيث إنه قد ضُعِّفَ من قبل بعض العلماء، ومنهم من جعل مصدره وَهْمُ بعض الرواة، حيث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو موقوف على كعب، من رواية أبي هريرة عنه.
ولذا قال المعلمي: "مدار الشك في هذا الحديث على الاستنكار"
(1)
أي: ما في متنه من نكارة، لمخالفته صريح القرآن.
وقد تقدم الكلام على سند هذا الحديث، وبيان الأقوال فيه، بما يغني عن إعادته، والأقوال فيه تكاد تكون متكافئة، إلا أن المضعفين له أكثر عددًا وأعلم بالعلل من المصححين له.
أما متنه فإن الذي يظهر -والله تعالى أعلم بالصواب- أنه مخالف لصريح القرآن، مخالفة واضحة، لا يمكن معها القول: بصحة الحديث، لأن القرآن متواتر مقطوع بصحته، بخلاف هذا الحديث، وهذا يرجح جانب المعلين لسنده.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذا الحديث رواه مسلم رحمه الله، وقد أنكره العلماء عليه، فهو حديث ليس بصحيح، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم،
(1)
الأنوار الكاشفة (190).
لأنه يخالف القرآن الكريم، وكل ما خالف القرآن الكريم فهو باطل، لأن الذين رووا: نقلة بشر، يخطئون ويصيبون، والقرآن ليس فيه خطأ، كله صواب منقول بالتواتر، فما خالفه من أي حديث كان فإنه يحكم بأنه غير صحيح، وإن رواه من رواه"
(1)
.
وتحرير القول وبيانه، في مخالفة هذا الحديث لصريح القرآن كما يلي:
- أن هذا الحديث جعل ابتداء الخلق يوم السبت، وانتهاءه يوم الجمعة، فتكون مدة الخلق على هذا سبعة أيام، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن، وانعقد عليه الإجماع من أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان في ستة أيام، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4].
قال ابن تيمية: "النصوص والآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتابعين متطابقة على ما دل عليه القرآن من أن خلق السموات والأرض في ستة أيام
…
وهذا أيضًا متفق عليه بين أهل الملل كاليهود والنصارى، وهو مذكور في التوراة وغيرها كما ذكر في القرآن"
(2)
.
- وفي هذا الحديث أيضًا أن ابتداء الخلق كان يوم السبت، والذي تدل عليه الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أن ابتداء الخلق يوم الأحد، وبيان ذلك: أنه لا نزاع في كون آدم عليه السلام خلق يوم الجمعة
(3)
، وأنه آخر المخلوقات
(4)
، وهو صريح هذا الحديث، ففيه: (وخلق آدم عليه السلام بعد
(1)
شرح رياض الصالحين (4/ 522).
(2)
بغية المرتاد (303)، وانظر:(307)، ومجموع الفتاوى (18/ 18).
(3)
أخرج مسلم في صحيحه (6/ 390) ح (854) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها).
(4)
انظر: بغية المرتاد (306)، وتاريخ الأمم والملوك للطبري (1/ 46).
العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل).
فإذا كان آدم آخر الخلق، وكان خلقه يوم الجمعة، وكان خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان خلق آدم عليه السلام داخلًا في هذه الأيام الستة، علم يقينًا أن ابتداء الخلق يوم الأحد لا السبت، وهذا ظاهر.
قال ابن جرير الطبري: "لا خلاف بين جميع أهل العلم أن اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] داخلان في الأيام الستة التي ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذا كان الله عز وجل إنما خلق السموات والأرضين وما فيهن في ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن آخر ما خلق الله من خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة: أن يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق خلقه، داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن، لأن ذلك لو لم يكن داخلًا في الأيام الستة، كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام لا في ستة، وذلك خلاف ما جاء به التنزيل، فتبين إذًا إذ كان الأمر كالذي وصفنا في ذلك: أن أول الأيام التي ابتدأ الله فيها خلق السموات والأرض وما فيهن من خلقه، يوم الأحد، إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام كما قال ربنا جل جلاله"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "ثبت بالتواتر أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا هو عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديثَ وآثار أخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو
(1)
تاريخ الأمم والملوك (1/ 46).
خلاف ما أخبر به القرآن"
(1)
.
وعلى هذا القول، وهو أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد: جمهور العلماء من الصحابة والتابعين
(2)
وغالب أهل التفسير، كالطبري والسمعاني
(3)
، والبغوي، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، وصديق بن حسن القنوجي، والسعدي
(4)
.
بل نقل الطبري والقرشي
(5)
الإجماع على ذلك:
قال الطبري: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله -تعالى ذكره- فيه خلق السموات والأرض: يوم
(1)
مجموع الفتاوى (18/ 18 - 19)، وانظر:(17/ 235)، وبغية المرتاد (306).
(2)
انظر: بغية المرتاد (299)، والبداية والنهاية (1/ 13)، وص (361) من هذا البحث.
(3)
هو الإمام العلامة أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي السمعاني المروزي، مفتي خراسان وشيخ الشافعية، كان حنفيًا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وكان فقيهًا زاهدًا ورعًا، وكان شوكًا في أعين المخالفين، وحجة لأهل السنة، له مؤلفات منها: تفسيره المشهور، والانتصار، والقواطع في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة تسع وثمانين وأربعمائة (489). [انظر: وفيات الأعيان (3/ 182)، والسير (19/ 114)، والعبر (2/ 361)، وشذرات الذهب (3/ 393)].
(4)
انظر على الترتيب: جامع البيان للطبري (5/ 513)، وتفسير القرآن العظيم لأبي المظفر السمعاني (5/ 38)، ومعالم التنزيل للبغوي (4/ 108)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 345، 342)، وتفسير ابن كثير (2/ 352)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 211)، وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي (6/ 150 - 151)، وتيسير الكريم الرحمن للسعدي (6/ 562).
(5)
هو محيي الدين عبد القادر بن محمد بن محمد بن نصر الله بن سالم بن أبي الوفاء الحنفي القرشي، برع في الفقه، ودرَّس وأفاد وصنَّف، وشرح معاني الآثار للطحاوي، وله أيضًا: الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفية، توفي رحمه الله سنة خمس وسبعين وسبعمائة (775). [انظر: الدرر الكامنة (2/ 392)، وشذرات الذهب (6/ 238)، والأعلام (4/ 42)].
الأحد، لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك"
(1)
.
وقال القرشي: "اتفقت الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق يوم الأحد"
(2)
.
- وأيضًا فهذا الحديث مخالف للقرآن في جعله مدة خلق الأرض وما فيها ستة أيام، ولم يذكر فيها خلق السموات، والقرآن صريح في أن مدة خلق الأرض وما فيها أربعة أيام، وتمام الستة كان فيها خلق السموات، أي: في اليوم الخامس والسادس، قال تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 9 - 12].
قوله: {فِي يَوْمَيْنِ} ، قال الطبري:"وذلك يوم الأحد ويوم الإثنين، وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالته العلماء"
(3)
.
وقوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي: في تتمة أربعة أيام، قال البغوي:"يريد: خلقَ ما في الأرض، وقدر الأقوات في يومين: يوم الثلاثاء والأربعاء، فهما مع الأحد والإثنين أربعة أيام، رد الآخر على الأول في الذكر، كما تقول: تزوجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس"
(4)
.
وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} ، قال الطبري:"ففرغ من خلقهن سبع سموات في يومين، وذلك يوم الخميس والجمعة"
(5)
.
قال القرطبي بعدما فسر هذه الآيات بما تقدم: "على هذا أهل
(1)
تاريخ الأمم والملوك (1/ 45).
(2)
الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفيه (4/ 568).
(3)
جامع البيان (11/ 87).
(4)
معالم التنزيل (4/ 108).
(5)
جامع البيان (11/ 92).