الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه أصح رواية وردت في حمد الله على الطعام.
كثيرٌ من الشباب للأسف في هذه الأيام عدلوا عنها إلى روايات متنازع في صحتها، البعض يصحِّح والبعض يضعِّف، لماذا لا تحفظ ما في صحيح البخاري المتفق على صحته وتعدل عنه إلى ما هو مختلف فيه؟ ! غلط، طريقة خاطئة، والذي هو منتشر اليوم على ألسنة كثير من الشباب حديث ضعيف.
قال المؤلف: (ولا يَأكُلُ مُتَّكِئاً)
لحديث أبي جحيفة رضي الله عنه عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا آكل متكئاً» (1) الاتكاء هو الميل إلى أحد الشقين.
ودلت الأحاديث والآثارعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتنع من ذلك تواضعاً لله تبارك وتعالى وبعداً عن التكبر فيُستحب أن يجلس الشخص عند الأكل على غير حالة الاتكاء.
كتابُ الأشرِبةِ
قال: (كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ)
الإسكار لغة: إزالة العقل.
وفي اصطلاح الفقهاء: يطلق ويراد به تغطية العقل، هذا إطلاقٌ أعم.
ويطلق ويراد به: تغطية العقل مع لذة وطرب.
هذا إطلاق أخص من الأول وهو المراد من الإسكار حيث أُطلق.
والمسكر: ما غطى العقل مع لذة وطرب.
وما ذكره المؤلف من أن كل مسكر حرام دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكرٍ خمر، وكل مسكرٍ حرام» (2) هذا لفظ مسلم، وفي الصحيحين:«كل مسكرٍ حرام» (3)، وفي رواية عندهما:«كل شراب أسكر فهو حرام» (4).
(1) أخرجه البخاري (5398).
(2)
أخرجه مسلم (2003) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (5398)، ومسلم (2002)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (5586)، ومسلم (2001)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
هذا الحديث حديث صحيح لا غبار عليه، نقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وهو دليلٌ واضح على تحريم كل ما يُسكر سواء كان من العنب أم من غيره، فيدخل فيه أنواع الخمور المختلفة التي كانت في الماضي والحديثة اليوم ومن ذلك الحشيش والمخدرات ونحوها.
قال المؤلف: (وكلُّ مُفَتِّرٍ حَرامٌ)
المفتِّر: الذي إذا شُرِب أحمى الجسد وصار فيه فتور أي ضعف وانكسارفي الجسد.
كالقات الذي يأكله أهل اليمن اليوم هو مفتِّر، كذلك الدخان أيضاً مفتِّر فتجد المدخن عندما ينقطع عن التدخين مدة ثم يدخن يحصل له الفتور هذا في جسده بوضوح.
ودليل ما ذكره المؤلف قول أم سلمة رضي الله عنها: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكِرٍ ومفتِّر. أخرجه أبو داود (1) ولكنه حديث ضعيف في سنده شهر بن حوشب لا يحتج به.
والقات والدخان محرَّمان لضررهما، وكذلك القات يعتبر مسكر على الصحيح.
قال المؤلف: (وما أسكَرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ)
هذا واضح، ما ثبت أن الكثير منه يسكر، يعني إذا شرب الشخص مثلاً زجاجة أو زجاجتين أو أكثر من شراب سَكر، أما إذا شرب منه الكأس والكأسين لا يسكر، هذا يكون حراماً، حتى الكأس والكأسين والشيء القليل منه حرام - مع أن القليل منه لا يسكر- بما أن كثيره مسكر فقليله حرام، بما أنه ثبت أنه مسكر فكله محرَّم سواء كان قليلاً أم كثيراً.
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2) أخرجه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه وهو صحيح.
قال رحمه الله: (ويَجوزُ الانتباذُ في جَميعِ الآنيةِ)
الانتباذ: اتخاذ النبيذ، صنع النبيذ.
والنبيذ ما يُعمَل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك.
ينقعون التمر أو غيره مما ذكرنا في ماء، يُترك فيه حتى يحلو الماء ويتغير بطعم الشيء الذي نُقع فيه، فيحلو ويصير كالعصير، يسمى نبيذاً يفعلونه من التمر مثلاً يأتون بحبات من التمر ويضعونها في كأس ماء بعد يوم تقريباً تجد هذا الماء قد تحول إلى ماء بطعم التمر، فيه حلاوة التمر وطعم التمر، هذا يسمى عندهم نبيذاً.
بعض الأنواع مما ذكر تتخمر إذا تُركت مدة طويلة تتحول إلى خمر.
وفي بعض الأواني يكون تحوله إلى خمرأسرع.
فقال المؤلف: ويجوز الانتباذ في جميع الآنية:
(1) أخرجه أحمد (26634)، وأبو داود (3686).
(2)
أخرجه أحمد (14703)، وأبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393).
آنيتهم مختلفة، عندهم أنواع من الآنية، آنية تُصنع من الخشب، آنية تُصنع من القرع، آنية تُصنع من الجلد، أنواع كانت عندهم، فيقول المؤلف: يجوز الانتباذ في جميع الآنية، صُنعت من أي شيء، وسبب ما قاله المؤلف رحمه الله هنا أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الانتباذ في أنواع من الآنية، فقد ورد أنه نهى عن الانتباذ في الدُّبّاء والنقير والمزفَّت والحَنْتَم، الحديث في الصحيحين حديث ابن عباس رضي الله عنهما (1)، ولكنه منسوخ كما سيأتي إن شاء الله.
الدُبّاء: اليقطين هو قرع، هذا القرع منه ما هو كبير، الحبة عندما تجوفها تفرغها وتيبس تصير كالإناء.
والنقير: أصل شجرة النخل، تُنقر وتجوف فتصير كالوعاء.
والمزفَّت: ما طُلي بالزفت.
والحَنتم: جِرار مدهونة بالخُضرة، لونها أخضر من الداخل.
نهي عن الانتباذ في هذه الآنية عند تحريم الخمر، هذه الأنواع خاصة قالوا: الانتباذ بها يسرع تحويل النبيذ إلى خمر، لذلك نهي عنها في البداية لم يستقر أمر تحريم الخمر في نفوس الناس بعد، فلما استقر ذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر:«كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأَدَم -أي الجلد- فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكراً» (2) أخرجه مسلم في صحيحه.
فهذا الحديث ناسخٌ لتلك الأحاديث التي فيها النهي عن الانتباذ في بعض الأواني. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: ولا يَجوزُ انتبَاذُ جِنسينِ مُختَلِطَينِ)
جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُنبذ التمروالزبيب جميعاً، ونهى أن يُنبذ الرطب والبُسْر جميعاً (3).
فلا يجوز انتباذ جنسين مختلطين مثل التمر والزبيب، التمر جنس والزبيب جنس آخر، لا تصنع نبيذاً من جنسين مختلفين مع بعضهما، هذا معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
البُسْر: من ثمر النخل قبل أن يصير رُطباً.
قالوا: هي مرحلة ما بين البلح والرطب، بعد أن يكون بلحاً يصير بسراً، ثم بعد ذلك يصير رطباً، فهو نوع من أنواع ثمر النخل.
ذهب جمهور العلماء إلى كراهة ذلك كراهة تنزيهية ولا يحرم ما لم يصر مسكراً، وعللوا الحكم بأن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط، عندما يخلط أكثر من جنس الإسكار يكون أسرع إليه قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكراً ويكون مسكراً.
يعني عندما يصل إلى درجة الإسكار يكون قد تغير طعمه لكن هذا عندما يحصل الاختلاط يصل إلى درجة الإسكار قبل أن يتغير طعمه فلا يميزه الشارب فيقع في المحذور، لذلك
(1) أخرجه البخاري (4368)، ومسلم (17).
(2)
أخرجه مسلم (1999 و 977) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (5601)، ومسلم (1986).
قالوا: مكروه كراهة تنزيهية إلا إذا غلب على ظن الشارب أنه لم يسكر فيجوز له أن يشرب منه لكن يُكره كراهة تنزيهية.
قال المؤلف: (ويَحرُمُ تخليلُ الخَمرِ)
أي يحرم تحويل الخمر إلى خل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اتخاذ الخمر خلاً فقال: «لا» (1) أخرجه مسلم في صحيحه.
فلا يجوز للمسلم أن يتعمد تغيير الخمر إلى خل، لكن إذا تغيرت بنفسها دون تعمد منه جاز له استعماله.
قال المؤلف: (ويَجوزُ شُربُ العَصيرِ والنَّبيذِ قبلَ غَليانهِ، ومَظِنةُ ذلك ما زادَ على ثلاثةِ أيامٍ (يعني: يجوز شرب النبيذ قبل أن يصير مسكراً، والغالب على الظن أنه يصير مسكراً بعد ثلاثة أيام من نقعه، فيجوز شربه قبل ذلك.
أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يُنقع للنبي الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيُسقى الخادم أو يهراق (2).
وفي رواية عند مسلم: كان يُنتبذ له في سقاءٍ من ليلة الإثنين فيشربه يوم الإثنين والثلاثاء إلى العصر، فإن فضل منه شيء سقاه الخادم أو صبَّه.
لا يكون قد وصل إلى الإسكار، لكن احتياطاً يتركه النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيه للخادم أو يتخلص منه.
قال المؤلف رحمه الله: (وآدابُ الشُّربِ: أن يكونَ ثلاثةَ أَنفاسٍ، وباليمينِ، ومِن قُعُودٍ، وتقديمُ الأيمنِ فالأيمنِ، ويكونَ السَّاقي آخِرهُم شرباً، ويُسمِّيَ في أوَّلهِ، ويَحمدَ في آخِرهِ، ويُكرهُ التَّنفُّسُ في السِّقاءِ، والنَّفخُ فيه، والشُّربُ مِن فيهِ)
هذه كلها آداب من آداب الشرب.
يستحب أن يكون الشرب بثلاثة أنفاس، فيضع الكأس على فيه ثم يشرب ثم يرفعه، ثم يعيده الثانية يشرب ثم يرفعه، ثم يعيده الثالثة.
ورد فيه حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثاً (3)، وفي رواية لمسلم: ويقول-أي النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه أروى وأبرأ وأمرأ» (4).
أما قوله: أروى أي أكثر ريّاً، الري زوال العطش.
وأبرأ: أي أسلم من مرضٍ أو أذى.
(1) أخرجه مسلم (1983) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2004) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (5631)، ومسلم (2028).
(4)
أخرجها مسلم (2028).
وأمرأ: أي أجمل انسياغاً أي سهولة.
وهذا مستحب وليس بواجب؛ لعدم الأمر به وللتعليل المذكور أيضاً.
وجاء في حديث أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «فَأَبِنِ القَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ» فلم ينكرعليه النبي صلى الله عليه وسلم (1).
لكن إذا أراد الشخص أن يتنفس يزيل الإناء ولا يتنفس في الإناء لأننا نهينا عن التنفس في الإناء، وأما إذا لم يرد التنفس أثناء الشرب وشرب مرة واحدة؛ فله ذلك.
قال: (وباليمين) هذا واجب لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب بالشمال فقال: «لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها» (2)
وقال المؤلف: (ومن قعودٍ) أي يشرب جالساً لا قائماً، هذا مستحب على الصحيح، والنهي الوارد عن الشرب قائماً للكراهة.
فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائماً (3).
والجمع بين الأدلة التي ورد فيها النهي وبين فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يُحمل النهي على الكراهة لا على التحريم، وبهذه الطريقة نكون قد جمعنا بين الأدلة وأعملنا الأدلة كلها، أما من يرجح الحظر على الإباحة، ومن يرجح القول على الفعل؛ فهذا قد أعمل أحد الدليلين وأبطل الدليل الآخر.
وأنتم إذا تأملتم فعل الصحابة لا تجدونهم يسيرون على هذه الطريقة، إنما هي طريقة اشتهرت عند الأصوليين.
أما عند الصحابة فليسوا على ذلك، فتجد أن بعض الصحابة قد ورد عنده الأمر أو النهي وورد عنده فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخالف ذلك؛ فيجمع بينها كما فعل عبد الله بن عمر في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة قال: ذاك في البنيان وهذا في الصحراء، فجمع بينهما، مع أنه قد ورد فيه نهي وعارضه فعل، فلم يقل ما قاله بعض الأصوليين من أنه يقدَّم الحاظر على المبيح، أو يقدم القول على الفعل، ليست هذه طريقة الصحابة في الجمع بين الأحاديث، لا يهملون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجمعون بينها إذا تيسر لهم ذلك، وإذا لم يتيسر تجد السلف يميلون إلى الترجيح بالقوة، فيقدمون الأقوى ويؤخرون الأضعف.
هكذا تجد طريقة السلف في تعاملهم مع الأحاديث ولا يتكلفون التكلفات التي يتكلفها بعض الأصوليين في بعض المسائل.
ثم قال: (وتقديم الأيمن فالأيمن) تقديم الأيمن فالأيمن أي إذا شرب الشخص فليناول من هو عن يمينه أولاً، أو إذا أراد أن يقدم للجلوس طعاماً أو شراباً يبدأ بالأيمن.
هذا ما يريده المؤلف رحمه الله.
(1) أخرجه أحمد (11541)، والترمذي (1887).
(2)
أخرجه مسلم (2020) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (5615)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ويستدلون على ذلك بحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شِيبَ بماء، -يعني خلطوه بشيء من الماء- وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال:«الأيمن فالأيمن» (1)، فهنا لا إشكال في أنك إذا شربت أنت وكنت جالساً تعطي من هو عن يمينك، هذا الحديث واضح في هذا الباب.
لكن حصل خلاف بين أهل العلم فيمن كان يريد أن يضيِّف الجلوس أو يبدأ بالجلوس إذا كانوا أمامه، إذا دخل عندهم ويريد أن يضيفهم هل يبدأ باليمين أم يبدأ بالأكبر؟
خلاف بين أهل العلم والخلاف له حظ من النظر ولكل من القولين دليل قوي حقيقة، منها هذا الحديث الذي معنا حديث أنس عندما بدأ بدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يبدأ باليمين مع أنه كان عن يمينه شخص وعن يساره آخر، مع ذلك بدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والآخرون يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم «الأيمن فالأيمن» ، الذين يقولون بما ذهب إليه المؤلف.
وقال: (ويكون الساقي آخرهم) أي ساقي القوم يكون آخرهم شرباً، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن ساقي القوم آخرهم شرباً» (2) أخرجه مسلم في صحيحه.
لذلك أبو هريرة رضي الله عنه عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» (3) في شيء من اللبن كان جائعاً جداً وعندما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ادع لي أهل الصفة» وكان اللبن قليلاً.
قال: وقلت: وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ؟ يعني هو الذي سيسقي القوم فسيبقى آخر واحد، فشرب القوم وشرب أبو هريرة حتى لم يجد له مسلكاً، هذا من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته.
قال: (ويسمي في أوله ويحمد في آخره) جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى وشرب» (4)، فيدل على مشروعية هذا الفعل، وحديث أنس بن مالك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» (5).
وقال المؤلف رحمه الله: (ويُكره التنفس في السقاء) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء» (6) متفق عليه، هذا النهي يدل على تحريم هذا الفعل.
قال أهل العلم: النهي عنه خشية تغير رائحة ما في الإناء.
(1) أخرجه البخاري (5619)، ومسلم (2029).
(2)
أخرجه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6452).
(4)
أخرجه البخاري (6452).
(5)
أخرجه مسلم (2734).
(6)
أخرجه البخاري (5630)، ومسلم (267) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
وقال المؤلف: (والنفخ فيه) أي ويكره النفخ في الإناء، هذا جاء فيه حديثان أحدهما لابن عباس رضي الله عنه عند أبي داود قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه (1).
لكن زيادة أو ينفخ فيه زيادة شاذة، والحديث محفوظ بدونها وهو في الصحيح بدونها، لكن جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب (2)، أخرجه مالك في الموطأ وأخرجه الترمذي وفيه راوٍ اختُلف فيه، قال فيه علي ابن المديني: مجهول، وقال فيه يحيى بن معين: ثقة، لكن نحن نصححه بناء على توثيق ابن معين، فمن علم حجة على من لم يعلم.
قال: (والشرب من فيه) يعني يكره الشرب من فم السقاء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُشرب من فيِّ السقاء» (3) أخرجه البخاري.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية (4).
قال أحد الرواة: هو الشرب من أفواهها.
وذكر العلماء لذلك علتين: الأولى: خشية أن يكون بداخلها شيء ضار فيشربه مع الماء؛ كالحشرات مثلاً أو العقارب والحيات وغير ذلك.
والثانية: خشية أن ينتن السقاء، تصير له رائحة نتنة.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من فِيِّ قربة معلقة قائماً (5) أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهذا يدل على أن النهي للكراهة لا للتحريم. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا وَقعتِ النَّجاسةُ في شيءٍ من المَائعاتِ؛ لم يَحِلَّ شُربُهُ، وإنْ كانَ جامداً أُلقيَت ومَا حولَها)
إذا وقعت فأرة ميتة في سمن مثلاً، والفأرة الميتة نجسة، فعلى ما يقوله المؤلف إذا كان السمن جامداً فتُلقى الفأرة ويُلقى من السمن الجزء الذي وصلت إليه أجزاءها ونجَّسته، ويؤكل الباقي.
وإذا كان السمن مائعاً كالماء فيلقى كاملاً ولا يؤكل.
وهل يجوز استعماله في غير الأكل؟
اختلف أهل العلم في ذلك والصحيح أنه جائز.
أما الجامد فقد ورد فيه حديث عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمنٍ
(1) أخرجه أحمد (1907)، وأبو داود (3728)، والترمذي (1888)، وابن ماجه (3429).
(2)
أخرجه مالك (2/ 925)، وأحمد (11541)، والترمذي (1887).
(3)
أخرجه البخاري (5628 و 5629)، من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (5625)، ومسلم (2023).
(5)
أخرجه أحمد (27448)، والترمذي (1892)، وابن ماجه (3423) من حديث كبشة الأنصارية رضي الله عنها.
فماتت فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» (1)، أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ميمونة.
وأما المائع فقد ورد في نفس حديث ميمونة زيادة قال: «وإن كان مائعاً فلا تقربوه» (2).
هذه الزيادة في نفس حديث ميمونة وهي زيادة شاذة، لذلك الإمام البخاري رحمه الله أعرض عنها.
وروي هذا الحديث عن أبي هريرة، وروي عن ابن عمر؛ لكن مدار الحديث على الزهري.
الزهري اختلف أصحابه عليه في رواية هذا الحديث فبعضهم يرويه عن ميمونة، وبعضهم يرويه مرسلاً، وبعضهم يرويه عن أبي هريرة، وبعضهم يرويه عن ابن عمر.
وقد أعل الإمام البخاري رحمه الله وكذلك أبو حاتم الرازي رواية أبي هريرة وأعل أبو حاتم الرازي رواية ابن عمر وردّوا الروايات كلها إلى رواية ميمونة، فأصح شيء هو ما أخرجه البخاري في صحيحه.
ومن أراد أن يستمتع بحق بعلم الإمام البخاري فليتتبع مثل هذه الأحاديث ولينظر.
هذا الرجل في النهاية يعطيك الخلاصة، أنت تتعب وتنظر وتقرأ وتبحث وفي النهاية تخلص بخلاصة الإمام البخاري رحمه الله غالباً.
فالذي يصح عندنا في هذه المسألة هو ما ورد في الجامد، أما المائع فلم يصح حديثه.
وجمهور العلماء اعتمدوا على هذه الزيادة فيما ذكروه من فقه كما فعل المؤلف رحمه الله.
المؤلف ذهب إلى ما دلت عليه الزيادة، فقال: إذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات لم يحل شربه، بناءً على ما جاء في الزيادة:«وإن كان مائعاً فلا تقربوه» .
قال: وإن كان جامداً ألقيت وما حولها.
بناءً على أصل الحديث الصحيح، فإذا ضعُفت هذه الزيادة ذهبت حجة الجمهور الذين يقولون بأن المائع إذا سقطت فيه نجاسة حرم أكله أو شربه.
إذا لم يبقَ عندنا دليل من الكتاب والسنة واضح في هذه المسألة عدنا إلى القياس فنقيس المائعات على الماء فنلحق المائعات بالماء فنقول: إذا تغيرت أحد أوصافه الثلاث حرُم أكله أو شربه وصار نجساً، وإذا لم تتغيَّر فهو طاهرٌ يجوز أكله أو شربه.
هذا هو الذي نميل إليه وهو الذي مال إليه الإمام البخاري رحمه الله وهو مذهب الزهري والأوزاعي وغيرهم من أهل العلم.
وللفائدة: ما لا دم له سائل إذا سقط في الماء أو في غيره من المائعات ومات فيها لا ينجس المائع مطلقاً؛ لأنه ليس بنجس، هذا الشيء الذي لا نفس له سائلة، هكذا يعبر الفقهاء ويعنون بالنفس هنا الدم، أي ليس له دم سائل؛ كالذباب والجراد والخنافس وغيرها، مثل هذه إذا وقعت في الشراب وماتت فلا ينجس الشراب لأنها ليست نجسة.
(1) أخرجه البخاري (5538).
(2)
أخرجه أحمد (7601)، وأبو داود (3842)، والنسائي (4260).
نستدل على ذلك بحديث الذباب الذي في صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء» (1).
عندما يكون الإناء فيه ماء ساخن يغلي وتسقط الذبابة فيه تموت؛ فتنزعها من الإناء وتشرب ماءه.
دل ذلك على أنها ليست نجسة.
هذا دليل على أن مثل هذه الأشياء التي لا نفس لها سائلة إذا ماتت لا تكون نجسة، والذي يؤكل منها لا يحتاج إلى تذكية.
وقال المؤلف رحمه الله: (ويَحرمُ الأكلُ والشُّربُ في آنيةِ الذَّهبِ والفِضةِ)
تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة دليله حديث حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (2) متفق عليه.
وهذا محل إجماع لا خلاف فيه أنه لا يجوز الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.
وأخرج الشيخان من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» (3).
هذا الحديث يدل على أن هذا الفعل كبيرة من كبائر الذنوب.
ورخَّص بعض أهل العلم في الإناء يضبَّب بالفضة؛ لحدث أنس رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشَّعْبِ سَلسلة من فضة (4) أخرجه البخاري.
يضبَّب بالفضة يعني يُصلَح الكسر بالفضة، يلحم الإناء بعضه ببعض بالفضة، هذا معنى التضبيب.
ويجوز التحلي بالذهب والفضة للنساء والأدلة عليها كثيرة.
وأما بقية الاستعمالات لآنية الذهب والفضة فقد اختلف فيها العلماء، اختلفوا في استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
البعض ذهب إلى تحريم جميع الاستعمالات وهم جمهور أهل العلم وقاسوا الاستعمال على الأكل والشرب فألحقوا هذا بهذا بجامع الخيلاء أو التشبه بالكفار وهو الصواب لأن هذا التعليل أشار إليه حديث حذيفة.
والبعض لم يرتضِ هذا التعليل والقياس فقال: الأصل الحل، وعدم وجود الدليل الذي يدل على التحريم يُبقي الاستعمال على الإباحة في غير الأكل والشرب، وذكروا أدلة أخرى.
(1) أخرجه البخاري (3320).
(2)
أخرجه البخاري (5633)، ومسلم (2067).
(3)
أخرجه البخاري (5634)، ومسلم (2065).
(4)
أخرجه البخاري (3109).