الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المؤلف رحمه الله:
(فصلٌ: وعند قدوم الحاجّ مكة، يطوف للقدوم سبعة أشواط، يَرمُلُ في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه بِمِحْجَنٍ ويُقَبِّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني)
بعد أن يستعد الحاج بما تقدم ويُحرِم من الميقات يتجه إلى مكة، وهو في أثناء الطريق يُلبي بالتلبية التي ذكرنا، ويذكر أذكار السفر وما يتعلق بذلك، ثم إذا وصل مكة بدأ بالطواف.
والطواف لغة: هو الدوران حول الشيء.
وفي الاصطلاح: هو التعبد لله بالدوران حول الكعبة سبعة أشواط.
والأشواط سبعة - كل دورة كاملة حول الكعبة تسمى شوطاً -، لا يصحُّ الطواف إلا بسبعة أشواط لقوله تعالى:{وليطَّوفوا بالبيت العتيق} .
هذه الآية تفيد التكثير لأنه عَبَّر بصيغة التفعيل التي تدل على الكثرة، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكثرة كم عددها، فلا يصحُّ الطواف إلّا بسبعة أشواط.
فللطواف شروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الطواف حول الكعبة.
والشرط الثاني: أن يكون سبعة أشواط.
والشرط الثالث: النيَّة، فالنيَّة شرط من شروط صحة الطواف لقول صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيَّات» (1).
ومن شروطه أيضاً الطهارة من الحدث الأكبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت، وقال لعائشة رضي الله عنها:«افعلي ما يفعل الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت» (2).
واختلف أهل العلم في البدء بالحجر الأسود، فقال البعض هو شرط واعتبروا مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بياناً للآية التي فيها أمر بالطواف.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
والبعض الآخر قال هو واجب يَأثم بتركه وليس شرطاً لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه وليس هو بياناً للآية، فالآية عندهم ليست مجملة، فلا تحتاج إلى بيان، فلذلك قالوا هو واجب وليس بشرط.
والظاهر أن الصواب مع من قال بالشرطية.
الشرط الرابع: التيامن، وهو سير الطائف عن يمين الكعبة وجعل يساره لجانب الكعبة، وهذا أيضاً شرط عند جمهور الفقهاء.
فالطائف أول ما يبدأ بالطواف، يبدأ بالحجر الأسود، يُقبِّله أو يستلمه ويُكبِّر، يقول: الله أكبر، إن استطاع تقبيله قبَّله، ما استطاع أنْ يقبِّله يُشير إليه بشيءٍ ويُقبِّل الشيء أو يشير إليه بيده ثم بعد ذلك يستدير إلى جهة اليمين ويجعل الكعبة عن يساره ثم يبدأ بالطواف، فاستدارته هذه إلى جهة اليمين وجعل الكعبة عن يساره ركن، فإذا استدار إلى جهة اليسار وجعل الكعبة عن يمينه ثم دار، فلا يصحّ طوافه.
فجعله العلماء من شروط صحة الطواف.
وقد نقلوا الاتفاق عن عدم صحة الطواف خارج المسجد الحرام.
وهذه المسألة لم يذكرها المؤلف.
هذا ما صحّ في شروط الطواف وركنيته.
وأما الوضوء فليس بواجب ولا شرط على الصحيح وهو مستحب لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يوجد ما يدلّ على شرطيته، والصواب أنَّ الوضوء مُستحب للطواف، فإذا انتقض وضوء الشخص وهو في طوافه فله أن يُكمل طوافه، وله أن يقطع طوافه ويتوضأ.
وهذا الطواف الذي ذكره المُصنف يُسمى طواف القدوم وهو سنة على الصحيح للقارن والمفرد.
فالقارن والمفرد يُسَنّ لهما أن يطوفا طواف القدوم الذي هو هذا الطواف، وأما المعتمر فيبدأ بطواف عمرته، والطواف للعمرة ركنٌ من أركانها.
ودليل سنية طواف القدوم للقارن والمفرد، حديث عروة بن مُضَرِّس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الفجر في مزدلفة فأخبره أنه ما ترك جبلاً إلا وقف عليه، وسأل هل له من حجّ؟ فقال
- صلى الله عليه وسلم: «من أدرك معنا صلاتنا هذه وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجّه، وقضى تفثه» (1). أي أتى بما عليه من مناسك.
فيدلّ هذا على عدم وجوب طواف القدوم.
وأمّا المتمتع فيطوف طواف العمرة - كما ذكرنا - وهو ركن من أركان العمرة لا تصح العمرة إلا به ويُغنِي عن طواف القدوم بالنسبة للمعتمر، فهو بمنزلة تحية المسجد تسقط بصلاة الفريضة.
قال المصنف أيضاً: (يَرمُل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي)
الرَّمَلُ لغة: هي الهرولة، يُقال رَمَل إذا أسرع في المشي وهز منكبيه.
وهَز المنكبين ليس مقصوداً، لكن من تقارب الخطى والسرعة في المشي يحصل اهتزاز لكتفيه.
فالمقصود بالرَّمل هو تقارب الخطى مع الإسراع في المشي.
واصطلاحاً: هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى وتحريك المنكبين.
والرَّمل مستحب في الأشواط الثلاثة الأولى فقط.
ودليله حديث ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يَخُبُّ ثلاثة أطواف ويمشي أربعة» (2).
والخبب بمعنى الرَّمَل.
وفي حديث جابر: «فرَملَ ثلاثاً ومشى أربعاً» (3).
وفي حديث جابر أيضاً: «رَملَ النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر الأسود حتى انتهى إليه» (4)، وهذا في حجة الوداع.
(1) أخرجه أحمد (26/ 142)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3039)، وابن ماجه (3016).
(2)
أخرجه البخاري (1617)، ومسلم (1261).
(3)
أخرجه مسلم (1218).
(4)
أخرجه مسلم (1263).
فالرَّملُ يكون في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وفي الشوط كلّه من أوله إلى آخره من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
والرَملُ خاص بطواف القدوم وطواف المعتمر فقط، هذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سنن الطواف: الاضطباع، هذه السنة لم يذكرها المصنف رحمه الله.
والاضطباع، أن يتوشّح بردائه، أي يلف نفسه به من الأعلى، ويُخرِجُه من تحت إبطه الأيمن، ويلقيه على منكبه الأيسر ويُغطيه بالرداء، ويكشف منكبه الأيمن.
وهذه سنة من سنن الطواف خاصة بالرجال، كما أن الرَّملُ خاص بالرجال، وهذه السنة - وهي الاضطباع - خاصة بطواف القدوم وطواف العمرة فقط.
ولكنّه يختلف عن الرَّملِ بأنه يكون في الأشواط كلّها، وأما الرَّملُ فيكون في الأشواط الثلاثة فقط.
وقد ثبت الاضطباع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي «سنن أبي داود»: أنه اضطبع وطاف مضطبعاً (1).
وقال المصنف رحمه الله: (ويُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه بِمِحجَنٍ ويُقَبِّل المِحْجَنَ ونحوه).
(الحجر الأسود) معروف عند الركن الذي بجانب باب الكعبة، ويسمى الركن اليماني.
فإذا بدأت بالطواف ومشيت، فإن أول ركن يلقاك بعد ركن الحجر الأسود هو الركن العراقي، ثم الذي بعده الركن الشامي، ثم الذي بعده أيضاً الركن اليماني، فالركن الأول ركن الحجر الأسود ثم الركن العراقي ثم الركن الشامي ثم الركن اليماني، والبعض يسمي ركن الحجر الأسود والذي يليه من الجهة الأخرى الركنان اليمانيان، بينما الركن العراقي والشامي، الركنان الشاميان.
و(المِحْجَن) عصا منحنية الرأس.
فيبدأ المُحرِم الذي يريد الطواف بالحجر الأسود، فيقف أمام الحجر بكل بدنه ويُقبِّل الحجر إن استطاع من غير مزاحمة الناس، وإن لم يستطع فيستلمه - أي يمسحه بيده - ويُقَبِّل يده،
(1) أخرجه أحمد (29/ 475)، وأبو داود (1883)، والترمذي (859)، ابن ماجه (2954).
أو يستلمه بعصا ويُقَبِّل العصا، فإن لم يستطع فيشير إليه إشارة ولا يقبل يده مع الإشارة، وإنما التقبيل فقط مع الاستلام، أمَّا مع الإشارة فليس فيه تقبيل.
ويقول عند الإشارة: الله أكبر، صحَّ هذا كلّه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تصحَّ البسملة عند تقبيل الحجر الأسود أو الإشارة إليه.
قال: (ويستلم الركن اليماني).
فالاستلام يكون للحجر الأسود وللركن اليماني فقط، أمّا الركنان الشاميان فلا يُستلمان.
فكما ذكرنا، فإن الطائف بالكعبة يبدأ بالحجر الأسود ثم يَمرُّ بالركن العراقي ثم بالركن الشامي ثم عند آخر الأركان الركن اليماني، فهذا الركن يستلمه إن استطاع استلامه بدون تكبير ولا تقبيل، وإن لم يستطع فلا يشر إليه بل يتركه، ولا يفعل كما فعل بالحجر الأسود، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، أمَّا الركنان العراقي والشامي فإنهما لا يستلمان.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكفي القَارِنَ طَوافٌ واحدٌ، وسعيٌ واحدٌ)
يريد المؤلف أن القارن ليس عليه إلا طواف واحد وسعيٌ واحدٌ، ولا يلزمه أن يطوف طوافين ويسعى سعيين، واحد للحجّ وواحد للعمرة، بل طوافٌ واحد وسعيٌ واحد يكفي عن العملين، فأعمال العمرة تدخل في أعمال الحج، فيكون القارن كالمفرد.
وقد خالف في ذلك الأحناف وقالوا يلزمه طوافين وسعيين، طواف للحجّ وطواف للعمرة، وسعي للحجّ وسعي للعمرة، والصحيح ما ذكره المؤلف.
ودليله: ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت:«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فَلْيُهِلَّ بالحجّ مع العمرة ثم لا يحلّ حتى يحلّ منهما جميعاً» قالت: "فطاف الذين كانوا أهلّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلّوا ثم طافوا طوافاً آخر بعدما رجعوا من منى بحجّهم»، قالت:«وأمّا الذين كانوا جمعوا بين الحجّ والعمرة طافوا طوافاً واحداً» (1).
(1) أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211).
وعن جابر بن عبد الله قال: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول» (1).
قال النووي رحمه الله: «وهذا محمول على من كان منهم قارناً» (2).
فالقارن يطوف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً للحجّ والعمرة، فتكون أعماله كأعمال المُفرد، وعلى هذا القول أكثر العلماء.
واحتج أبو حنيفة برواية ضعيفة عن علي بن أبي طالب، واحتج بالرأي أيضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ويكون حالَ الطوافِ متوضِّئاً ساتراً لعورته)
يريد المؤلف أن الحاجّ في أثناء طوافه يجب أن يكون متوضِّئاً، وأن يستر عورته أيضاً.
أمّا الوضوء عند الطواف، فقد اختلف أهل العلم في وجوبه،
والصحيح أنه مستحب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ قبل البدء بالطواف، ولكن لا يوجد ما يدلّ على الوجوب، بل هو مجرد فعل للنبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون قد فعله لوجود صلاة بعد الطواف، ليكون مستعداً للصلاة.
وأمّا الحديث الذي يستدلون به على وجوب الوضوء وهو: «الطواف بالبيت صلاة إلّا أنّ الله أحل فيه الكلام» (3)، فحديث ضعيف لا يصح.
وأما استدلالهم على وجوب الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (4) متفق عليه.
فنقول: نسلم بوجوب الطهارة من الحدث الأكبر، ولكنّه لا يدلّ على وجوب الطهارة من الحدث الأصغر.
(1) أخرجه مسلم (1215).
(2)
«المجموع» (8/ 61).
(3)
أخرجه أحمد (24/ 149)، والترمذي (960)، وعبد الرزاق في «المصنف» (9788)، والنسائي في «الكبرى» (3931)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (9303) وغيرهم عن طاووس تارة عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتارة عن ابن عباس، وتارة عن ابن عمر، وتارة مرفوعاً، وتارة موقوفاً.
(4)
تقدم تخريجه.
فالصحيح أنّ الوضوء عند الطواف مستحب وليس واجباً، وهذا أرجح الأقوال، وهو بحمد الله أيسر وأهون على الناس خصوصاً في أوقات الزِّحام الشديد، فلا يجد المرء مكاناً يتوضأ فيه من كثرة الزحام.
فالصحيح عندنا إن شاء الله أنّه يجوز الطواف من غير وضوء.
وأمّا ستر العورة، فواجب لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يطوف بالبيت عُريان» (1).
قال رحمه الله: (والحائض تفعل ما يفعل الحاجُّ غيرَ أن لا تطوفَ بالبيت)
هذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها لما حاضت، قال:«افعلي ما يفعل الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (2) متفق عليه.
ورواية عند مسلم «حتى تغتسلي» .
قال المؤلف رحمه الله: (ويُندَب الذِّكرُ حَال الطواف بالمأثور)
يريد المؤلف، أنه يستحب الذِّكر في الطواف بما ورد في السنة.
ولكن لم يرد في ذلك حديث صحيح، وكل ما ورد في هذا ضعيف لا يصحّ.
ومن ذلك حديث عبد الله بن السائب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» (3).
في سنده عبيد مولى السائب مجهول.
قال الحافظ في «الإصابة» : «عبيد تابعي ما روى عنه إلا ابنه يحيى» .
ولكن صحَّ عن عائشة أنها قالت: «إنمّا جُعِل الطواف بالبيت وبالصّفا والمروة لإقامة ذكر الله» (4)، فله أنْ يذكر الله سبحانه وتعالى ويدعوه بما شاء.
ويجوز فيه أيضاً قراءة القرآن، إذ لم يصحّ دليل في تحريم قراءة القرآن في هذا الموضع.
(1) أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد (24/ 118)، وأبو داود (1892)، وغيرهما.
(4)
أخرجه أحمد (41/ 17)، وأبو داود (1888)، والترمذي (902).