الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المؤلف: (ولا يَقْعُدُ المُتَّبِعُ لها حتى تَوْضَعَ)
أي أن من مشى مع الجنازة لا يجلس حتى توضع الجنازة في قبرها.
وهذا الحكم، الصحيح أنه منسوخ ، فإنه كان بداية ثم نسخ بعد ذلك.
جاء في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع» (1)، وهو ظاهر فيما ذكره المؤلف ، لكن ناسخه عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب قال:«قام النبي صلى الله عليه وسلم يعني في الجنازة - ثم قعد» (2).
وفي رواية في المسند: «ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس» (3)، أي أن الحكم كان بدايةً ثم نسخ ورُفع، وأُذِنَ لهم بالجلوس حتى قبل أن توضع.
قال رحمه الله: (والقيامُ لها مَنْسوخٌ)
لما تقدم.
وقد فرَّق المؤلف رحمه الله بين القيام للجنازة وعدم القعود للمتبع حتى توضع الجنازة، فجعل الثاني وهو القيام للجنازة منسوخاً، بينما جعل الجلوس قبل أن توضع ثابتاً وليس بمنسوخ وهذا التفريق غير صحيح، والصحيح أن هذه الأحكام كلها منسوخة كانت بدايةً ثم رفع الحكم.
ودليل النسخ ما أخرجه الطحاوي رحمه الله من حديث علي بن أبي طالب أنه أجلس أقواماً كانوا ينتظرون الجنازة أن توضع، فقال لهم اجلسوا، ثم قال:«إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالجلوس بعد القيام» (4)، فهذا يدل على أن النسخ لاحق بالأمرين، للقيام عند مرور الجنازة أو عند المشي معها، وأيضاً للأمر بالقيام قبل أن توضع، فكله منسوخ، فيجوز أن تجلس قبل أن توضع أو بعدها، فالحكم بالقيام منسوخ على الصحيح.
قال- رحمه الله:
(فصلٌ: دَفْنُ الميت، ويجبُ دفن الميتِ في حفرة تَمْنَعُهُ السِّباعَ)
(1) أخرجه البخاري (1310)، ومسلم (959).
(2)
أخرجه مسلم (962).
(3)
بهذا اللفظ أخرجه أحمد (2/ 57)، وابن حبان في «صحيحه» (7/ 327).
(4)
«شرح معاني الآثار» للطحاوي (2802).
السباع: هي الحيوانات المفترسة التي تأكل الجثث.
وهذا الذي ذكره المؤلف - وهو وجوب دفن الميت - أمرٌ مجمع عليه (1) ، لا خلاف فيه البتة بين العلماء، قال صلى الله عليه وسلم:«ادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر» (2)، وجاء أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«احفروا وأعمقوا وأحسنوا» (3).
والتعميق: هو أن يكون القبر عميقاً، ليكون بعيداً عن متناول السباع.
والإحسان هو أن يكون القبر واسعاً على قدر الميت بحيث يسعه.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا بأس بالضَّرْح، واللحْدُ أولى)
القبر قبران، قبر ضرح وقبر لحد.
فأما الضَّرْحُ: فهو الشق في الأرض، وغالب قبور الناس اليوم من الشق، فيفتح القبر بشكل مستقيم وينتهي الأمر، ويسمى هذا ضرحاً.
وأما اللحد: وهو الشق في جانب القبر - يعني أن يحفر القبر وتنزل فيه مسافة ثم من جهة القبلة في آخره تحفر إلى جهة القبلة - فهذا يسمى لحداً.
وقول المؤلف: (لا بأس بالضرح) أي أنه جائز.
وقوله: (واللحد أولى)، أي هو المستحب والأفضل، لأنه الأقرب لإكرام الميت من الشق.
وجاء في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: «
…
الحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (4).
فاللحد أولى وأفضل، لأنه الذي فعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد حفروا له لحداً ونصبوا عليه اللبن نصباً، وهو أكمل الصور وأجودها.
(1) قال ابن المنذر: «وأجمعوا على أن دفن الميت لازم واجب على الناس، لا يسعهم تركه عند الإمكان، ومن قام به منهم سقط فرض ذلك على سائر المسلمين» .
«الإجماع» (ص 44)، وانظر «مراتب الإجماع» (ص 34) لابن حزم.
(2)
أخرجه أحمد (26/ 183)، وأبو داود (3215)، والترمذي (1713)، والنسائي (2010) وغيرهم.
(3)
هو نفس الحديث الذي قبله.
(4)
أخرجه مسلم (966).
فيحفر القبر أولاً شقا كالقبور التي نراها اليوم، ثم نأتي إلى جدار القبر الذي من جهة القبلة، فنترك من حافة القبر إلى مسافة شبر تقريباً من هذا الجدار، ثم نحفر في الجدار شقاً واسعاً يكفي الميت، فيوضع الميت فيه على شقه الأيمن، ثم ينصب اللبن فيكون مائلاً ويغلق عليه، ثم بعد ذلك يُهال التراب عليه.
وجاء أيضاً في حديث البراء عند أبي داود «
…
خرجنا في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهينا إلى القبر ولم يُلحَد بعد» (1)، فهذا يدل على أن القبور التي كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو اللحد ، لكن كما ذكر المصنف فهذا جائز وهذا جائز لكن الأفضل والأولى أن يكون لحداً.
وكذلك الحديث المتقدم - حديث سعد - يبين لنا أن نصب اللَبِنِ مشروع وهو الذي فُعل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ونقل النووي رحمه الله الإجماع - إجماع العلماء - على جواز اللحد والشق (2) بالاتفاق، أن هذا جائز وهذا جائز ولكن المسألة مسألة أفضل وأولى فقط.
قال المؤلف: (ويُدخَل الميِّتُ من مُؤَخَّرِ القبر)
يريد بذلك أنك عندما تدخل الميت القبر تأتي من عند رجلي القبر وتدخله. والحديث الذي ورد في هذه الصفة أختُلف في صحته، والراجح أنه صحيح (3)، فمن السنة إدخال الميت من رجلي القبر، وهو منقول عن أنس بن مالك أيضاً.
وقد اختلف أئمة الفقهاء في هذه المسألة، فقال البعض: الأفضل أن يُدْخَلَ من رجلي القبر، والبعض الآخر يقول: بل الأمر واسع، والمسألة مبنيّة على صحة الحديث.
قال رحمه الله: (ويُوْضَعُ على جَنْبِهِ الأيْمَن مُسْتَقْبِلاً)
أي يوضع الميت في قبره على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة ، أي إلى ناحية القبلة.
(1) أخرجه أحمد (30/ 499)، وأبو داود (3212)، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1549).
(2)
انظر «شرح صحيح مسلم» (7/ 34)، شرح الحديث رقم (966).
(3)
أخرجه أبو داود (3211)، والبيهقي (4/ 89) عن عبد الله بن يزيد، وصحح إسناده البيهقي، وعبد الله مختلف في صحبته، والظاهر أن له رؤية، كما قال أبو إسحاق.
ولم أجد في هذا دليلاً، لا في الكتاب ولا في السنة.
ولكن الأدلة عندنا ثلاثة، الكتاب والسنة والإجماع، وقد نقل العلماء الاتفاق في هذه المسألة (1)،
أنه لا يزال هذا عمل المسلمين، أنهم يضعون الميت في لحده على جنبه الأيمن.
فالاتفاق حجة في هذا الباب وهو كاف إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُسْتَحَبُّ حَثْو التُّرابِ من كل من حَضَرَ ثلاث حَثَيات)
اختلف العلماء في هذه المسألة، فالبعض قال هذه سنة مستحبة واستدل بحديث أبي هريرة، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثاً (2).
لكن هذا الحديث أعلَّه أبو حاتم الرازي رحمه الله بالإرسال فقال هو حديث مرسل، وله علة أخرى أيضاً بينَّهَا الدارقطني رحمه الله في كتابه «العلل» .
وورد حديث آخر من حديث عامر بن ربيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حثا على قبر عثمان بن مظعون ثلاثاً (3).
فلا يصح في هذا الباب شيء والله أعلم
قال رحمه الله: (ولا يُرفع القبرُ زيادةً على شِبْرٍ)
لحديث علي عند مسلم في «صحيحه» (4)، قال علي لأبي الهياج الأسدي «
…
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قال بلى، قال:«ألّا تدع تمثالاً إلا طَمَسْتَهُ - وفي رواية: ولا صورةً إلا طمستها - ولا قبراً مُشْرِفاً إلا سَوَّيْتَهُ» .
(1) قال النووي: واتفقوا على انه يستحب أن يضجع على جنبه الأيمن، فلو أضجع على جنبه الأيسر مستقبلاً القبلة جاز وكان خلاف الأفضل لما سبق في المصلي مضطجعاً. والله أعلم. «المجموع» (5/ 293».
وأما استقبال القبلة فهو قول الجمهور.
حديث: «واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» الذي يستدلّ به على توجيهه إلى القبلة أخرجه أبو داود (2875) وغيره، وهو ضعيف، في سنده عبد الحميد بن سنان، لا يحتجً به.
ولكن هذا ما عليه المسلمون.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1565).
(3)
أخرجه الدارقطني في «سننه» (863)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 575)، وإسناده ضعيف وبعضهم يذكر الحثو وبعضهم لا يذكره، وله شاهد مرسل آخر.
(4)
برقم (969).
والشاهد قوله: «ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» ، أي لا تجد قبراً مرتفعاً عن الأرض إلا جعلته مستوياً بالأرض.
ولكن جاء في الحديث الصحيح ما يدل على جواز رفع القبر عن الأرض قَدْرَ شبر، وأن قبور الصحابة كانت مُسَنَّمَةً، أي أنها مصنوعة كالسنام.
فنقول: نعم ولكنها لا تُرْفَعُ أكثر من شبرٍ واحدٍ فقط، وهذا هو المشروع في القبور.
أما ما نراه اليوم من بناء عالٍ كالغرف، أو أن تزرع الأشجار والزهور فيكون القبر كالحديقة فليس أمراً مشروعاً البتة ولم يأمرنا به صلى الله عليه وسلم.
قال- رحمه الله: (والزيارة للموتى مَشْروعَةٌ)
لقوله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (1)
أي أن زيارة الميت كانت بدايةً محرمة ، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم وأُمر بها ، والأمر يكون هنا على الجواز لا على الوجوب، لأنه جاء بعد تحريم.
وقد استأذن نبينا صلى الله عليه وسلم رب العزة في زيارة قبر أمه فأَذن له (2)، فيدلُّ ذلك على أن زيارة القبور جائزة.
وقد بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمة زيارة القبور، فقد جاء في «صحيح مسلم» (3):«زوروا القبور فإنها تذكر الموت» .
وذلك لأن المرء إذا ذهب هناك ورأى القبور وتذكر أن الأموات كانوا يوماً ما أحياء يعيشون كما يعيش هو، تذكر أن مآله هو مآلهم، وسيكون من أصحاب القبور ، وإما أن يكون في حفرة من حفر النار، أو في روضة من رياض الجنة، فيعمل لما هو آت.
مسألة: هل الرجال والنساء في مشروعية زيارة القبور سواء؟
(1) أخرجه مسلم (1977).
(2)
أخرجه مسلم (976).
(3)
أخرجه مسلم (976).
الصحيح أن الرجال والنساء سواء في ذلك، وقد اختلف أهل العلم في زيارة المرأة للقبور هل هي جائزة أم لا؟ والصحيح أنها جائزة بشرط أن لا يبدر منها ما يخالف شرع الله من لطم الخدود وشق الجيوب أو غير ذلك من المحظورات.
وسبب الخلاف في جوازه للمرأة، وجود بعض الأحاديث التي تدل على التحريم وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله زائرات القبور» (1)،
بينما جاء حديث آخر يدل على الإباحة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأة جالسة عند قبر وتبكي، فقال لها:«اتقي الله واصبري» (2)، ولم ينهها عن زيارة القبر.
والجمع بين هذه الأحاديث أن الكثرة هي المحرمة لا أصل الزيارة.
فالصحيح كما ذكرنا، أن زيارة القبور جائزة للنساء بشرط ألا يبدر منها مخالفة لشرع الله، هذا أولاً.
أما الأمر الثاني، أن لا تكون هذه الزيارة بشكل متكرر كثير، لأن الصحيح في الحديث الذي ذكروه واستدلوا به على التحريم لفظة «زوّارات» في قوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله زوارات القبور» (3)، وزوارات هذه تفيد الكثرة ، أي كثرة الزيارة.
فيكون المُحَرَّمُ هو الكثرة لا أصل الزيارة.
مسألة: هل يجوز تخصيص العيد بزيارة القبور.
الصحيح عدم جواز تخصيص العيد بزيارة القبور، لأن زيارة القبور أمر قد شرعه الله وزيارة القبور يوم العيد أمر لم يشرعه الله، وكل عمل تعبُّديٍّ لم يشرعه الله تبارك وتعالى فلا يجوز، فتخصيص زيارة القبر بيوم العيد تشريع جديد يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة، فمن لم يتمكن من الإتيان بدليل من الكتاب أو السنة فيكون عمله هذا بدعة محدثة.
(1) أخرجه أحمد (3/ 471)، وأبو داود (3236)، والترمذي (2043) عن ابن عباس رضي الله عنه.
وفي سنده أبو صالح، قال الإمام أحمد في «العلل» لابنه (5435):«أبو صالح باذام» . انتهى. قلت: هو ضعيف.
(2)
أخرجه البخاري (1252)، ومسلم (926).
(3)
أخرجه أحمد (14/ 164)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث حسان بن ثابت يتقوّى به.
نعم أصل الزيارة جائز، لكن تخصيصها بيوم العيد لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، فلو كان هذا العمل مشروعاً لفعلوه وهم أحرص منا على الخير بكثير.
وفعلنا لهذا الأمر مع علمنا بعدم فعلهم له يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1)، لأن تخصيص العبادة في زمن معين أمر تشريعي من عند الله لا من عند أنفسنا، فلا يجوز لنا أن نخصص أي عبادة من العبادات بوقت معين في يوم معين أو شهر معين إلا أن يكون عندنا دليل من الكتاب أو السنة وإلا كان العمل مردوداً على صاحبه كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: (ويقفُ الزائرُ مستقبلاً القبلةَ)
لِما صحّ من حديث البراء: «أنه جلس صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة لمَّا خرج إلى المقبرة» (2).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنَّا إن شاء الله بكم للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية» (3).
فهذا الحديث يدل على سنية هذا الذكر عند الخروج إلى المقابر.
قال: (ويَحْرُمُ اتِّخاذُ القبورِ مساجدَ)
الأحاديث التي تدل على ذلك كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (4).
قالت عائشة - بعد أن روت هذا الحديث - «يحذِّر ما صنعوا» ، أي احذروا من أن تتخذوا قبور أنبيائكم مساجد.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» (5).
(1) أخرجه مسلم (1718)، وعلَّقه البخاري بهذا اللفظ.
(2)
أصل الحديث أخرجه غير واحد، وبزيادة استقبال القبلة أخرجه أبو داود (3212)، وابن ماجه (1548) وغيرهم، وهي زيادة محفوظة.
(3)
أخرجه مسلم (975).
(4)
أخرجه البخاري (435)، ومسلم (531).
(5)
أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).
وقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم لا تجعل قبري وثناً» (1) وفي «مسلم» : «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ولا عليها» (2).
فهذا كله يدل على تحريم اتخاذ القبور مساجد.
قال أهل العلم: الصلاة في المقبرة باطلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، وبما أنه نهى عنها في المقبرة، إذاً فالصلاة لا تصح ولا تجوز في المسجد الذي في المقبرة، سواء كان القبر قبل المسجد أو المسجد قبل القبر، كله لا يجوز الصلاة فيه، لأنها أصبحت مقبرة، فقبر ومسجد لا يجتمعان البتة، إما قبر أو مسجد.
وكل هذا، لئلا نقع فيما وقع فيه أولئك من غلو في الصالحين، فإنه أول الشرك.
قال رحمه الله: (وزَخْرَفَتُها)
أي: وتحرم زخرفة القبور، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء عليها وتجصيصها.
قال جابر بن عبد الله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّصَ القبرُ وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» (3).
و«التجصيص» ، هو التبييض، أي استعمال الجص - وهو الجبس - في تبيض القبور.
فهذا يدل على تحريم تزيين وزخرفة القبور. وكل هذا سداً لذريعة الغلو في القبور، لأن أصل الشرك بالله كان سببه الغلو في الصالحين ، ومجاوزة الحد فيهم، وذلك أنَّ ابن عباس رضي الله عنه قال:«صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما وّدًّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواعَ كانت لهذيل، وأما يَغوثَ فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف، عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نّسْر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبِدَت» (4).
(1) أخرجه أحمد (12/ 314)، والحميدي في «مسنده» (1055).
(2)
برقم (972).
(3)
أخرجه مسلم (970).
(4)
أخرجه البخاري (4920).
أي كان قوم نوح على التوحيد، وكان فيهم رجال صالحون، فلما ماتوا جاءهم الشيطان وقال لهم صوروا لهم صوراً تتذكرونهم بها وتعبدون الله كعبادتهم فصوروا لهم صوراً وجعلوها في ناديهم، فلما مات هؤلاء القوم ونُسي العلم - وهذه مسألة مهمة جداً - فلما لم يعد بينهم علماء يبينون لهم الحق من الباطل، جاءهم الشيطان وقال لهم بأن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها فوقع الشرك في الناس.
ثم أرسل الله تبارك وتعالى نوحاً لهؤلاء القوم كي يردهم إلى التوحيد بعد أن حصل فيهم الشرك.
ثم عادت الكرة من جديد، واتخذ الناس كثيراً من القبور - في زماننا هذا - آلهة تعبد مع الله تبارك وتعالى ، تجدهم يطوفون حول القبر، يذبحون لصاحب القبر، يتضرعون له وكأنهم يدعون الله، بل لعلهم لا يخلصون في أدعيتهم لهم كإخلاصهم لله أو أشد، فيعبدون القبر كأنهم يعبدون الله تماماً، وهذا هو الشرك بعينه، وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر منه فقال:«اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد» (1)، فكان يخشى صلى الله عليه وسلم من هذا الشيء.
فلابد من الحذر من هذا الأمر، فكل هذه الأوامر التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القبور، خشية أن يقع الناس في الغلو ومجاوزة الحد فيها، ومع ذلك فلا يمنع ذلك من احترامها وتقديرها وإعطائها حقها كما سيأتي.
قال: (وتَسْرِيجِها)
تسريجها: يعني إضاءة السُرُجِ، جمع سراج وهو الضوء ، سواء كان بطرق الإضاءة التي كانت عندهم قديماً كالفوانيس وغيرها أو كالطرق الموجودة عندنا اليوم وما شابه.
فأية طريقة من طرق الإضاءة هذه لا تجوز على القبر، بناءً على حديث عند أبي داود (2)، لكنه ضعيف.
قال ابن قدامة تعليقاً على عدم جواز اتخاذ السُّرُجِ على القبور: «لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشيه تعظيم الأصنام» (3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في «سننه» برقم (3236) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، وقد تقدّم تخريجه وبيان علّته.
(3)
«المغني» (2/ 379).
قال المؤلف رحمه الله: (والقعودُ عليها)
مسألة ثانية، وهي احترام القبور وتقديرها احتراماً لأهلها، فشريعة الله دائماً بين الإفراط والتفريط، واعتدال في كل الأمور، ولا يمكن أن تكون معتدلاً إلا إذا تقيدت بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والقعود عليها، أي القعود على القبور محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتَخْلُصَ إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر» (1).
وقد تقدم أنه نهى أيضاً عن القعود على القبور احتراماً لأصحابها كما جاء في الحديث المتقدم من حديث جابر، قال:«نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُجصّص القبر وأن يُقعد عليه وأن يُبنى عليه» (2) ، فهذه ثلاثة أمور نهى صلى الله عليه وسلم عنها.
قال المؤلف: (وسَبُّ الأمواتِ)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» (3).
أي قد ذهبوا إلى ما قدموه من خير أو شر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تذكروا هلكاكم إلا بخير» (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» (5).
مسألة: إن احتجنا إلى ذكر الميت بسوء لمصلحة شرعية معتبرة، فهل يجوز؟
نعم يجوز ، ودليل ذلك ما جاء عن أبي هريرة، أنه قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيراً في مناقب الخير، فقال:«وجبت» ثم مروا عليه بأخرى، فأثني عليها شراً في مناقب الشر، فقال:«وجبت، إنكم شهداء الله في الأرض» (6).
(1) أخرجه مسلم (971).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1393) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه النسائي (1935)، وأبو داود الطيالسي (1597)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (6042)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/ 46)، وغيرهم.
(5)
أخرجه أحمد (30/ 150)، والترمذي (1982) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(6)
أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949).
والشاهد قوله «فذكروها بشر» ، والذي ذُكِرَ بالشر ميت، ومع ذلك أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«وجبت، إنكم شهداء الله في الأرض» .
فإذا لو كان هناك مصلحة شرعية معتبرة فلا بأس، فلو قال أهل الحديث مثلاً: هذا الحديث ضعيف في سنده فلان كذاب، هالك
…
إلخ، فهل هذا داخل في النهي؟
الجواب: لا، لأن هذا إنما ذكر لأجل حفظ الشريعة، لحفظ دين الله سبحانه وتعالى وتمييز الحديث الصحيح من الحديث الضعيف.
كذلك الكلام في أهل البدع والضلال الذين انحرفوا في دين الله عن الجادَّة، لابد من بيان ما عندهم من أخطاء كي يحذر الناس من الوقوع في هذه البدع والضلالات والأخطاء.
قال المؤلف رحمه الله: (والتعزيةُ مشروعة)
لحديث أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها - أو ابناً لها - في الموت فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرها فلتصبر ولتحتسب» (1).
والتعزية: هي التصبير، أي الحث على الصبر بذكر ما يُسَلّي المصاب ويخفف حزنه ويهون عليه مصيبته.
وتكون بكلمات كالكلمات التي قالها صلى الله عليه وسلم لابنته، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع الناس ويصنع الطعام ولم يفعل شيئاً من هذا، فكله لا أصل له في شرع الله، إنما التعزية كما فعل صلى الله عليه وسلم، إذ أرسل إليها رسولاً يخبرها بكذا وكذا، ولكنها لم تقبل بالمُرْسَلِ حتى جاءها صلى الله عليه وسلم ، ووقف عليه ورأى روحه تفيض فبكى صلى الله عليه وسلم وذكر أنها رحمة جعلها الله في قلوب عباده، ولكنه كما ذكرنا لم يفعل ما يفعل الناس ولم يتكلف تكلف الناس اليوم ولم يقع في الإسراف والتبذير وفي مجاوزة الحد الذي يقع فيه الناس اليوم ، فهذه الأشياء التي تحصل فيها منكرات عظيمة وكثيرة جداً من إسراف وتبذير ورياء وسمعة وغير ذلك من الأشياء التي لم يشرعها الله تبارك وتعالى.
قال: (وكذلك إهداءُ الطعامِ لأهلِ الميتِ)
(1) أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923).
لحديث عبد الله بن جعفر، قال: جاء نعي جعفر حين قتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم» (1) وهو ضعيف.
وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث على الاجتماع المنهي عنه وصنعة الطعام فيه، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم» ، واحتجاجهم خطأ، فمعنى الحديث أن أهل البيت عندهم ما يشغلهم، فيحتاجون أن يدفنوا ميتهم، ويشتغلوا بما مع الدفن من تغسيل وتكفين وما شابه ، فانشغلوا بذلك عن صنع طعامٍ يأكلونه، فيُصنع الطعام فقط لأهل البيت الذين انشغلوا، لا أن يُصنع الطعام لكل داخل وخارج ولكل من جاء ليعزي، هذا لم يشرعه الله عز وجل.
مع أن هذا الحديث الذي يحتجون به حديث ضعيف لا يصح.
(1) أخرجه أحمد (3/ 280)، وأبو داود (3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610).
في سنده خالد المخزومي مجهول الحال.