المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتابُ الخُصُومُةِ الخصومة: المنازعة بين الناس. قال المؤلف رحمه الله: (على المُدَّعِي - فضل رب البرية في شرح الدرر البهية

[علي الرملي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشارح

- ‌تعريف الفقه

- ‌‌‌الفقه لغةً‌‌واصطلاحاً:

- ‌الفقه لغةً

- ‌واصطلاحاً:

- ‌فالفقه في الشرع:

- ‌وأما الفقه عند الأصوليين:

- ‌وأما الفقه عند الفقهاء

- ‌ترجمة الشوكاني

- ‌«الدُّرَرُ البَهيَّة» للشوكاني

- ‌كتاب الطهارة

- ‌ باب حكم المياه

- ‌(الماءُ طاهرٌ مُطَهِّرٌ)

- ‌(فصل باب النجاسات)

- ‌(بابُ قضاءِ الحاجةِ)

- ‌(بابُ الوضوءِ)

- ‌(فصل: ويستحبُّ التثليثُ)

- ‌(فصلٌ: وينتقضُ الوضوءُ بما خرجَ من الفَرْجَيْنِ من عَيْنٍ أو ريحٍ)

- ‌(بابُ الغُسْلِ)

- ‌(فصلٌ: والغُسْل الواجب هو: أن يُفيضَ الماءَ على جميع بَدَنِهِ، أو يَنْغَمِس فيه مع المضمضةِ والاستنشاقِ)

- ‌(فصلٌ: ويُشْرَعُ لصَلاةِ الجُمُعة)

- ‌(باب التَّيَمُّمِ)

- ‌(بابُ الحَيْضِ)

- ‌(فصل: والنِّفاسُ أكثرُهُ أربعونَ يوماً، ولا حدَّ لأقلّه وهو كالحيضِ)

- ‌كتابُ الصلاةِ

- ‌(باب الأذان)

- ‌(بابُ شروطِ الصلاةِ)

- ‌(بابُ كيفيةِ الصلاةِ، لا تكونُ شرعيةً إلا بالنيَّةِ)

- ‌(باب متى تبطل الصلاة؟ وعمّن تسقط

- ‌(فصل: وتبطل الصلاة بالكلام)

- ‌(فصل: ولا تجبُ على غَيْرِ مُكَلَّفٍ)

- ‌(بابُ صلاة التَّطَوُّعِ)

- ‌(باب صلاة الجماعة)

- ‌(باب سجودِ السهوِ، وهو سجدتانِ قبل التسليمِ أو بعدهُ، وبإحرامٍ، وتشهدٍ، وتحليلٍ)

- ‌(بابُ القضاءِ للفوائتِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الجمعةِ، تَجِبُ على كُلِّ مُكَلَّفٍ إلا المرأةَ والعبدَ والمسافرَ والمريضَ)

- ‌(بابُ صلاةِ العيدينِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الخوفِ)

- ‌(باب صلاةِ السَّفَرِ، يَجِبُ القَصْرُ)

- ‌(باب صلاة الكسوفين)

- ‌(باب صلاة الاستسقاء)

- ‌كتاب الجنائز

- ‌(فصلٌ: غسل الميت)

- ‌(فصلٌ: تكفينُ الميت)

- ‌ فصل صلاة الجنازة

- ‌(فصل: ويكون المشي بالجِنازةِ سريعاً)

- ‌(فصلٌ: دَفْنُ الميت، ويجبُ دفن الميتِ في حفرة تَمْنَعُهُ السِّباعَ)

- ‌كتاب الزكاة

- ‌(باب زكاةِ الحيوانِ)

- ‌(فصل: إذا بلغت الإبلُ خمساً، ففيها شاةٌ، ثم في كلِّ خمسٍ شاةٌ، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففيها ابنة مَخاضٍ، أو ابن لبونٍ، وفي ستٍّ وثلاثين ابنة لبون، وفي ستٍّ وأربعين حِقّة، وفي إحدى وستين جَذَعة، وفي ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقّتان إلى

- ‌أولاً: الزكاة واجبة في هذه الحيوانات بثلاثة شروط

- ‌ثانياً: كم المقدار الذي يجب أن يخرج إذا بلغت الإبل النصاب

- ‌(فصلٌ: ولا شيء فيما دُونَ الفريضةِ، ولا في الأوْقاصِ)

- ‌(باب زكاة الذهب والفضة)

- ‌(باب زكاة النبات)

- ‌(باب مصارف الزكاة)

- ‌(باب صدقة الفطر)

- ‌كتاب الخُمُس

- ‌كتاب الصيام

- ‌(باب صوم التطوع)

- ‌(باب الاعتكاف)

- ‌كتاب الحج

- ‌شروط الحج:

- ‌(فصل: ولا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القميصَ، ولا العمامة، ولا البُرْنُسَ، ولا السراويل، ولا ثوباً مَسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخُفَّين إلا أنْ لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)

- ‌(فصلٌ: وعند قدوم الحاجّ مكة، يطوف للقدوم سبعة أشواط، يَرمُلُ في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه بِمِحْجَنٍ ويُقَبِّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني)

- ‌(فصل: ويسْعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور)

- ‌(فصل: ثم يأتي عرفة صُبح يوم عرفة مُلبياً مُكبراً ويَجمع العصرين فيها، ويخطُب، ثم يُفيض من عرفة بعد الغروب)

- ‌(باب العمرة المفردة)

- ‌كِتابُ النِّكاحِ

- ‌حكم النكاح:

- ‌مسألة:

- ‌بابُ المُحرَّماتِ في النِّكاحِ

- ‌(بابُ العُيُوبِ وَأَنْكِحَةِ الكُفَّارِ)

- ‌بابُ المَهرِ والعِشرَةِ

- ‌كتابُ الطَّلاقِ

- ‌باب الخلع

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظهار

- ‌بابُ اللِّعَانِ

- ‌بابُ العِدَّةِ والإحدِادِ

- ‌باب استِبْرَاءِ الإِمَاءِ

- ‌بابُ النَّفقةِ

- ‌بابُ الرَّضَاعِ

- ‌بابُ الحَضَانَةِ

- ‌كتابُ البيوعِ

- ‌ باب الربا

- ‌(باب الخِيارَات)

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب القَرْض

- ‌باب الشُّفْعة

- ‌باب الإِجارة

- ‌بابُ الإحيَاءِ والإِقْطَاعِ

- ‌بابُ الشَّرِكة

- ‌بابُ الرَّهْنِ

- ‌بابُ الوَدِيْعَةِ والعَارِيَّة

- ‌بابُ الغَصْبِ

- ‌بابُ العِتْقِ

- ‌بابُ الوقْفِ

- ‌بابُ الهَدَايا

- ‌بابُ الهِبات

- ‌كتاب الأَيمَان

- ‌كتابُ النَّذرِ

- ‌كتاب الأطعِمَة

- ‌بابُ الصَّيدِ

- ‌بابُ الذَّبحِ

- ‌بابُ الضِّيافَةِ

- ‌بابُ آدابِ الأكلِ

- ‌كتابُ الأشرِبةِ

- ‌كتابُ اللِّباسِ

- ‌كتابُ الأُضحِيةِ

- ‌بابُ الوَلِيمةِ

- ‌فصلٌ

- ‌كتابُ الطِّبِّ

- ‌كتابُ الوَكالةِ

- ‌كتابُ الضَّمَانَةِ

- ‌كِتابُ الصُّلحِ

- ‌كتابُ الحَوَالةِ

- ‌كتابُ المُفلسِ

- ‌كتابُ اللُّقطةِ

- ‌كتابُ القَضاءِ

- ‌كِتابُ الخُصُومُةِ

- ‌كِتابُ الحُدُودِ

- ‌بَابُ حَدِّ الزَّانِي

- ‌بابُ حَدِّ السَّرقةِ

- ‌بابُ حَدِّ القَذفِ

- ‌بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ

- ‌فَصلٌ

- ‌بَابُ حَدِّ المُحَاربِ

- ‌بابُ مَنْ يَستحقُّ القَتلَ حَدّاً

- ‌كِتابُ القِصاصِ

- ‌كتابُ الدِّياتِ

- ‌بَابُ القَسَامَةِ

- ‌كتابُ الوَصِيَّةِ

- ‌كِتابُ المَوَاريثِ

- ‌كتابُ الجِهادِ والسِّيَرِ

- ‌فَصلٌ

- ‌فصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

الفصل: ‌ ‌كِتابُ الخُصُومُةِ الخصومة: المنازعة بين الناس. قال المؤلف رحمه الله: (على المُدَّعِي

‌كِتابُ الخُصُومُةِ

الخصومة: المنازعة بين الناس.

قال المؤلف رحمه الله: (على المُدَّعِي البَيِّنةُ، وعلى المُنكِرِ اليَمينُ)

عمل القاضي في الخصومات، هذا الكتاب عقده المؤلف للخصومة كي يبيِّن كيفية عمل القاضي في الخصومات بين الناس.

أول شيء يجب أن نعلمه هو: مَنْ هو المُدَّعِي، ومَنْ المُدَّعَى عليه، وما هي البيِّنة؟ هذه ثلاثة أمور مهمة جداً في هذا الباب.

المدَّعِي: هو الذي يطالب بالحق، وإذا سكت عن المطالبة تُرِك. هناك تعريفات أخرى للعلماء لكن هذا أفضلها.

والمُدعَى عليه: هو المطالَب بالحق، وإذا سكت لم يُترك.

مثال: زيد وعمرو، زيد يطالب بحقٍ ما؛ كأن يكون عند عمرو مثلاً بيت، فيقول زيد: البيت لي، فيترافعان إلى القاضي.

الذي يطالب بالحق زيد، إذا سَكَت عن المطالبة تُرك لا يلاحقه أحد، فهو المدَّعي.

المدعى عليه هو عمرو الذي معه البيت، عمرو مطالَب بالبيت الذي معه، إذا سكت لا يُترك؛ لأنه يوجد مُطالِب يلاحقه وهو زيد، فلا يُترك إذا سكت، فهذا هو المدَّعى عليه.

أما البينة فقال ابن القيم رحمه الله: -أنا ذكرت كلام ابن القيم عمداً هنا لأن المسألة فيها

ص: 569

نزاع، ونزاع يترتب عليه أحكام كثيرة- قال: البينة في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة: اسمٌ لكل ما يبيِّن الحق. انتهى

محصورة أم غير محصورة؟ غير محصورة.

عند الفقهاء محصورة بشاهدين أو شاهد ويمين، لكن في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة هي غير محصورة، كل ما يبيِّن الحق فهي بينة.

هناك فرق واضح وكبير، وبسبب هذا الفرق وبسبب حمل الفقهاء المعنى الاصطلاحي عندهم على كلام الله وكلام رسوله حصل خلل كبير جداً في الأحكام.

لا بأس بالاصطلاح، الاصطلاحات لا مشاحة فيها كما يقول أهل العلم، لكن الحذر من الاصطلاح عندما تنزله على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، قد حصل زلل كبير وخطأ عظيم من الفقهاء المتأخرين عندما صاروا يحملون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على المعاني الاصطلاحية، فيفهمون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بناء على ما وضعوه هم من اصطلاحات، هذا زلل كبير، لا بد أن يفرق المرء بين المعنى الاصطلاحي والمعنى الشرعي، يفرِّق بين الأمرين ولا يفهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاني اصطلاحية اصطلح الفقهاء أو الأصوليون عليها.

أول ما يفعل القاضي يُجلس الخصمين عنده ثم يطلب البينة من المدعي، يطلب البينة التي هي الدليل على دعواه، إذا أقام البينة انتهى الأمر صار الحق له، وإذا لم يقم البينة حُلَّف المدعَى عليه يميناً فإن حلف ثبتت براءته؛ لأن الأصل براءة الذمة، وإذا نكل عن الحلف-يعني امتنع عن الحلف- ثبت الحق للآخر.

والذي قاله المؤلف وهو: على المدعِي البينة وعلى المنكر اليمين، المنكر هو المدعَى عليه، دليله حديث الأشعث بن قيس قال: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ » فَقُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَيَمِينُهُ» ، قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (1). متفق عليه.

(1) أخرجه البخاري (2669)، ومسلم (138).

ص: 570

وفي مسلم من حديث وائل بن حُجر قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ » قَالَ: لَا، قَالَ:«فَلَكَ يَمِينُهُ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ:«لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ» ، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَدْبَرَ:«أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» (1)

اختصم حضرمي وكِندي-رجل من كِندة قبيلة من قبائل العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرضٍ، قال الحضرمي وهو المدعِي: يا رسول الله هذا غلبني على أرضي يعني تسلط على أرضي وأخذها مني كانت لأبي، فقال الكندي منكراً وهو المدعى عليه: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق.

هذا يدعي وذاك ينكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي- المدعِي-: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه، ما لك إلا أن يحلف اليمين يعني الكندي وهو المدعَى عليه.

وفي حديث ابن عباس في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» (2)

لو يعطى الناس بدعواهم يعني بمجرد أن يدعي الشخص يعطى من غير دليل لادعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم فالكذَبة كُثُر؛ لذلك لا يجوز أن يعطى أحد شيئاً يدعيه لمجرد دعواه بل لابد من الدليل.

ونقل ابن المنذر الإجماع (3) على ما ذكره المؤلف رحمه الله فلا خلاف في هذه المسألة.

قال النووي رحمه الله: وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع؛ ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعَى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو كان أعطي بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعِي فيمكنه صيانتهما بالبينة. انتهى

(1) أخرجه مسلم (139).

(2)

أخرجه البخاري (4552)، مسلم (1711).

(3)

الإجماع لابن المنذر (ص 65).

ص: 571

قال المؤلف رحمه الله: (ويَحكمُ الحاكمُ بالإِقرارِ)

الإقرار: الاعتراف، الاعتراف من قِبَل المُدعى عليه، الاعتراف دليلٌ قوي معمول به وحجة ثابتة، أجمع العلماء على أن الإقرار يُحكم به (1).

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء/135] الشهادة على نفسه إقرار، وقال تعالى:{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«واغدُ يا أُنَيِّس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (2) إن اعترفت بالزنى فارجمها، هذا دليل على أن الاعتراف كافٍ في إقامة الحد.

قال المؤلف رحمه الله: (وبشَهادِةِ رَجُلَينِ)

هذه البينات التي يقضي بها القاضي عند المؤلف بعد الإقرار: شهادة رجلين.

الشهادة مشتقة من المشاهدة، وهي: المعاينة؛ لأن الشاهد يخبر عما عاينه أي رآه.

وهي في الاصطلاح: الإخبار بما عَلِمه.

ودليل صحة القضاء بشهادة رجلين، قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق/2] أي: رجلين عدلين. وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة/282] وتقدم في حديث الأشعث، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«شاهداك أو يمينه» متفق عليه.

وعرفنا معنى العدل فيما تقدم.

قال المؤلف: (أو رَجُلٍ وَامرأَتينِ)

ويحكم القاضي بشهادة رجل وامرأتين.

قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة/282]، الشاهد

(1) انظر المغني لابن قدامة (5/ 109)، ومراتب الإجماع لابن حزم.

(2)

متفق عليه، تقدم.

ص: 572

قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي اطلبوا الشهادة من رجلين، فإن لم يكونا رجلين فاطلبوها من رجلٍ وامرأتين.

وأجمع العلماء على أن شهادة النساء في الدَّيْن والأموال جائزة (1)، وأجمعوا على أن شهادتهن في الحدود لا تقبل، غير جائزة (2).

فعند أهل العلم تفصيل: شهادة المرأة لا تقبل في كل شيء، أجمعوا على أن شهادتها في الدَّين والأموال مقبولة، وأجمعوا على أن شهادتها في الحدود غير مقبولة، واختلفوا فيما عدا ذلك. والراجح أنها مقبولة فيما عدا ما أجمعوا عليه وهو الحدود فقط، راجعوا ما قاله ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين. (3)

قال المؤلف رحمه الله: (أو رَجُلٍ ويَمينِ المُدَّعِي)

أي يحكم الحاكم بشهادة شاهد واحد مع يمين المدعِي، إذا لم يجد المدعي سوى شاهد واحد، فيشهد معه الشاهد ويحلف هو اليمين، يكفي هذا في الحكم له؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنه عند مسلم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينٍ وشاهد. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد.

وإليه ذهب جمهور أهل العلم.

هذان حديثان صحيحان واحد عند مسلم، والثاني صححه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان.

وكما هي العادة في الغالب مخالفة السنن تكون من أصحاب الرأي، خالفوا في هذا، واستدلوا بمفهوم الآيات التي وردت من استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين، قالوا: مفهومها أنه لا يصلح شاهد واحد.

ولكن هذا المفهوم قد عارضه ما هو أقوى منه وهو منطوق هذه الأحاديث، والمفهوم أضعف من المنطوق. والله أعلم

راجعوا لهذه المسألة كتاب ابن القيم الطرق الحكمية (ص 60)

قال المؤلف رحمه الله: (وبِيمينِ المُنكِرِ)

(1) الإجماع لابن المنذر (ص 68)، ومراتب الإجماع لابن حزم (ص 53).

(2)

الإجماع لابن المنذر (ص 68).

(3)

إعلام الموقعين (2/ 172).

ص: 573

أي ويحكم الحاكم أو القاضي بيمين المنكر في حال عدم وجود البينة عند المدعي.

إذا طولب المدعِي بالبينة فلم يتمكن منها، يطالَب المُدعَى عليه باليمين، فإذا حلف سقطت الدعوى وربحها المدعى عليه، لأن المدعي لا بينة عنده.

وإذا نكل عن اليمين- يعني امتنع ولم يحلف- ربح الدعوى المدعي؛ لأنه لو كان المدعى عليه صاحب حق لما امتنع عن اليمين، فلذلك يُحكَم بالنكول على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لحديث وائل بن حُجر قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألك بينة؟ » قال: لا. قال: «فلك يمينه» ثم قال: «ليس لك منه إلا ذلك» (1).

قال المؤلف رحمه الله: (وبيمينِ الرَّدِّ)

يعني إذا امتنع المدعى عليه من الحلف ولا توجد بينة مع المدعي؛ تُرَدُّ اليمين على المدعي ويحلف يميناً ويثبت له الحق بذلك.

واختلف أهل العلم في هذا الرد، هل ترد اليمين على المدعي ويحلف أم لا ترد؟

الصحيح أنها لا تُرَد؛ لأنه لا يوجد دليل صحيح يدل على وجوب الرد.

والذين قالوا بهذا المذهب اعتمدوا على أحاديث ضعيفة لا تصح أو على الرأي، قالوا: النكول دليل ضعيف فيتقوى برد اليمين على المدعي، لكن الصحيح كما ذكرنا أن النكول كافٍ إن شاء الله في الحكم.

قال المؤلف رحمه الله: (وبِعلمِهِ)

يعني يقضي القاضي بعلمه، الحاكم أو القاضي له أن يقضي بعلمه، إذا جاءه اثنان يختصمان في قطعة أرض، زيد يقول لي، وخصمه يقول لي، والحاكم يعلم أنها لزيد، هل له أن يحكم لزيد بها دون وجود بينة مع زيد ولا اعتراف الخصم؟

هنا محل الخلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: يحكم بمجرد علمه حتى وإن لم يُحضر المدعي البينات وهو يعلم أنها من حق المدعي حكم له بذلك.

(1) متفق عليه، تقدم.

ص: 574

هكذا قال البعض، وقال البعض: لا يحكم بعلمه. والذين قالوا: لا يَحكم بعلمه، قالوا: لأنه سيضع نفسه في محل تهمة، سيُتهم حيث إنه حكم من غير وجود دليل، يتهم بالرشوة أو غيرها.

ثم استدلوا بالحديث المتقدم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» قالوا: فيقضي بما سمع لا بما علم. هذا دليلهم، ولهم غيره كعلمه بزنا المرأة ولم يقم الحد عليها.

وأما دليل الطائفة الثانية التي قالت: يحكم بعلمه، فقالوا: إن الواجب عليه أن يحكم بالحق والعدل الذي يحبه الله ويرضاه وهو قد علمه، فوجب عليه أن يحكم به.

واستدلوا أيضاً بحديث هند بنت عتبة التي قضى لها النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون أبو سفيان حاضراً ومن غير أن يسمع منه، قالوا: ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم صدقها لذلك حكم في مثل هذه المسألة فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هنا قد حكم بعلمه.

وللعلماء أقوال أخرى فيه تفصيل، قال ابن هبيرة في اختلاف العلماء:

واختلفوا في الحاكم هل يجوز له الحكم بعلمه؟

فقال مالك وأحمد في إحدى روايتيه: لا يجوز له ذلك في شيء أصلاً، لا فيما علمه قبل ولايته ولا بعدها لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين، لا في مجلس الحكم ولا غيره.

وعن أحمد رواية أخرى: له أن يحكم في الجميع على الإطلاق سواء علمه قبل ولايته أو بعدها.

وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: له أن يحكم بعلمه في مجلس حكمه في الأموال خاصة.

وقال أبو حنيفة: يحكم بعلمه فيما علمه في حال قضائه؛ إلا في الحدود التي هي حقوق الله، فيحكم بعلمه في القذف إذا كان علمه في حال قضائه، فأما ما علمه قبل قضائه فلا يحكم به على الإطلاق.

وللشافعي قولان: إحداهما كالرواية عن أحمد ومالك، والثاني: يحكم فيما علمه قبل ولايته وبعدها في علمه وغير علمه؛ إلا في الحدود فإنها على قولين.

ص: 575

قال المؤلف رحمه الله: (ولا تُقبل شَهادةُ مَنْ ليس بِعدلٍ)

الشاهد يجب أن يكون عدلاً؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق/2] وقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} [البقرة/282]، والعدل هو: المسلم البالغ العاقل الخالي من أسباب الفسق. هذه الأوصاف يجب أن تتوفر فيه، لا يكون الشخص عدلاً حتى تتوفر فيه هذه الشروط:

الإسلام: فلا تُقبل شهادة الكافر؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة/282]، وقال:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق/2]، والكافر ليس منا، ليس من رجالنا، ثم إنه يكذب على الله، الكافر يكذب على الله فلا يؤمن كذبه على الخلق، وهو أيضاً من ضمن الفسقة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم:{إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات/6]، والكافر أفسق الفاسقين. هذا شرط الإسلام.

أما شرط البلوغ فلقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة/282]، وغير البالغ ليس منهم. وكذلك غير البالغ غير مكلف فهو لا يعي معنى العقاب والعذاب وعواقب الكذب وما شابه، بل ربما إذا علم أنه غير مكلف أن يتساهل في المخالفة.

والعقل لا يصلح للشهادة إلا من كان عاقلاً، فالمجنون لا يصلح للشهادة.

الخلو من أسباب الفسق: أسباب الفسق ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة، هذا سبب الفسق يسمى الشخص فاسقاً إذا ارتكب كبيرة ولم يتب منها، أو أصر على الصغيرة.

الكبيرة: ما تُوُعِّد عليه بغضب أو لعنة أو رُتِّب عليه عقاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة. والصغيرة ما سوى ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا الخَائنِ، ولا ذِي العَداوةِ، والمُتَّهمِ، والقَانعِ لأهلِ البيتِ، والقاذفِ، ولا بَدويٍّ على صَاحبِ قَريةٍ)

كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم

أما الخائن فأمره واضح فهو ليس عدلاً ولا مؤتمن، فالخيانة من علامات المنافق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (1).

والخائن هو: الذي يؤتمن على الشيء فيأخذه.

فلا يكون عليه أميناً.

(1) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59).

ص: 576

قال أبو عبيد: لا نراه خَصَّ به الخِيانةَ في أَماناتِ النَّاس دُونَ ما افتَرضَ اللهُ تَعالَى على عبادِه وائْتَمَنهم عليه، فإنَّه قد سَمَّى ذلك أَمانةً فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} فمن ضَيَّع شيئًا مِمَّا أَمَر اللهُ تعالى به، أو رَكِب شيئًا مِمَّا نَهَى الله عنه؛ فليس ينبغي أن يَكُونَ عَدلًا؛ لأنه قد لَزِمَه اسمُ الخِيانة.

وأما ذو العداوة فهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة، فوجود هذه العداوة تجعل الشاهد محل تهمة.

تُتْرَك شهادته حتى نأمن من تأثير العداوة على الشهادة على الآخر، فيشهد بالباطل لإلحاق الضرر به.

والمتهم مَنْ يُظنُّ به أنه يشهد زوراً لمن يحابيه؛ لصحبة أو قرابة أو غير ذلك.

والقانع لأهل البيت أي الذي ينفق عليه أهل البيت؛ كالخادم والتابع؛ فربما تدفعه نفقتهم عليه أن يحابيهم ويميل إليهم في الشهادة.

دليله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» (1).

ولا ذي غِمْر على أخيه أي ولا ذي حقد على أخيه.

والقاذف: كذلك القاذف لا تجوز شهادته، والقاذف هو الذي يرمي غيره بالزنى، وهذا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/4]، الشاهد قال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، يعني يرمون العفيفات الطاهرات يرمونهن بالزنى لا تقبلوا لهم شهادة أبداً.

قال: والبدوي على صاحب قرية.

(1) أخرجه أحمد (6899)، وأبو داود (3601)، وابن ماجه (2366).

ص: 577

دليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» (1). أخرجه أبو داود وغيره. هذا الحديث فيه إشكال، إن صح فهو محمول عند أهل العلم على مَنْ لم تُعرَف عدالته من أهل البدو، أو من يجهل أحكام الشهادة. قالوا: والغالب أنهم لا تُعرف عدالتهم.

قال الذهبي في تعليقه على المستدرك: وهو حديث منكرعلى نظافة سنده.

قال المؤلف رحمه الله: (وتَجوزُ شَهادةُ مَن يَشهَدُ على تَقريرِ فِعلِهِ أو قَولِهِ إذا انتفَتِ التُّهمَةُ)

يعني بذلك إذا ادعى شخصٌ أنه مثلاً رضع من فلانة، فيجوز لفلانة هذه أن تشهد أنها أرضعته، تشهد على حدوث فعلها وتأكيده، تشهد وتقول: أنا أرضعت فلاناً، فتشهد بفعلٍ هي فعلته.

أو أن يشهد الشخص بقولٍ هو قاله لمصلحة المشهود له أو ضده، المهم أن الشاهد يشهد بأمرٍ هو فعله أو قاله.

هذا ما يريده المؤلف، يقول: يجوز هذا الأمر.

ودليل ذلك حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه عندما تزوج امرأة، قالت امرأة أخرى: إني أرضعت عقبة والتي تزوج، فسأل عقبةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال له صلى الله عليه وسلم:«كيف وقد قيل؟ » (2) يعني كيف ستتزوجها وقد قيل: إنك رضعت أنت وهي من امرأة واحدة؟

فهذه المرأة قد شهدت بفعل نفسها أنها هي التي أرضعته، وقُبلت شهادتها ففارقها عقبة، فارق زوجته التي كان قد تزوج.

فهذه الشهادة مقبولة بشرط أن لا يُتهم الشاهد، الذي شهد بأنه قال أو فعل، لا يكون متهماً بأن يكون بينه وبين المشهود عليه عداوة أو له مصلحة.

قال المؤلف رحمه الله: (وشَهادةُ الزُّورِ مِن أكبرِ الكَبائِرِ)

شهادة الزور، هي: شهادة الكذب، يعني أن تخبر عند التحاكم أنك رأيت أو سمعت شيئاً

(1) أخرجه أبو داود (3602)، وابن ماجه (2367).

(2)

أخرجه البخاري (2640).

ص: 578

وأنت كاذب في ذلك، وهي من أكبر الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال:«الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» ثم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور أو قال: شهادة الزور» (1) متفق عليه.

فشهادة الزور أكبر الكبائر بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه تحذير من ارتكاب هذه الجريمة وهي شهادة الكذب.

قال المؤلف رحمه الله: (وإذا تَعارضَ البَيِّنتانِ ولم يُوجد وَجهُ تَرجيحٍ؛ قُسِّمَ المُدَّعَى)

إذا جاء الخصمان إلى القاضي، وأقام كل واحد منهما البينة على أن الشيء الذي تنازعا عليه له، فالأول أقام البينة على ذلك بإحضار شاهدين عدلين مثلاً، والثاني كذلك أقام البينة على ذلك مثله، ولا يوجد وجه ترجيح.

بينتان قويتان بنفس القوة، ليس عند القاضي مرجِّح يقوي به أحد القولين، ماذا يفعل في هذه الحالة؟ قال المؤلف: قُسِّم المُدَّعَى، ما هو المدعى؟ إذا ادعى مثلاً أحد الخصمين على الآخر أن الأرض له، أوالبيت، أو أن السيارة له، فالأرض أو البيت أو السيارة هي المُدّعَى، فالمدعى هو الشيء الذي يدعيه كل واحد من الطرفين؛ كقطعة الأرض أو السيارة وما شابه.

فإذا تساوت البينات بين الخصمين يقسم المدعى، يعني قطعة الأرض إذا تنازعا على قطعة أرض تقسم قطعة الأرض بينهما.

هذا معنى كلام المؤلف.

استدل المؤلف بالحديث الذي أخرجه أبو داود: أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث كل واحدٍ منهما بشاهدين؛ فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين (2).

فالمدعي عنده بينة والمدعى عليه عنده بينة، فهذا جاء بشاهدين وهذا جاء بشاهدين، ولا يوجد ما يدل على أن الحق مع أحدهما؛ لذلك قسمه بينهما.

هذا حديث أبي موسى وهو حديث معلولٌ عند أهل الحديث كما قال البيهقي رحمه الله، فلا يحتج به حديث ضعيف.

قال البيهقي عند ذكر هذه المسألة: قال الشافعي رحمه الله: فيها قولان: أحدهما: يقرع بينهما

(1) أخرجه البخاري (5977)، ومسلم (88).

(2)

أخرجه أحمد (19603)، وأبو داود (3613)، والنسائي (5424)، وابن ماجه (2330)، انظر علته في الإرواء للألباني (2656)

ص: 579

، فأيهما خرج سهمه حلف: لقد شهد شهوده بحق، ثم يقضي له بها. قال: وكان سعيد بن المسيب يقول بالقرعة ، ويرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكوفيون يروونها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..... والقول الآخر: أنه يقضي بينهما نصفين (1)؛ لأن حجة كل واحد منهما فيها سواء. انتهى ما نقله البيهقي.

وأنا أقول بهذا الثاني؛ لأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وصح عن أبي الدرداء القول بالثاني. والله أعلم

قال المؤلف رحمه الله: (وإِذا لَم يَكُنْ للمُدَعِّي بَيِّنةٌ؛ فليسَ لهُ إلَّا يَمينُ صَاحِبهِ، ولوكَانَ فَاجِراً)

هذه المسألة تقدمت، ودليلها حديث وائل بن حجر المتقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألك بينة؟ » قال: لا، قال:«فلك يمينه» إذا لم تكن لك بينة على ما تدَّعي فليس لك إلا يمين من تدَّعي عليه، فيحلف يميناً ويأخذ الحق.

قال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف عليه. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك منه إلا ذلك» انتهى الأمر، إذا لم تأت ببينة فليس لك حق إذا حلف هو يمين، حتى لو كان فاجراً. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا تُقبَلُ البَيِّنةُ بعدَ اليَمينِ)

إذا جاء الخصمان إلى القاضي، وقال زيد أحد الخصمين: قطعة الأرض التي مع عمرو لي، فطولب زيد بالدليل من القاضي، بيِّنة، البيِّنة على المدعي، فما استطاع أن يأتي بها، حُلِّف عمرو فحلف أن الأرض له، ثم بعد ذلك تمكن زيد من الإتيان بالبينة، يقول المؤلف: لا تُقبل البينة بعد اليمين.

بما أن المدعى عليه حلف اليمين، فلا نقبل البينة بعدها نقبلها قبل أن يحلف فقط.

(1) كذا في السنن الكبرى (10/ 438)، وفي الأم للشافعي (6/ 264): يقضي به بينهما نصفين.

ص: 580

هذا قول المؤلف رحمه الله، والصحيح أن البينة تُقبل متى جاء بها صاحبها؛ فالمراد إظهار الحق وإيصال الحقوق إلى أصحابها، ويحصل ذلك بالبينات فهي أقوى من اليمين.

ولا يوجد دليل صحيح يدل على ما ذكره المؤلف رحمه الله من رد البينة بعد اليمين. والله أعلم

قال ابن حزم: وقد اختلف الناس في هذا فروينا من طريق وكيع نا سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته، ويقبل البينة بعد اليمين، ويقول: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة.

وبالحكم على الحالف إذا أقام الطالب بينة بعد يمين المطلوب يقول سفيان الثوري، والليث بن سعد. وبه يقول أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق

انتهى ثم ذكر أقوال أهل العلم الأخرى.

قال المؤلف رحمه الله: (ومَنْ أَقرَّ بِشيءٍ عَاقِلاً بَالِغاً غَيرَ هَازلٍ ولا بِمُحالٍ عَقلاً أو عَادةً؛ لَزِمَهُ ما أقرَّ بهِ؛ كَائِناً ما كَانَ، ويَكفِي مَرّةً واحدة؛ مِن غَيرِ فرقٍ بَينَ مُوجِباتِ الحُدُودِ وَغِيرِهَا كمَا سَيأتِي)

تقدم معنا أن الإجماع منعقد على الحكم بالإقرار، بمجرد أن يقر الشخص بالحق الذي عليه يحكم القاضي بالإقرار الذي حصل، فإذا اعترف الشخص بما ادُّعي عليه لزمه الحق، وشرط ذلك أن يكون المعترف عاقلاً بالغاً يفهم ما يقوله وما يقر به على نفسه؛ لأن المجنون والصبي ليسا مكلفين، فلا حكم لإقرارهما.

ويكون جادّاً يعني غير هازل، ليس لاعباً، لا يمزح ويلعب، يكون جاداً في اعترافه، فالهزل ليس اعترافاً حقيقة.

ويعترف بشيء يصدَّق عادة وعقلاً، لا يعترف بشيء مستحيل، مستحيل عليه أن يفعله أو أن يقوله مثلاً؛ لأن هذا كذب ظاهر، يعترف بشيء يكون معقولاً وفي العادة يقع.

ويكفي أن يعترف مرة واحدة لا يطالَب بالاعتراف بأكثر من مرة سواء كان هذا في الحدود أم في غيره.

هذا معنى ما ذكره المؤلف، ودليل الحكم بالاعتراف تقدم وهو حديث: «واغدُ يا أنيس إلى

ص: 581