الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتطهُر في هذه الحالة، لأن الوصف الذي وقع عليه الحكم بالنجاسة فُقِدَ ولم يعد موجوداً.
ثم قال رحمه الله: (وما لا يمكن غَسْلُه، فبالصبّ عليه أو النَّزْحِ منه حتى لا يبقى للنجاسة أثرٌ)
المراد بالنزح: الإبعاد.
تحدث المؤلف هنا عمّا لا يمكن غسله كالأرض والبئر، فأما الأرض فتطهر بالصب عليها كما جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد (1)، وأما البئر فيطهر بإبعاد الماء منها حتى لا يوجد للنجاسة أثر (2).
ثم قال رحمه الله: (والماء هو الأصل في التطهير، فلا يقوم غيرُهُ مَقامَهُ إلا بإذنٍ من الشارع)
الأصل في تطهير النجاسات هو الماء، لأن الماء قد وصف كما تقدم بأنه طاهر مطهر، فالأصل التطهير به إلا إن وجد دليل من الكتاب والسنة يدل على أن غيره مطهّر لنجاسة ما، فنتقيد بما ورد.
وقد ذهب جمهور علماء الإسلام إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وهذا صحيح في غير ما ورد الدليل بخلافه.
ومن أثبت مطهّراً لم يرد في الكتاب والسنة أنه مطهّر للنجاسة، أو أثبت تطهيراً على غير الصفة الثابتة فيهما، فقوله مردود، لمخالفته للأدلّة.
ثم قال رحمه الله:
(بابُ قضاءِ الحاجةِ)
قضاء الحاجة، يعني بها الذهاب إلى الخلاء لإخراج البول أو الغائط، فيريد أن يذكر هنا أحكام وآداب ذلك.
قال رحمه الله: (على المُتَخَلّي الاستتارُ حتى يَدْنُوَ مِنَ الأرضِ)
(المُتخلّي): الذي ذهب إلى الخلاء لقضاء حاجته.
(1) أخرجه البخاري (219)، ومسلم (284) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
. استدلّ من قال بقول المؤلف بأثر ابن عباس الذي أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 150) وغيره، ورواه عن ابن الزبير، وبيّن ضعفه البيهقي في «معرفة السنن» (1/ 402) وأنكره الشافعي وابن عيينة.
(الاستتار) أي طلب ما يستره عن أعين الناس.
(حتى يدنو من الأرض) أي يبقى مستتراً إلى أن يجلس.
ويدلّ على ذلك جميع الأدلة التي وردت في وجوب ستر العورة.
فإن كان المتخلّي في فضاء كان ستر عورته واجباً، وأما إذا كان في مكان مغلق أو يغلب على ظنه أن أحداً لا يراه فلا بأس بخلع ملابسه قبل أن يدنو من الأرض، لأن المراد هو ستر العورة.
وجاء في «سنن أبي داود» (1): «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» ولكنه حديث ضعيف، لأنه مضطرب.
وكذا حديث: «من أتى الغائط فليستتر» (2) فإنه ضعيف أيضاً.
والعمدة على ما ذكرنا سابقاً، وهو عموم الأدلة التي أمرت بستر العورة، فقد قال الله تعالى:{قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وقال صلى الله عليه وسلم: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» (3).
ثم قال رحمه الله: (والبُعْدُ ودخولُ الكنيفِ)
(البعد): أي الابتعاد عن أعين الناس.
و(الكنيف): أصله الحظيرة التي تعمل للإبل، فَتُكِنُّها - أي تحفظها - من البرد، ثم سمّوا ما حظَروه وجعلوه موضعاً للحدث كنيفاً.
أخرج أبو داود وغيره: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد» (4).
وعن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» (5).
(1) أخرجه أبو داود (14)، والترمذي (14) وغيرهما عن أنس وابن عمر رضي الله عنهما.
ضعفه الدارقطني في «العلل» (2462)، وانظر «العلل الكبير» للترمذي (8).
(2)
أخرجه أحمد (14/ 432) رقم (8838)، وأبو داود (35)، وابن ماجه (337) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فيه الحصين الحبراني، وأبو سعيد مختلف في توثيقهما وجهالتهما، انظر «البدر المنير» (2/ 299).
(3)
أخرجه أحمد (33/ 235) رقم (20034)، وأبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجه (1920) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(4)
أخرجه أبو داود (1)، والترمذي (20)، والنسائي (17)، وابن ماجه (331) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أبو داود (2)، وابن ماجه (335) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وهذان الحديثان فيهما كلام، ولكن يشهد أحدهما للآخر.
وهذا مع حديث المغيرة في «الصحيحين» ، «أن النبي صلى الله عليه وسلم بال عند سباطة قوم» (1)، والسباطة، هي المزبلة، وتكون قريبة من الناس.
وكذلك رآه ابن عمر على سطح بيت حفصة يقضي حاجته (2).
فالظاهر أنه إذا أمن أن يراه أحد أو كان في كنيف فلا بأس أن يكون قريباً.
ثم قال رحمه الله: (وتركُ الكلامِ)
أي يجب على المُتخلّي عند قضاء الحاجة ترك الكلام، لما أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخرُج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدّثان، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك» (3).
ولكنه حديث ضعيف مضطرب، وفيه راوٍ مجهول.
فإذا كان الحديث ضعيفاً ولا يوجد ما يدل على تحريم الكلام عند قضاء الحاجة غيره، فيبقى الأمر على الإباحة بناء على الأصل، فإن أصل هذه الأشياء الإباحة ولا يوجد ما يدل على خلافه.
ويكره ذكر الله ورد السلام، لأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من رد السلام على رجل وهو يبول (4).
ثم قال (والمُلابَسَةُ لما لهُ حُرْمَةٌ)
مثل المصحف أو الخاتم الذي عليه ذكر الله أو ما شابه ذلك، فلا يلبسه في يده أو في رقبته أو يضعه في مخبئه عند قضاء الحاجة، وذلك لحديث أنس الذي أخرجه أبو داود وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» (5) أي نزعه.
(1) أخرجه البخاري (224)، ومسلم (273) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (148)، ومسلم (266) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (17/ 412)، وأبو داود (15)، وابن ماجه (342) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (370) عن ابن عمر رضي الله عنه: «إن رجلاً مرّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلّم، فلم يردّ عليه» .
وأخرج (369) من حديث أبي جهم قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جملٍ، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم ردّ عليه السلام» .
(5)
أخرجه أبو داود (19)، والترمذي (1746)، والنسائي (5213)، وابن ماجه (303) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال أبو داود: هذا حديث منكر.
ولكنه حديث ضعيف لا يصحّ، وبما أن الحديث ضعيف فلا يعمل به ويبقى الأمر على الإباحة بشرط ألا يمس ذلك نجاسة.
فالخاتم إذا كان في اليد اليسرى وجب أن يُنزع، لأن النجاسات ستلاقيه على تلك الحال، فإنه في اليد اليسرى التي سيستنجي بها الشخص، أما إذا كان المصحف في مخبئه - أي جيبه - محفوظاً بعيداً عن الأذى فلا بأس والله أعلم.
وقال رحمه الله: (وَتَجَنُّبُ الأمْكِنَةِ التي مَنَعَ عن التَّخَلّي فيها شرعٌ أو عُرْفٌ)
وذلك لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا اللَّعَّانين» ، قالوا وما اللعانان يا رسول الله؟ قال:«الذي يتخلّى في طريق الناس أو ظلِّهم» أخرجه مسلم (1).
و(اللعانان)، الأمران الجالبان للَّعنِ.
ووردت في ذلك أحاديث أخرى فيها ضعف.
لكن هذا الحديث يدل على تحريم قضاء الحاجة في طريق الناس أو في المكان الذي يستظلّون به، وما في معنى هذه الأمكنة، كحول الأنهار والآبار وأفنية الناس وكل ما يتأذى الناس من قضاء الحاجة فيه.
وأما الحديث الوارد في النهي عن البول في الجحر، فضعيف (2).
وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبول أحدنا في مغتسله (3) أي في المكان الذي يغتسل فيه.
قال أهل العلم: وإنما نهى عنه إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول، أو كان المكان صُلْباً فيتوهم أنه أصابه منه شيء، فيحصل منه الوسواس.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد (4).
(1) أخرجه مسلم (269) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (34/ 372)، وأبو داود (29)، والنسائي (34) عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه.
اختلف في سماع قتادة من عبد الله بن سرجس، وقتادة مدلس لا يقبل منه في مثل هذا الموطن إلا أن يصرِّح بالتحديث.
انظر «إرواء الغليل» (55) للشيخ الألباني رحمه الله.
(3)
أخرجه أحمد (28/ 223)، وأبو داود (28)، والنسائي (238) عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
أخرجه مسلم (281) عن جابر رضي الله عنه.
قال رحمه الله: (وعدمُ الاسْتِقْبَالِ والاسْتِدْبارِ للقبلة)
(الاستقبال) أن تجعل القبلة أمامك عند قضاء الحاجة.
و(الاستدبار) أن تجعلها خلفك.
ورد في ذلك أحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يَسْتَدْبِرْها» (1).
وقال سلمان: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول
…
» (2) الحديث.
وجاء عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» (3).
وجاء عن ابن عمر أنه قال: «لقد ارتقيتُ على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلَ بيتِ المقدسِ لحاجتِهِ» (4).
لهذه الأحاديث اختلف أهل العلم في حكم استقبال البيت واستدباره بغائط أو بول.
وأصح هذه الأقوال والذي فيه العمل بجميع الأدلة، قول الإمام الشافعي والبخاري وابن المنذر والجمهور، وهو التفريق بين الصحاري والبنيان.
فيجوز في البنيان عملاً بحديث ابن عمر وغيره.
ولا يجوز في الصحاري عملاً بحديث أبي أيوب وغيره.
وهذا أولى ممن أعمل بعض الأحاديث وأهمل البعض الآخر، فلا إشكال بأن الأَوْلى هو العمل بجميع الأدلة وعدم إهمال أحدها.
ومن أراد المزيد فليراجع «فتح الباري» للحافظ ابن حجر كتاب الوضوء باب (11) حديث (144).
(1) أخرجه مسلم (265) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (262).
(3)
أخرجه البخاري (144)، ومسلم (264).
(4)
أخرجه البخاري (145)، ومسلم (266).
ثم قال رحمه الله: (وعليه الاسْتِجْمارُ بثلاثةِ أحجارٍ طاهرةٍ أو ما يقومُ مَقامَها)
(الاستجمار) استعمال الجمار - وهي الأحجار - للتنظف من البول والغائط بعد قضاء الحاجة.
جاء في حديث سلمان، قال:«إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بأقلّ من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء برجيع أو عظم» (1).
فيجب التمسّح بثلاثة أحجار وإن حصل الإنقاء بما دونها، فإن لم يحصل، وجب الزيادة حتى يحصل الإنقاء، فإن حصل بشفع، بأربع مثلاً، فيستحبّ أن يزيد الخامسة كي يختم بوتر.
قوله: (أو ما يقوم مقامها) لأن المطلوب هو الإنقاء والتنظف فبأي شيء حصل جاز مثل المناديل الورقية الموجودة اليوم، وإذا استعمل الماء أجزأه.
ولا يجوز برجيع وهو الروث، ولا بالعظم، معروف.
وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الاستنجاء باليمين، ومس الذكر باليمين عند البول (2).
ثم قال رحمه الله: (ويُنْدَبُ الاسْتِعاذَةُ عندَ الشُّرُوعِ، والاستغفارُ والحمدُ بعدَ الفراغِ)
و(يندب): أي يستحب.
والاستعاذة: هي أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» ، كما جاء في الحديث عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثِ والخبائث» (3)، وفي رواية:«كان إذا أراد أن يدخل» (4) متفق عليه.
و(الخُبث والخبائث): ذكران الشياطين وإناثهم.
(1) أخرجه مسلم (262).
(2)
أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (142)، ومسلم (375).
(4)
أخرجها البخاري (142).