الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ المُفلسِ
المفْلِس في الفقه: هو مَنْ دَيْنه أكثر من ماله.
هذا المقصود بالمفلس هنا، والذي جاء في الحديث أنه الذي لا درهم ولا متاع له.
فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ما تعدون المفلس فيكم؟ فقالوا: من لا درهم ولا متاع له (1).
هذا ما يعرفه الصحابة من معنى المفلس.
وأما في عرف الفقهاء وهو الذي نريده هنا: فمَنْ دَيْنه أكثر من ماله.
قال المؤلف رحمه الله: (يَجوزُ لأهلِ الدَّيْنِ أن يَأخذُوا جَميعَ ما يَجدُونَهُ مَعهُ؛ إلَّا ما كان لا يُستغَى عَنه، وهو: المنزلُ، وسَترُ العَورةِ، وما يَقيهِ البَردَ ويَسُدُّ رمَقَهُ ومَن يَعُولُ)
هذا لحديث أبي سعيد عند مسلم قال: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ:«خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» (2).
يعني رجل اشترى ثماراً فضُربت الثمار وخسر ماله، فكثرت عليه الديون بسببها، فطالبه أصحاب المال بمالهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة عليه، ولكن ما جمع له لا يكفي، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما وجدتم من مال عنده فخذوه، وليس لكم عنده أكثر من هذا.
أي ليس لكم بعد ذلك إلا الصبر عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة/280].
(1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1556) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فهذا يدل على أن أهل الدَّيْن يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس ما عدا ما ذكر المؤلف؛ لأنهم إذا أخذوا ما استثناه المؤلف سيؤدي إلى ضرر عظيم على الرجل والضرر مرفوع، فلا يجوز إلحاق الضرر به.
فقال المؤلف: يجوز لأهل الدَّيْن أي لأصحاب الدَّيْن الذين لهم مال ودَيْن على الشخص، أن يأخذوا جميع ما يجدونه مع المفلس؛ إلا ما كان لا يُستغنى عنه (ضروريات الحياة) وهي: المنزل الذي يناسب من هم في حاله، أما إذا كان يعيش في قصر مثلاً أو في بيتٍ فاره؛ يؤخذ منه البيت ويباع ويشترى له بيت متواضع على قدر حاله، وما زاد يقضى به دَيْنه.
وستر العورة وما يقيه البرد: أي ثيابه التي لا بد منها التي تدفع عنه الضرر.
ويسد رمقه: أي ما يكفيه للعيش من الطعام والشراب، ما يكفيه ويكفي من يعول: مَنْ ينفق عليهم هو، فكفايتهم تُترك لهم وما فوق ذلك يأخذه أصحاب الديون.
قال المؤلف رحمه الله: (ومَن وجَدَ مَالَهُ عندَهُ بعينِهِ فهو أَحقُّ بهِ)
صورة المسألة أن يبيع رجلٌ لآخر سيارة مثلاً على أن يدفع له ثمنها، وقبل أن يدفع أفلس مشتري السيارة، فإذا وجد البائع الذي يطالب بثمن السيارة وجد نفس السيارة موجودة عند المفلس فهو أحق بها، يعني له هو أن يستردها وليس لبقية أصحاب الديون أن يأخذوها بل هو أحق بها من غيره.
هذا معنى كلام المؤلف، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ - أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ - فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» (1) متفق عليه.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا نَقصَ مَالُ المُفلِسِ عن الوَفاءِ بجميعِ دَينهِ؛ كانَ المَوجودُ أُسوةَ الغُرمَاءِ)
إذا أفلس الشخص وأرادوا أن يأخذوا ماله كي يقضوا دَيْنه عنه، فقضوا شيئاً ولم يكفِ المال، بقيت عليه ديون أخرى، قال المؤلف: كان الموجود أسوة الغرماء.
(1) أخرجه البخاري (2402)، ومسلم (1559) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
هذا كله الآن ما سبق وهذا؛ في تقديم وتأخير أصحاب الديون، مَنْ يقدَّم ويأخذ ما له من ديون على المَدين قبل الآخر، الآن لا يقدَّم أحد على الآخَر، بما أنه ليس له مالٌ معيَّن عند المفلس فلا يقدَّم على غيره.
أسوة الغرماء: أي الغرماء أصحاب الديون جميعاً متساوون ومتشاركون في المال الموجود، فيقسَّم المال بينهم؛ لحديث أبي سعيد المتقدم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«خذوا ما وجدتم» فلم يعطِ واحداً دون الآخر، ولم يقدِّم أحدهم على الآخر جعلهم جميعاً سواء.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا تبيَّنَ إفلاسُهُ فلا يَجُوزُ حَبسُهُ)
إذا تبيَّن أن الشخص المفلس بالفعل هو مفلس حقيقة لا يكذب ولا يتحايل؛ فلا يجوز حبسه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة/280]، أي إذا كان المديون غير قادر على سداد دينه؛ فأمهلوه واصبروا عليه إلى أن يتمكن من السداد، فهذا أمرٌ بالصبر؛ فلا يجوز حبسه، وحبسه يعتبر ظلماً له.
قال المؤلف: (وَلَيُّ الوَاجِدِ ظُلمٌ يُحِلُّ عِرضَهُ وعُقُوبَتَهُ)
هذا حديث نبوي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيُّ الواجِد يُحلُّ عِرضه وعقوبته» (1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وزيادة ظلم ليست في الحديث.
الواجد: هو الذي يجد قضاءً لدَيْنِه، أي الذي يكون قادراً على قضاء دَيْنه.
لَيُّ الواجد: لَيُّه: بمعنى مماطلته.
يحل عرضه: العِرض: موضع المدح والذم من الإنسان. ويحل عرضه: يبيح ذكره بسوء؛ لمماطلته ولظلمه.
وعقوبته: حبسه حتى يقضيه، فيجوز للحاكم أن يحبسه حتى يقضي دَيْنه.
فلا بد من التفريق بين الواجد وغير الواجد، بين القادر على القضاء وغير القادر على القضاء؛ القادر على القضاء ولا يقضي؛ يحل عرضه وعقوبته، أما غير القادر على القضاء فهذا لا يحل منه شيء والواجب الصبر عليه إلى أن يتمكن من القضاء.
(1) أخرجه أحمد (17946)، وأبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427)
قال المؤلف رحمه الله: (ويَجوزُ للحاكمِ أن يَحجُرَهُ عن التَّصرُّفِ في مَالِهِ ويَبيعَهُ لِقضاءِ دَينهِ وكذلِكَ يَجوزُ له الحَجرُ على المُبذِّرِ ومَنْ لا يُحسِنُ التَّصرُّفَ)
الحَجر هو: منع الإنسان من تصرفه في ماله لسبب شرعي.
وهو قسمان: الأول: حجرٌ لحفظ مال صاحب المال؛ كالحجر على الصغير والسفيه: الذي لا يحسن التصرف، والمبذِّر، والمجنون.
فهؤلاء يمنعون من التصرف في أموالهم خشية أن يضيعوها، وتنفق عليهم وتحفظ لهم.
والقسم الثاني: حجرٌ لإعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم؛ كالحجر على المفلس من أجل رد حق الغرماء.
هذا معنى ما ذكره المؤلف.
فقال: يجوز للحاكم فالحجر عمل الحاكم.
أن يحجره عن التصرف في ماله: يمنع المفلس من التصرف في ماله.
ويبيعه لقضاء دينه: ويبيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه ورد الحقوق إلى أهلها.
فهذا حجرٌ لرد الحقوق إلى أصحابها.
قال: وكذلك يجوز له أي للحاكم الحجر على المبذِّر، المبذر: الذي ينفق المال في غير حقٍّ. ومن لا يحسن التصرف وهو السفيه؛ كالمجنون والصبي الصغير.
دليل الحجر: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء/5 - 6]
وأخرج أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ- أي في رأيه في مصالحه ضعف- فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ،
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ، فَقُلْ: هَاءَ وَهَاءَ، وَلَا خِلَابَةَ» (1).
وثبت عن علي وعثمان أنهما همّا بالحجر على عبد الله بن جعفر.
وكذلك ثبت عن عبد الله بن الزبير أنه قال: والله لتنتهين عائشة أو لأحجُرنّ عليها.
وأما دليل حجر الحاكم على المفلس فقال المؤلف في شرح الدرر: وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه.
وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلاً قال: كان معاذ بن جبل شاباً سخياً وكان لا يمسك شيئاً، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء. قال عبد الحق: المرسل أصح، وقال ابن الطلاع في الأحكام: هو حديث ثابت ..... إلى أن قال: وأما كونه يجوز للحاكم أن يحجر المفلس عن التصرف في ماله؛ فلحجره صلى الله عليه وسلم على معاذ كما تقدم، وكذا بيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه؛ كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال معاذ. انتهى.
والصواب في حديث معاذ الإرسال كما قال عبد الحق فلا يثبت (2). والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يُمكَّنُ اليَتيمُ منَ التَّصرُّفِ في مَالِهِ؛ حتى يُؤنَسَ مِنهُ الرُّشدُ)
للآية المتقدمة التي ذكرناها في اليتيم، حتى نجد منه الرشد وهو العقل وحسن التصرف في المال، حتى نجد منهم الرشد مع البلوغ.
قال المؤلف: (ويَجوزُ لِولِيِّهِ أن يَأكُلَ مِن مَالِهِ بِالمعرُوفِ)
اليتيم من مات أبوه ولم يبلغ.
(1) أخرجه أحمد (13276)، وأبو داود (3501)، والترمذي (1250)، والنسائي (4485)، وابن ماجه (2354)
(2)
ضعفه الألباني في الإرواء (1435).
إذا بلغ لا يسمى يتيماً، إذا كان تحت سن البلوغ وفقد أباه يسمى يتيماً، وأما إذا فقد أمه فلا يسمى يتيماً.
قال المؤلف: ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف اليتيم لا يستطيع أن يقوم على شأنه بنفسه، فالذي يقوم على أمره هو الذي يسمى ولي اليتيم، فهو الذي يتولى أمره وينفق على اليتيم من ماله إن كان له مال، ويحفظ له ماله.
هذا الشخص إذا كان غنياً وجب عليه أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يقربه، وإذا كان فقيراً جاز له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف.
لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء/6]
اختلف العلماء في تفسير كلمة المعروف، وأقرب الأقوال إلى ذلك أن يأكل من ماله ويشرب ويلبس بقدر دفع حاجته من سد الجوع وستر العورة.
وبعض أهل العلم قال: -وهو قول أيضاً قريب من الصواب-قال: يأخذ بقدر أجرة مثله في عمله، مقابل ما قام على مال اليتيم وحفظه له، وربما يكون قد تاجر له فيه، قالوا: يأخذ بقدر أجرة مثله.