الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إما القتل: فله أن يقتله.
وإما أخذ الفداء: يعني أن يفديه بمال، يأخذ مالاً مقابل تركه يرجع إلى أهله.
وإما المن: تركه من غير مقابل: يعني إطلاقه بدون مقابل.
هذا كله فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث وردت في الصحيحين وغيرها، فعلى حسب المصلحة التي يراها الإمام يفعل بهم. والله أعلم
قال المؤلف في شرحه على الدرر: وأما كونه يجوز القتل والفداء والمن؛ فلقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وقوله تعالى:{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأساري، وأخذ الفداء منهم، والمن عليهم، ثبوتاً متواتراً في وقائع.
ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخذ الفداء من غالبهم.
وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له» (1).
وفي مسلم من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقهم، فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] الآية (2).
وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى، فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن .... انتهى مختصراً
فصلٌ
(1) أخرجه البخاري (3139)
(2)
أخرجه مسلم (1808)
قال المؤلف: (ويَجوزُ استِرقَاقُ العَربِ)
ذكرنا الاسترقاق سابقاً، هل العرب خاصة يجوز استرقاقهم أم لا؟ حصل خلاف بين أهل العلم؛ لذلك نصَّ عليه المؤلف هنا، فقال: ويجوز استرقاق العرب، هذا هو الصحيح، لا فرق بين عربي وغير عربي في الرِّقّ، دليل ذلك: أنه لا يوجد دليلٌ يخص العرب عن غيرهم في الرِّقّ، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استرقَّ بعض العرب، في حديث عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمة كانت عنده من بني تميم-عربية-:«اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» (1) متفق عليه.
وفي الصحيحين أن جويرية بنت الحارث من سبي بني المصطلق، وهم من العرب، عن ابن عمر قال: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ» (2). هذه أدلة تدل على جواز استرقاق العرب.
قال المؤلف: (وقَتلُ الجَاسُوسِ)
ويجوز قتل الجاسوس، الصحيح أن الجاسوس يجوز قتله، سواء كان مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً، بما أنه قد تبين بالأدلة والبراهين أنه جاسوس، لا بمجرد الدعاوى، يقتله للإمام.
الإجماع منعقد على جواز قتل الجاسوس الحربي، الحربي: الكافر المحارب.
وفي صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: «أتى النبيَّ عينٌ- جاسوس- وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلبوه واقتلوه» قال سلمة: فسبقتهم إليه فقتلته فنفَّله سَلَبَه (3).
قال النووي رحمه الله: وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي، وهو كذلك بإجماع المسلمين، وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم بطلبه وقتله.
وأما الذمي فينتقض عهده بتجسسه، إذا ثبت أنه جاسوس فعهده الذي بيننا وبينه ينتقض تلقائياً.
وأما المسلم، فدليله حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا» فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ
(1) أخرجه البخاري (2543)، ومسلم (2525)
(2)
أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730)
(3)
أخرجه البخاري (2543)، ومسلم (2525)
الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ » قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ» ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ:«إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1].
المانع الذي منع من قتله -مع أن عمر استأذن في قتله- هو أنه من أهل بدر، وهذا المانع غير موجود في غير حاطب بن أبي بلتعة، فإذا انتفى المانع بقي حكم القتل فجاز قتله.
فهذا هو الصحيح، العلماء الذين أفتوا بقتله، قالوا: يقتل تعزيراً لا ردة، وفرق بين الأمرين.
وبعض أهل العلم قال: لا يقتل أصلاً، يعزَّر بالسجن أو الجلد أو غير ذلك، لكن لا يقتل.
فالفقهاء على أنه لا يكفر، وهذا من الإعانة من إعانة الكفار على المسلمين، عند التكفيريين الخوارج هو من الموالاة! فيكفِّرونه بهذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطباً، ولو كان هذا كفراً لأذن بقتله، ولا يمنع كونه من أهل بدر من تكفيره وقتله؛ لان الله تبارك وتعالى قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/48](1)
كونه لم يكفر دل على أن التجسس للكفار على المسلمين، إذا كان لأمر دنيوي لا لأمرٍ ديني؛ لا يكون هذا الفعل كفراً، حاطب عندما فعله لم يفعله ردة، ولا فعله بغضاً للإسلام، ولا حباً لظهور الكفار على المسلمين، ولكن لأمر دنيوي؛ كي يحمي أهله الذين في قريش.
فمن فعل ذلك لأجل هذا الغرض لا يكفر، ولكن يكفر من فعله بغضاً للإسلام أو حباً لأن يظهر الكفار على المسلمين يكفر عندها.
هذا هو التفصيل في مسألة من قاتل مع الكفار أو أعانهم بتجسس أو غيره.
(1) أخرجه البخاري (4890)، ومسلم (2494)
لكن هل يُقتل؟ نعم يُقتل سواء كان في جيشهم أو كان جاسوساً لهم أو غير ذلك، يقتل، هذا أقل ما يستحقه، أن يُقتَل يُعزَّر على فعله ذلك.
قال النووي رحمه الله: وأما الجاسوس المعاهد والذمي، فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله. وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.
وأما الجاسوس المسلم؛ فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله. وقال مالك رحمه الله تعالى: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد. وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه: يقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، قال الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر. انتهى
قال المؤلف رحمه الله: (وإِذَا أَسلمَ الحَربِيُّ قَبلَ القُدرةِ عَليهِ أَحرزَ أَموالَهُ)
الحربي: هو الكافر من أهل الحرب، ليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا أمان ولا ذمة.
هذا الحربي إذا أسلم قبل أن يقدر عليه المسلمون، يكون قد أحرز ماله، أي حفظ ماله، فلا يجوز أخذ ماله؛ لأنه صار محرماً بإسلامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه.
قال المؤلف: (وإذا أَسلَمَ عَبدُ الكَافِرِ صَارَ حُرّاً)
إذا كان عند الكافر عبد، رقيق، وأسلم هذا العبد، تلقائياً يصير حراً، ويخرج من الرق؛ لمِا أخرجه أبو داود من حديث علي قال: خرج عَبدَان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني يوم الحديبية قبل الصلح- فكتب إليه مواليهم- أسيادهم، مُلاكّهم - فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق- أرادوا أن يتخلصوا من العبودية فقط، لا رغبة الإسلام- فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله رُدَّهم إليهم - ناس ممن مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: صدقوا فيما قالوا- فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ما أُراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا» ، وأبى أن يردهم، وقال:«هم عتقاء الله عز وجل» (1).
(1) أخرجه أبو داود (2700)
قال المؤلف رحمه الله: (والأَرضُ المَغنُومَةُ أَمرُهَا إلى الإِمامِ؛ فَيفعلُ الأَصلَحَ، مِن: قِسمتِهَا، أو تَركِهَا مُشترَكةً بينَ الغَانِمينَ، أو بينَ جَميعِ المُسلِمينَ)
انتهينا من الأموال ومن الأنفس، دخل الآن على الأرض، إذا فتحت بلاد فأرضها غنيمة، للإمام أحد خيارات ثلاثة فيها: إما أن يقسمها بين الغانمين وهم الجيش، يقسمها كقسمة الغنيمة.
أو يتركها مشتركة بين الغانمين، يعني من غير تقسيم يكون الغانمون كلهم شركاء في الأرض.
أو تكون لجميع المسلمين، فرَيْعها وخَراجها، ما يخرج منها وغلتها؛ يستفيد منه جميع المسلمين، إن تركها لجميع المسلمين، أو يستفيد منه الغانمين إن تركها فقط للغانمين.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين، وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس.
ورد عن بُشير بن يَسار مولى الأنصار، عن رجالٍ مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظَهَر على خيبر؛ قسَّمها على ستة وثلاثين سهماً، جمَع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وعزَل النصف الباقي لمن نَزَل به من الوفود والأمور ونوائب النّاس (1).
وفي رواية مِن حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: قَسَم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسَمَها بينهم على ثمانيةَ عشَرَ سهماً (2).
وترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركاً بين جميع المسلمين، يقسمون خراجها بينهم، وبهذا قال جمهور علماء الإسلام وهو عمل الخلفاء الراشدين.
قال المؤلف: (ومَنْ أَمَّنَهُ أَحدُ المُسلمينَ صارَ آمِناً)
يعني إذا أمَّن أحد المسلمين أحداً من الكفار، صار هذا الكافر آمناً، لا يجوز قتله ولا أخذ ماله؛ لأنه صار آمناً بتأمين أحد المسلمين له.
(1) أخرجه أحمد (16417)، وأبو داود (3012)
(2)
أخرجه أبو داود (3010)
والدليل على أن أي أحد من المسلمين إذا كان عاقلاً بالغاً يصح أمانه؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (1). أخرجه أبو داود
يسعى بذمتهم أدناهم، يعني يسعى بعهدهم أدناهم أقلهم، فلا فرق بين أن يكون الشخص من سادات المسلمين أو من رجالهم أو من نسائهم أو من ضعفائهم؛ كله واحد.
هذا يقيَّد بالبالغ العاقل بالاتفاق، يعني الصغير الطفل هذا لا يصلح أن يعطي الأمان، وكذلك المجنون، هذا محل اتفاق.
كان رجلاً أو امرأة، أو كان حراً أو عبداً؛ جاز أمانه؛ لعموم الحديث، أخرجنا فقط الصغير الذي لم يبلغ، والمجنون الذي لا عقل له؛ لانعقاد الإجماع على إخراجهم.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (والرَّسولُ كَالمُؤَمَّنِ)
أي مجرد أنه رسول جاء برسالة فهو آمن، حاله حال المؤمَّن؛ كأن أحداً من المسلمين أعطاه الأمان؛ لحديث ابن مسعود عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرسولَيْ مسيلمة:«لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما» ، وفي رواية:«والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما» (2).
هذا يدل على أن الرسول كأنه مؤمَّن، لا فرق بينه وبين المؤمَّن.
قال المؤلف: (وتَجوزُ مُهادَنةُ الكُفارِ ولو بِشَرطٍ، وإلى أَجلٍ أَكثَرُهُ عَشرُ سِنينَ، ويَجوزُ تَأبيدُ المُهادَنَةِ بِالجِزيَةِ)
المهادنة: المصالحة، وليست المداهنة، بينهما فرق، المهادنة غير المداهنة.
المداهنة: ترك إنكار المنكر إجلالاً لصاحبه وتقرباً منه. هذه المداهنة، ليست موضوعنا، ذكرناها ليحصل التفريق، ويزول اللبس.
ترْك إنكار المنكر إجلالاً لصاحبه وتقرباً منه، هذه المداهنة.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (3708)، وأبو داود (2762)
أما المهادنة فهي المصالحة، مصالحة الإمام أو نائبه الكفار على ترك القتال مدة من الزمن، يعني الإمام أو نائب الإمام له أن يعقد عقد صلحٍ مع الكفار، على ترك القتال بينهم مدة من الزمن.
يفعلها الإمام إذا رأى أن المصلحة للإسلام والمسلمين فيها، ولو اشترط الكفار عليه شروطاً. هذا معنى كلام المؤلف:
وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرطٍ، وإلى أجلٍ أكثره عشر سنين، ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية. يعني عقد الصلح من الإمام مع الكفار على ترك القتال جائز، على كلام المؤلف لا يجوز أن يخرج عن عشر سنين، وإذا اشترط الكفار شروطاً أيضاً يجوز عقد الصلح معهم، ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية، يعني جَعْل الصلح بينهم وبين المسلمين مؤبَّداً لا وقت انتهاء له، يجوز هذا، ولكن بشرط أن يدفعوا الجزية للمسلمين.
هذا معنى كلام المؤلف.
أدلة ذلك حديث صلح الحديبية مشهور ومعروف، عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً مع كفار قريش، مدة العقد كانت عشر سنين، هذا الحديث في الصحيحين، اشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَنْ جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاء منا رددتموه علينا (1).
هذا كله موجود في الصحيح. فهذا يدل على جواز الصلح، حتى لو كان بشرطٍ من الكفار على المسلمين، وفيه أن مدة الصلح عشر سنين.
لكن لا نسلِّم للمؤلف بأن المدة يجب أن تكون عشر سنين؛ لأنه لا يوجد دليل على حصر المدة بعشر سنين، هم يستدلون بأن الأصل قتال الكفار؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بقتالهم، ولا يجوز الصلح إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح لمدة عشر سنين، فدل ذلك على الجواز إلى هذه المدة،
فلا يجوز الخروج عن هذه المدة.
ولكن لا يوجد ما يدل على حصر المدة بعشر سنين، ووقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على أن الأكثر غير جائز كما لا يخفى، والذي يظهر أن المسألة متعلقة بالمصلحة التي جاز الصلح لأجلها، فإذا كان بالمسلمين ضعف كحالنا اليوم؛ جاز الصلح على أكثر من عشر
(1) أخرجه البخاري (2731)، وأما ذكر عدد السنين فهو عند أحمد (18910)، وأبي داود (2766).
سنين، بشرط أن يكون المعتبر المصلحة، ولا يكون في ذلك تحايلاً لإبطال فرض الجهاد وطلب العدو؛ لأننا مأمورون بقتال الكفار، فلا يجوز تركه والمصالحة إلا للمصلحة فقط.
قال ابن قدامة في المغني: فصل: ومعنى الهدنة، أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض.
وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز، بدليل قول الله تعالى:{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} [التوبة: 1]. وقال سبحانه وتعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال: 61].
وروى مروان، ومسور بن مخرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح، سهيل بن عمرو بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين.
ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين؛ إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح.
إذا ثبت هذا، فإنه لا تجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية. انتهى. والله أعلم
وأما قوله: ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية، أي يجوز أن نجعل المصالحة دائمة، بشرط أن يدفعوا لنا الجزية؛ لأن الله أمر بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، كما قال في كتابه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة/29] تدل هذه الآية على أن القتال يجب أن يستمر إلى أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فغايته التي ينتهي إليها القتال؛ إعطاء الجزية.
وتقدم في الأحاديث الصحيحة أيضاً أن المشركين يُدعون إلى أحد ثلاث: فإن قبلوا بالإسلام يُترك القتال، وإذا لم يقبلوا عُرضت عليهم الجزية، فإن قبلوا تُرك القتال، وإلا قوتلوا كما تقدم معنا في الحديث الذي في صحيح مسلم.
والجزية: قدرٌ من المال يؤخذ ممن دخل في ذمة المسلمين وعهدهم من الكفار وتقدم بيانها.
أما قدرها فيرجع إلى ولي الأمر، هو يقدرها بحسب المصلحة.
هذا أصح الأقوال فيها، وهو الذي رجحه بعض المحققين من أهل العلم.
وتؤخذ من المقاتِلة، أي الذين يقاتلون، لا تؤخذ من النساء والأطفال والعبيد؛ لأنهم لا يقاتلون، ولا تؤخذ من فقير لا يقدر عليها.
وهؤلاء الذين تؤخذ منهم الجزية يسمون أهل ذمَّة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُمنَعُ المُشرِكُونَ وأَهلُ الذِمَّةِ مِنَ السُّكُونِ مِن جَزيرةِ العَرَبِ)
كذا قال: السكون من جزيرة العرب، واعترض الشيخ أحمد شاكر على هذا التعبير، قال: لا يصح أن يقال: السكون من جزيرة العرب، الصواب أن يقال: السكون في جزيرة العرب.
المراد بالسكون: السكن، يعني يُمنع المشركون وأهل الذمة من السكن في جزيرة العرب، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته عند موته، «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (1) متفق عليه.
وقال: «لأُخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً» (2) أخرجه مسلم.
ولكن اختلف أهل العلم في المكان الذي يجب أن يُخرجوا منه، هل هو الجزيرة كاملة من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ومن المحيط إلى العراق والشام؟ أم المقصود الحجاز فقط؟ وهي: مكة والمدينة والطائف وما حولها.
حصل خلاف بين أهل العلم في ذلك، والذي ذهب إليه الجمهور هو الصواب، وهو أن الحجاز فقط لا جميع الجزيرة؛ لأن عمر رضي الله عنه عندما عمل بهذا الحديث أخرجهم من الحجاز خاصة، عندما أخرجهم أخرجهم إلى تيماء وأخرجهم إلى أريحاء، أريحاء بالشام، لكن تيماء من ضمن الجزيرة الكاملة الكبيرة، فلما أخرجهم عمر إلى تيماء، دل ذلك على أنهم لم يفهموا من الجزيرة المعنى العام، إنما فهموا من ذلك الحجاز، وهذا الذي ذهبوا إليه هو مذهب جمهور العلماء، كما ذكر الحافظ في الفتح.
قال ابن قدامة: وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن. قاله سعيد بن عبد العزيز. وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولاً، ومن تِهامَة وما وراءها
(1) أخرجه البخاري (3168)، ومسلم (1637)
(2)
أخرجه مسلم (1767)