الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلى تعليق القلوب بأصحابها، مثل هذا كله لا يجوز، بل هو ذريعة إلى الشرك، ومن وقف شيئاً في ذلك فهو وقف باطل غير معتبر.
قال أهل العلم: الوقف على القبور غير صحيح؛ لأن من شرط صحة الوقف أن يكون على جهة بر وقربة، والغلو في القبور والبناء عليها وإقامة الزيارات والحفلات عندها؛ من البدع المنهي عنها؛ بل هو من وسائل الشرك المحرمة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن الغلو في القبور والبناء عليها واتخاذها أعياداً، فعلى هذا يتعين المنع من إقامة الحفلات عندها ومن ترميمها والبناء عليها. وأما صرف الريع لعمل بر أجدى مما ذكر: كبناية المساجد، وتفطير الصوام، ونحو ذلك؛ فهذا حسن. والله الموفق.
بابُ الهَدَايا
الهدايا جمع هدِيَّة، والهدِيَّة: ما مَلَّكته لغيرك في الحياة بغير عِوَض للتحبُّب.
وبينها وبين الهِبة والعَطِيَّة والصدقة فرْقٌ.
هذه المذكورات كل منها تمليك بلا عوض؛ الهدية أو الهبة أو العطية أو الصدقة، كلها تمليك مال بلا عوض، فهي تجتمع في هذا المعنى؛ إلا أن التمليك إذا كان لثواب الآخرة يعطى للمحتاج؛ كان صدقة.
وإذا كان التمليك للتحبُّب والإلف والتودد؛ فهدية.
والعطية شاملة للجميع.
والهبة: قال بعض أهل العلم: هي والعطية بمعنى واحد فتشمل الهدية وغيرها.
قال ابن قدامة في المغني: وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية؛ معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض.
واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة.
والصدقة والهدية متغايران؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تُصدِّق به على بريرة:«هو عليها صدقة، ولنا هدية» .
فالظاهر أن من أعطى شيئاً ينوي به التقرب إلى الله تعالى للمحتاج، فهو صدقة.
ومن دفع إلى إنسان شيئاً للتقرب إليه، والمحبة له، فهو هدية.
وجميع ذلك مندوب إليه، ومحثوث عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تهادوا تحابوا» .
وأما الصدقة؛ فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره
…
انتهى.
قال المؤلف رحمه الله: (يُشرعُ قَبُولُهَا ومُكافَأَةُ فاعِلِها)
قبول الهدية مشروع أي مستحب، يشرع قبولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلها، ورَدَ في ذلك أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، منها حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بلحم تُصُدِّق به على بريرة، فقال:«هو عليها صدقة وهو لنا هدية» (1).
ومنها: حديث عائشة: أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة؛ يبتغون بها مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، وبوب الإمام البخاري في صحيحه: باب قبول الهدية، في كتاب الهبة، وساق عدة أحاديث في ذلك منها ما ذكرناه.
وأما استحباب المكافأة عليها؛ فلِما أخرجه البخاري من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها (3).
قال المؤلف رحمه الله: (وتَجوزُ بينَ المُسلمِ والكافِرِ)
تجوزالهدية بين المسلم والكافر، أي يجوز لك أن تعطي كافراً هدية، وأن تقبل هدية الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايا الكفار، وأهدى لهم.
بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الهدية للمشركين، وذكر حديث إهداء عمر حُلةً لأخٍ له من أهل مكة قبل أن يسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وذكر حديث أسماء بنت أبي بكر في صلة أمها الكافرة، أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في صلتها (5).
(1) أخرجه البخاري (2577)، مسلم (1074).
(2)
أخرجه البخاري (1574)، مسلم (2441).
(3)
أخرجه البخاري (2585)، مسلم (1333).
(4)
أخرجه البخاري (2619)، مسلم (2068).
(5)
أخرجه البخاري (2620)، مسلم (1003).
وبدأ الباب بذكر الآية التي نزلت بسبب قصة أسماء: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
وبوَّب أيضاً رحمه الله: باب قبول الهدية من المشركين، وعلق مجموعة من الأحاديث التي تدل على جواز قبول الهدية من المشرك، ووصل حديث أنس، قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جُبَّة سندسٍ -السندس نوع من أنواع الحرير- وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها -أي من حسنها وجمالها - فقال صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» .
وفي رواية في الصحيحين: قال: «إنّ أُكَيْدِرَ دُوْمَة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم .... الحديث» (1).
وأكيدر دومة، هو: ملك دُومة، اسمه أكيدر، كان كافراً، أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم وقبل منه صلى الله عليه وسلم الهدية.
وذكر البخاري رحمه الله موصولاً حديث اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةً مسمومة فأكل منها صلى الله عليه وسلم (2).
هذا يدل على جواز أكل طعام أهل الكتاب الكفار، وعلى جواز قبول الهدية منهم.
وليس هذا من الموالاة الكفرية كما يزعم الخوارج، فتنبهوا حفظكم الله، انظروا أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاله لأسماء، هذا يدل على أن المولاة الكفرية والمحرمة لا تحصل بمثل هذا الفعل، فليست كل معاملة مع الكفار محرمة أو كفرية، يجب على المسلم التفقه في دينه، حتى يعلم ما يجوز وما لا يجوز من معاملتهم، وما يعد من الموالاة الكفرية وما لا يعد من ذلك، محل تفصيل ذلك أبواب الردة. والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويَحرُمُ الرُّجوعُ فيها)
يعني إذا أهديت شخصاً هدية وقبضها، أي أخذها منك؛ فلا يجوز لك أن تستعيدها منه؛ لأنها داخلة في الهبة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:«العائد في هبته كالكلب يَقِيء ثم يعود في قَيئِه» (3). متفق عليه.
(1) أخرجه البخاري (2615 و 2616)، مسلم (2469).
(2)
أخرجه البخاري (2617)، مسلم (2190).
(3)
أخرجه البخاري (2589)، مسلم (1622).
هذا المثل ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة؛ ففي رواية: «ليس لنا مثل السوء» (1).
إلا الوالد فيما أعطى ولده كما سيأتي إن شاء الله.
وكذلك الصدقة؛ فقد خصت بالذكر في رواية أخرى: «العائد في صدقته .. الحديث» (2).
لكن هذا الحكم بعد قبضها، أي إذا نويت أن تهدي شخصاً هدية، وتراجعت عن ذلك؛ فلك أن تتراجع قبل أن يأخذها منك، إذا لم يستلمها؛ فلك أن تتراجع، لكن إذا قبضها منك؛ فلا يجوز لك أن ترجع. والله أعلم.
قال المؤلف: (وتَجبُ التَّسويةُ بينَ الأولاد)
يجب أن تساوي بين الأولاد في الهبة والعطية والهدية؛ لحديث النعمان بن بشير في الصحيحين: أنّ إباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَكُلَّ وَلدِكَ نحلته مثل هذا؟ » فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فارجعه» (3). متفق عليه.
والولد في اللغة يطلق على الذكر والأنثى.
وفي رواية أخرى قال: «فلا تشهدني على جَوْر» (4)، وفي رواية أخرى:«أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ » قال: بلى ، قال:«فلا إذاً» (5).
النعمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يشهده على ما فعله، وهو أنه أعطى أحد أولاده عبداً يكون ملكاً له دون بقية أولاده.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم هل أعطيت أولادك جميعاً مثل ما أعطيت هذا؟ فقال: لا، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهد على ذلك، وبين السبب، وهو أن فعله ظلم لبقية أولاده، فكما يحب أن يكونوا جميعاً بارِّين به، كذلك فليكن عادلاً معهم ويساوي بينهم في العطية، ولا يُفرِّق بين الذكر والأنثى ولا بين الصغير والكبير، إلا بالبر، فإذا كان أحدهم أكثر برّاً به؛ فله أن يفضله على البقية بالعطية، هذا المعنى أُخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم له:«أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ » .
(1) أخرجه البخاري (2622).
(2)
أخرجه البخاري (1490)، مسلم (1620).
(3)
أخرجه البخاري (2586)، مسلم (1623).
(4)
أخرجه البخاري (2650)، مسلم (1623).
(5)
أخرجها مسلم (1623).
أي كما أنك تحب أن يكونوا جميعاً بارِّين بك بنفس الدرجة؛ كذلك أنت يجب أن تكون عادلاً ومساوياً بينهم من غير تفريق بينهم.
فهذا يدل على وجوب التسوية بين الأولاد في الهبة والهدية، والتسوية تكون بين الذكور والإناث لا كقسمة الميراث، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالتسوية بينهم، فقال له:«أَكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ » ، والولد يشمل الذكور والإناث.
وأخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث أن للأب أن يرجع في هبته لابنه خاصة.
تقدم أنه لا يجوز الرجوع في الهبة، لكن أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث أنه يجوز للأب أن يرجع في هبته التي أعطاها لابنه، من قول النبي صلى الله عليه وسلم له:«فارجعه» ، فأرجَعه بعد أن أعطاه لابنه.
لكن هذا الاستدلال يمكن المنازعة فيه؛ لأنه ربما يكون النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالإرجاع لأنها عطية باطلة.
ولكن ما يصح الاستدلال به لهذا القول؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» (1) الاستثناء الأخير هوالذي يدل على أن الوالد له أن يرجع في هبته لابنه.
وهل الأم كالأب؟ اختلف أهل العلم في ذلك، فبعضهم قال: هي مثله لها أن ترجع في هبتها لابنها؛ لأنها داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إلا الوالد فيما يعطي ولده» ، والبعض قال: لا، الوالد غير الوالدة، ولكن قال الآخرون بأنها تلحق بالوالد بالمعنى؛ لأن الوالد له حق في مال الولد فلذلك جاز له أن يرجع في هبته، وكذلك الوالدة لها حق في مال ولدها فيجوز لها أن ترجع في هبتها، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله أنها تلحق بالوالد، فالخلاصة للوالد والوالدة الرجوع في هبتهما لأولادهما فقط. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (والرَّدُّ لغيرِ مَانعٍ شَرعيٍ مَكروه)
الرد أي رد الهدية إذا أهداك شخص هدية، فردُّها عليه مكروه لغير مانعٍ شرعي، فإذا وُجد المانع الشرعي جاز لك أن تردها، وربما وجب؛ كأن يهديك شخص هدية وأنت في عمل
(1) أخرجه البخاري (1490)، مسلم (1620).