الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء، وتأولوا الحديث لكونه ورد على خلاف القياس من وجهين: أحدهما: التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه، والثاني: تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها.
ويدل على نسخه حديث ابن عمر: «لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه» ، رواه البخاري. انتهى.
وقوله: ولا يَغلَق الرهنُ بما فيه، معنى هذا: أنه لا يستحق الذي أخذ الرهنَ أن يأخذ الرهن كاملاً ويتملكه في حال عدم دفع صاحبه الدين في الوقت المحدد، مع أنه أغلى ثمناً من الدين، بل لو جاء بالدين بعد الوقت المحدد يرد له ماله، وإذا بيع ترد له الزيادة. هذا المعنى صحيح، ورد فيه حديث ضعيف:«لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» (1).
قال الإمام مالك رحمه الله: وتفسير ذلك فيما نرى- والله أعلم-: أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء، وفي الرهن فضل عما رهن به، فيقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك إلى أجل يسميه له، وإلا فالرهن لك بما رهن فيه، قال: فهذا لا يصلح ولا يحل، وهذا الذي نهي عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل؛ فهو له، وأرى هذا الشرط منفسخًا.
بابُ الوَدِيْعَةِ والعَارِيَّة
الوديعة، هي: أمانة تُركت عند الغير للحفظ قصداً. وهي التي يسميها الناس اليوم: أمانة.
والعاريَّة- بتشديد الياء، وتخفيفها- هي: تمليك منفعةٍ بلا بدل. يسميها الناس اليوم: استعارة.
التمليكات أربعة أنواع:
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 728)، عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وابن ماجه في سننه (2441) عن أبي هريرة موصولاً، وصوب الدارقطني وغيره المرسل.
1 -
تمليك العين بِعِوَضٍ: هذا بَيْع.
2 -
تمليك العين بلا عِوَضٍ: هذا هبة.
3 -
تمليك منفعةٍ بِعوَضٍ: إيجارة.
4 -
تمليك منفعة بلا عوضٍ: عاريَّة.
فالفرق بين الوديعة والعاريّة: أن الوديعة أمانة تُركت للحفظ فقط، فلا يجوز الانتفاع بها دون إذن صاحبها.
والعاريَّة تُركت للحفظ والانتفاع معاً، فينتفع بها وتبقى عينها يردها لصاحبها. هذا الفرق بينهما.
قال المؤلف: (تجبُ على الوَديعِ والمُستَعيرِ؛ تأدِيةُ الأمانةِ إلى مَن ائتَمَنهُ، ولا يَخُنْ مَن خانَه)
يريد المؤلف بالوديع مَن وُضعت عنده الوديعة أي الأمانة.
قال الشيخ أحمد شاكر: لم أجد وجهاً لاستعمال هذا الحرف في المعنى المراد هنا. انتهى
فالوديع في اللغة هو: الرجل الساكن الهادئ.
والمستعير: الذي أخذ الشيء استعارةً لينتفع به ويرده، فيكون الشيء عنده عاريَّة.
فمن أخذ الشيء عاريّة أو وديعة؛ وجب عليه رده إلى صاحبه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
هذا لفظ عام يدخل فيه: قضاء الدَّين، وردّ حقوق الناس إليهم، ومن ذلك رد العارية والوديعة، وكذلك حق الله على عباده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُن من خانك» (2)، وهو حديث ضعيف.
(1) أخرجه البخاري (2682)، ومسلم (59).
(2)
أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروي من طرق أخرى، قال الإمام أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح، وقال أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه: منكر، وقال ابن الجوزي: إن هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح. انظر البدر المنير (7/ 297).
فتأدية الأمانة واجبة، وتحرم خيانتها، وأما استرداد حقك ممن خانك؛ فهذا ليس بخيانة.
بعض أهل العلم يقول: إذا خانك شخص وأخذ مالك بغير وجه حق، وقدرت على مال له ائتمنك عليه؛ لا يجوز لك أن تأخذ حقك منه، ويستدلون بهذا الحديث، وقد علمت أنه ضعيف، ومخالف لحديث هند بنت عتبة الذي في الصحيحين: قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، ولا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ؛ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خذي من ماله بالمعروف ما يكفيكِ بنيك» (1).
ائتمنها أبو سفيان على ماله فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ حقها وحق أولادها؛ فلم تكن هذه خيانة.
وكذلك استدل السلف بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]. بوَّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه كتاب المظالم والغصب؛ باباً يشمل هذه المسألة، وأورد هذه الآية من كلام ابن سيرين رحمه الله.
وقال الترمذي بعد تخريجه لحديث: لا تخن من خانك: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: إذا كان للرجل على آخر شيء، فذهب به، فوقع له عنده شيء، فليس له أن يحبس عنه بقدر ما ذهب له عليه.
ورخص فيه بعض أهل العلم من التابعين، وهو قول الثوري، وقال: إن كان له عليه دراهم فوقع له عنده دنانير؛ فليس له أن يحبس بمكان دراهمه؛ إلا أن يقع عنده له دراهم؛ فله حينئذ أن يحبس من دراهمه بقدر ما له عليه. انتهى. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (ولا ضَمانَ عليه إذا تَلِفَت بِدونِ جِنَايتهِ وخِيانتِهِ)
الذي وُضعت عنده الوديعة أو الذي استعار العاريَّة إذا تلفت الوديعة أو العارية: سُرقت أو فسدت أو غير ذلك، يقول المؤلف: لا ضمان عليه، بشرط أن لا يكون تلفها من جنايته أو من خيانته للأمانة، إذا تعمد كسرها مثلاً؛ يضمن؛ لأنه هو الذي جنى على العاريَّة أو على الأمانة.
أو خان فيها ولم يكن أميناً عليها، فهنا يضمن.
(1) أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
أما إذا لم تكن منه خيانة ولا جناية؛ فلا يضمن.
من وضعت الوديعة عنده يضمن بالجناية فقط، نقلوا الاتفاق على ذلك.
واختلفوا في المستعير، الجمهور على أنه يضمن إلا إذا كان تلفاً على وجه مأذون فيه من صاحب العارية.
وسبق أن قلنا: الذي يده يد أمانة لا يضمن إلا إذا حصل منه تعدٍ أو تفريط.
قال المؤلف في شرحه: وأما كونه لا ضمان إذا تلفت العين المستعارة والمستودعة؛ فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضمان على مؤتمن» . أخرجه الدارقطني، وفي إسناده ضعف.
وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن إلا لجناية على العين؛ لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ «ليس على المستعير غيرِ المُغِلّ ضمان، ولا المستودع غيرِ المُغل ضمان» .
والمُغِل: هو الخائن، والجاني خائن.
وأما المستعير فقد ذهب إلى أنه لا يضمن إلا لجناية أو خيانة؛ العترة والحنفية والمالكية، وحكى في الفتح عن الجمهور أن المستعير يضمنها إذا تلفت في يده إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه؛ من حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . وفي سماع الحسن من سمرة مقال مشهور.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث صفوان بن أمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعاً، فقال: أغصباً يا محمد قال: «بل عارية مضمونة» . انتهى كلام المؤلف، والأحاديث التي ذكرها هنا كلها ضعيفة لا يصح منها شيء.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوزُ مَنعُ المَاعُونِ؛ كالدَّلوِ والقِدرِ، وإِطراقِ الفَحلِ، وحَلبِ المَوَاشِي - لِمَن يحتاجُ ذلك-، والحَمْلِ عليها في سَبيلِ الله)
الماعون: متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم؛ كالفأس، والقدر، والدلو، والكأس، وما شابه من الأشياء التي اعتاد الناس على أن يستعيرها بعضهم من بعض.
لا يجوز منع الماعون؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، فذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك.
وإطراق الفحل وحلب المواشي
…
إلخ، دليله ما أخرجه مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي حقها إلا أُقعِد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقرٍ، تَطَؤُه ذات الظِّلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جَمَّاء ولا مَكسُورة القرن» قلنا: يارسول الله! وما حقها؟ قال: «إِطراقُ فَحلِها، وإِعارةُ دَلوِها، ومَنِيحَتُها، وحَلَبُها على الماء، وحَملٌ عليها في سبيل الله
…
» (1).
إطراق الفحل: إذا أراد شخص منك فحلاً حصاناً أو جملاً، عنده أنثى ويريد الذكر كي يطرق الأنثى؛ فلا يجوز لك أن تمنعه ذلك.
وإعارة دلوها: أي: من حقوق الماشية أن يعير صاحبها الدلو الذي يسقيها به، إذا طلبه منه من يحتاج إليه.
ومنيحتها: أن يعطي الشاة أو الناقة للمحتاج لينتفع بحلبها ثم يردها.
وحلبها على الماء: أي تحلب وهي تشرب على الماء، ويُعطى من الحليب من يحتاج.
والحمل عليها في سبيل الله: يبذلها المالك لمن أراد أن يستعيرها لينتفع بها في الغزو في سبيل الله.
اختلف العلماء في وجوب المذكورات هنا، ذهب الجمهور إلى عدم الوجوب بعد فرض الزكاة، وقالوا: الحديث منسوخ بالزكاة، أو تأولوه، والصحيح قول من قال: يحتمل أن يكون هذا الحق فى موضع تتعين فيه المواساة. والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وفيه: أن في المال حقاً سوى الزكاة.
وأجاب العلماء عنه بجوابين:
أحدهما: أن هذا الوعيد كان قبل فرض الزكاة، ويؤيده ما سيأتي من حديث ابن عمر في الكنز، لكن يعكر عليه أن فرض الزكاة متقدم على إسلام أبي هريرة، كما تقدم تقريره.
ثاني الأجوبة: أن المراد بالحق القدر الزائد على الواجب، ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطراداً، لَمّا ذكر حقها؛ بيّن الكمالَ فيه، وإن كان له أصل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة.
(1) أخرجه مسلم (988).