الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الوَصِيَّةِ
الوصية مأخوذة من وَصَيْتُ الشيء بالشيء وصلته؛ لأنه وصل ما كان في حياته بما بعده. هذا أصلها اللغوي.
واصطلاحاً: تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت.
كأن تقول سيارتي بعد موتي لفلان.
قال المؤلف رحمه الله: (تَجِبُ على مَن لهُ ما يُوصِي فيه)
فالوصية واجبة فقط على من له ما يوصي به من حقوق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه؛ إلا ووصيته مكتوبة عنده» (1) متفق عليه.
فهذا الحديث يدل على أن من له شيء يريد أن يوصي فيه وجبت عليه الوصية في ذلك.
قال النووي رحمه الله عند شرح الحديث المذكور: فيه الحثُّ على الوصية، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها، لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة، وقال داود وغيره من أهل الظاهر هي واجبة لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه فليس فيه تصريح بإيجابها، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها؛ لزمه الإيصاء بذلك.
قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، ويستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحته، ويشهد عليه فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها. انتهى كلام الشافعي.
قال النووي: قالوا: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزيئات الأمور المتكررة.
قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم ووصيته مكتوبة عنده فمعناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة، بل لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا يكفي الكتاب من غير إشهاد لظاهر الحديث. والله أعلم
ثم قال المؤلف رحمه الله: ولا تَصِحُّ: ضِراراً)
إذا كانت الوصية للإضرار بالغير فلا تصح؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن
(1) أخرجه البخاري (2738)، ومسلم (1627).
الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيُضارّان في الوصية؛ فتجب لهما النار». ثم قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ} [النساء/12] إلى قوله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1). أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف فيه شهر بن حوشب لا يحتج به لسوء حفظه.
وفي الآية المذكورة دليل على المراد.
وصح عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر (2).
قال الشوكاني: وقد روى جماعة من الإئمة الإجماع على بطلان وصية الإضرار.
إذن الوصية إذا كُتبت للإضرار بالورثة فهي باطلة؛ كمن يوصي مثلاً بماله للفقراء أو لجمعية خيرية، أو يوقف ماله كله عند الموت؛ للإضرار بالورثة، فمثل هذه الوصية تعتبر باطلة؛ لأنها وصية إضرار، وهذا محل إجماع كما نقل.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا لِوارِثٍ)
أي الوصية كذلك لا تصح لوارث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» (3) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما.
فإذا كان الشخص من الورثة فلا تصح الوصية له، نقل ابن المنذر وغيره الإجماع عليه.
فإذا كان الوالدان مثلاً لا يرثان فالوصية جائزة لهما بالإجماع.
لكن إذا كانا من الورثة ولهما إرث فهنا لا تجوز الوصية لهما.
فمَنْ كان من الورثة له نصيب في الإرث فلا تجوز الوصية له، ومن لم يكن له نصيب في الإرث فتجوز الوصية له للحديث الذي ذكرناه، والإجماع.
قال ابن المنذر رحمه الله في الإجماع: وأجمعوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك.
وأجمعوا أن الوصية لوالدين لا يرثان المرء، والأقرباء الذين لا يرثون؛ جائزة.
وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن الوصية لوارث لا تجوز.
قال المؤلف: (ولا في مَعصيةٍ)
كذلك لا تصح الوصية في معصية؛ لأن الوصية بالمعصية معصية، وقد نهى الله عباده عن معاصيته في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تجوز الوصية بالمعصية، كالوصية بالبناء على القبور أوبناء كنيسة، أو شراء الخمور أو الدخان، وما شابه.
قال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز.
وقال: واتفقوا أن من أوصى بما لا يملك وبطاعة ومعصية؛ أن الوصية تنفذ في الطاعة وبما يملك، وتبطل في المعصية وفيما لا يملك.
(1) أخرجه أبو داود (2867)، والترمذي (2117).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (16456)، وابن أبي شيبة (30933) وغيرهما موقوفاً، وروي مرفوعاً ولا يصح، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رحمه الله (5907).
(3)
أخرجه أبو داود (2867)، والترمذي (2117).
قال المؤلف: (وهي في القُرَبِ من الثُّلُثِ)
يعني إذا أوصى شخص بشي من ماله أو بكل ماله بأن يوضع في قربة كبناء مسجد؛ فلا تصح الوصية إلا بالثلث من ماله فقط، فإذا كانت الوصية بثلث المال أو أقل عُمل بها.
وإذا كانت الوصية ليست فيها معصية وصية طاعة قربة جائزة، وكذلك إذا كانت في مباح، وكانت بثلث المال أو أقل من الثلث صحَّت.
وأما إذا كانت الوصية بأكثر من الثلث فلا تصح، فلا يعمل بها إلا بالثلث فقط.
وذلك لحديث سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير أو كبير» ، هذا عندما كان سعد بن أبي وقاص على فراش المرض، أصابه مرض شديد حتى ظن أنه هالك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أموت الآن على فراشي وليس لي إلا بنتٌ ترثني، فأراد أن يتصدق، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتصدق بثلثي مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا» . قال: فالشطر. يعني النصف. قال: «لا» . فقال النبي: «الثلث والثلث كثير أو كبير» ، يعني تصدق بالثلث، لكنه أيضاً كثير، يعني لو أنه نزل عن الثلث كان أفضل. ثم قال له:«إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (1)، يعني أن تترك الورثة الذين من خلفك أغنياء عندهم ما يكفيهم، خير من أن تتركهم يحتاجون الناس ويمدون أيديهم للناس.
هذا الحديث متفق عليه، وهو الدليل على ما ذكر المؤلف رحمه الله.
وقال ابن المنذر رحمه الله في الإجماع: وأجمعوا على أن الوصايا مقصورة بها على ثلث مال العبد.
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو غض الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الثلث والثلث كثير أو كبير» (2).
وقال ابن المنذر في الإقناع: ويستحب إذا أوصى المرء أن ينقص من الثلث شيئاً؛ لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير» .
ويستحب أن يدع المرء ورثته أغنياء؛ لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .
قال المؤلف رحمه الله: (ويَجبُ تَقدِيمُ قَضاءِ الدُّيونِ)
الديون: أموال هي من حق أصحابها مشغولة بها ذمة الميت وليست من حقه.
(1) أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628).
(2)
أخرجه البخاري (2743).
فوجب رد الحقوق إلى أصحابها قبل العمل بالوصية، قبل تنفيذ الوصية وقبل تقسيم التركة، وليس بين العلماء خلاف في تقديم الدَّيْن على الوصية.
قال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن الوصية لا تجوز إلا بعد أداء ديون الناس، فإن فضل شيء جازت الوصية والا فلا.
واختلفوا في ديون الله تعالى من كل فرض في المال أو مخير بمال؛ فأسقطها قوم وأوجبها آخرون قبل ديون الناس، ولم يجعلوا لديون الناس إلا ما فضل عن ديون الله تعالى؛ وإلا فلا شيء للغرماء.
ثم قال المؤلف: (ومَن لم يَترُك ما يَقضِي دَينهُ؛ قَضَاهُ السُّلطانُ مِن بيتِ المَالِ)
شخص عليه ديون وماله الذي عنده لا يكفي لقضاء دينه، يقول المؤلف هنا: يقضيه السلطان من بيت المال؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» ، إذا مات الشخص وترك مالاً ميراثاً فماله للورثة، «ومن ترك كَلًّا أو ديناً فكَلُّه إلي ودينه عليّ» (1)، كَلاً يعني ترك عيالاً يحتاجون إلى نفقة، أو ترك ديناً فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فكَلُّه إلي» يعني عياله عليّ يعني أنا أتكفل بهم، «ودينه علي» والذي على النبي صلى الله عليه وسلم يرجع على السلطان في بيت مال المسلمين.
قال النووي رحمه الله: واختلف أصحابنا في قضاء دين من مات وعليه دين، فقيل: يجب قضاؤه من بيت المال، وقيل: لا يجب.
ومعنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئاً، وإن خلف عيالاً محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم.
(1) أخرجه البخاري (6745)، ومسلم (1619).