الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحاب الرأي. وهو أحد قولي الشافعي. وروي عن أحمد رواية أخرى، أنه لا تجب استتابته، لكن تستحب. وهذا القول الثاني للشافعي، وهو قول عبيد بن عمير، وطاوس. انتهى ثم ذكر أدلة الطرفين.
والسابع: الزاني المحصن وهذا تَقَدم أنه يرجم.
والثامن: اللوطي كذلك تقدم أنه يقتل.
والمحارب تقدم القول فيه.
كِتابُ القِصاصِ
القصاص لغة: تتبُّع الأثر. يقال: قصصت الأثر أي تتبَّعته.
واصطلاحاً: أن يُوقَعَ على الجَانِي مِثلُ ما جَنَى.
كقتل القاتل، القاتل هو الجاني، هو الذي فعل الجناية. وقتله عقاباً له على القتل، هذا معنى القصاص.
وجَرْح الجارح: كذلك إذا جرح شخصٌ آخر بغير حق يُجرح قصاصاً.
وقَطْعِ القاطع: بأن يقطع شخصٌ يد شخص تقطع يده قصاصاً.
قال المؤلف رحمه الله: (يَجبُ على المُكلَّفِ المُختارِ العَامدِ، إنِ اختارَ ذلك الوَرثةُ؛ وإلَّا فَلَهُم طَلبُ الدِّيةِ)
القصاص بالمعنى المتقدم واجب؛ لقول الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة/178]، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ} [البقرة/179]، معنى هذه الآية أن الناس إذا علموا أن الشخص منهم إذا قَتَلَ قُتِل، امتنعوا عن القتل، فيكون في ذلك بقاءٌ للنفوس، بقاء لمن هم بالقتل، وبقاء لمن أراد قتله، لمن فكَّر في القتل إذا علم أنه سيقتل إذا قتل يوجد قصاص؛ سيمتنع عن القتل؛ فتُحفظ بذلك نفسه وتُحفظ أيضاً نفس من أراد قتله.
ولما منعت الكثير من الدول اليوم هذا الحكم الشرعي؛ دب فيهم الفساد وكثُر القتل بين الناس.
ويدل على وجوب القصاص أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة» (1) الشاهد: قوله: النفس بالنفس، فإذا قتل أحد يُقتل بمن قتله.
والقاتل الذي يجب عليه القصاص هو المكلف المختار، لرفع القلم عن غير المكلَّف، غير البالغ الذي هو الصغير هذا مرفوع عنه القلم؛ كما جاء في الحديث، «رفع القلم عن الصغير حتى يحتلم» (2). وكذلك العاقل، المجنون مرفوع عنه القلم، في نفس الحديث رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق» فلا بد أن يكون القاتل مكلفاً حتى يقام عليه حد القصاص.
والمختار: أخرج المكره، لكن هنا المكره فيه تفصيل فليس كل مكرهٍ يكون معذوراً ولا يُقتص منه.
والعامد: أي الذي تعمد القتل وقصده، أخرج بذلك قتل شبه العمد وقتل الخطأ، هذا ليس فيه قصاص وسيأتي إن شاء الله تفصيله.
(1) متفق عليه، تقدم.
(2)
تقدم تخريجه.
والقصاص حق لورثة المقتول، حق الورثة هم الذين يستحقون دم القتيل، هم بالخيار بين القصاص والدية، أي لهم أن يختاروا - إذا قُتِل لهم قتيل- بين أن يقتلوا القاتل، أو يأخذوا الدية بدل ذلك، وسيأتي تفصيل هذا كله إن شاء الله.
لقول الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة/178]، الشاهد من الآية قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} .
قال ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ القِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ» . فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ، وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]«فَالعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي العَمْدِ» . أخرجه البخاري (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إما أن يفدى وإما أن يقتل» (2) متفق عليه. فهو بخير النظرين أي يختار الأفضل له من أمرين: إما أن يُفدى أي يعطى الدية، أو يقتل القاتل.
قال المؤلف رحمه الله: (وتُقتَلُ المَرأةُ بالرجلِ والعكسُ، والعَبدُ بِالحُرِّ، والكَافرُ بالمُسلمِ، لا العكسُ، والفَرعُ بالأصلِ لا العكسُ)
تقتل المرأة بالرجل: إذا قتلت المرأة رجلاً فتُقتل به.
ويُقتل الرجل بالمرأة: إذا قتل الرجل امرأة يُقتل بها.
فإذا كان القاتل رجلاً أو امرأة قُتل أحدهما بالآخر، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المؤمنون تتكافأ دماؤهم» (3) يعني تتساوى في القصاص والدية.
قال ابن المنذر: وأجمع عوامّ أهل العلم على أن بين الرجل والمرأة القصاص في النفس إن كان القتل عمداً؛ إلا شيء اختُلف فيه عن علي وعطاء، وروي عن الحسن.
أي خلاف نادر إذا صح عنهم، ففي المسألة شبه إجماع.
(1) أخرجه البخاري (4498).
(2)
أخرجه البخاري (6880)، ومسلم (1355).
(3)
أخرجه أحمد (7012)، وأبو داود (2751)، وابن ماجه (2685).
ثم قال رحمه الله: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» دليل على إثبات القصاص بين الرجال والنساء في النفس. وفي حديث أنس بيان ذلك وإثبات القصاص بينهما ثم ذكر حديث أنس، وهو أن رجلاً من اليهود قتل جارية من الأنصار بالحجارة، على حلية لها، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بها، وضع رأسه بين حجرين ورضه حتى مات كما فعل بها. متفق عليه (1).
ويُقتل العبد بالحر، والحر بالعبد على الصحيح، الصحيح من أقوال أهل العلم أن العبد إذا قَتل حراً قُتل، وإذا الحر قتل عبداً أيضاً قُتل به؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«المؤمنون تتكافأ دماؤهم» .
فإذا كان العبد مؤمناً وكان الحر مؤمناً قُتل هذا بهذا والعكس، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم.
وبعض أهل العلم قال: لا يُقتل الحر بالعبد، واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة/178]، لكن رد عليهم أهل العلم هذا، وقالوا: إذا أخذتم بدلالة هذه الآية فخذوا بقول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة/178]، فلا تقتلوا الرجل بالأنثى! وأنتم تقتلون الرجل بالأنثى كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصح الاستدلال بهذه الآية.
وأما الكافر فيُقتل بقتل المسلم؛ لحديث أنس المتقدم، فاليهودي لمّا قتل المسلمة قُتل بها.
ولا يُقتل المسلم بالكافر: المسلم إذا قتل كافراً لا يقتل به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلمٌ بكافر» (2) أخرجه البخاري في صحيحه، فدم المسلم أنفس من دم الكافر، دم الكافر لا يساوي دم المسلم.
وأما الفرع بالأصل: أي يُقتل الابن إذا قَتل أباه أو جده، فالفرع هو الابن أو الحفيد، إذا قَتل الأصل: الأب أو الجد؛ يُقتَل به.
لا العكس: لا يُقتل الأب أو الجد بالابن، إذا قَتل الأب ابنه أو حفيده لا يُقتل به.
وكذلك الأم والجدة لا تقتل بقتلها لابنها أو حفيدها.
استدل المؤلف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُقتل الوالد بالولد» (3) أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما والصحيح أن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به.
(1) أخرجه البخاري (6884)، ومسلم (1672).
(2)
أخرجه البخاري (6915)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (346)، وابن ماجه (2662)، انظر البدر المنير (8/ 372)
وبما أن الحديث ضعيف فيبقى لنا عموم الأدلة التي فيها أن دماء المسلمين متكافئة، وأنه يجب القصاص من القاتل.
فهذه الأدلة العامة تدل على أنه يُقتل أيضاً الأب بابنه ويُقتل الجد بحفيده.
هذا هو الصحيح في المسألة؛ لأن الحديث الذي يعوِّلون عليه حديث ضعيف، والذي ذكرناه هذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن المنذر في الإشراف: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عامداً.
فقالت طائفة: لا قود عليه، وعليه ديته، هذا قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وروي ذلك عن عطاء، ومجاهد.
وقال مالك، وابن نافع، وابن عبد الحكم: يقتل به.
وبهذا نقول؛ لظاهر الكتاب والسنة.
فأما ظاهر الكتاب فقوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} .
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمنون تكافأ دماؤهم» .
ولا نعلم خبراً ثابتاً يوجب استثناء الأب من جملة الآية.
وقد روينا فيه أخباراً غير ثابتة. انتهى كلامه رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله: (ويَثبُتُ القِصاصُ في الأَعضاءِ ونَحوِها، والجُروحُ؛ مَعَ الإِمكانِ)
يعني إذا قطع شخص يد شخص يُقتص منه فتُقطع يده، وإذا كَسَر سنه كذلك تكسر سنه هذا في الأعضاء ونحوها.
أما الجروح؛ فكأن يجرحه في وجهه بموسى مثلاً، أو يضربه على رأسه بشيء، مثل هذه الجروح فيها أيضاً القصاص {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة/45].
إن أمكن؛ لأنه قال: والجروح مع الإمكان، لكون بعض الجروح إذا جئت تقتص من الجارح ربما أدى القصاص إلى إفساد العضو أو موت الشخص، فيخرج عن الحد المطلوب، فمثل هذا لا يُقتص منه.
ودليل القصاص في الأعضاء والجروح قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة/45]، هذه الآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب إلا أن المعروف والمقرر في أصول الفقه أن شريعة مَن قبلنا شريعة لنا ما لم تأتِ شريعتنا بما ينسخها.
فإذا ثبت في شرعنا في الكتاب أو في السنة أن هذه شريعة مَن قبلنا فالواجب علينا أن نعمل بها؛ إلا إن دل دليل شرعي عندنا على أنها ليست لنا منسوخة، ومثل هذه الآية قد دل الدليل الشرعي على أن حكمها لنا أيضاً.
فقد جاء في الحديث في الصحيحين من حديث أنس قال: إن الرُّبيِّع كسرت ثنية جارية-الربيع هذه بنت، كسرت ثنية جارية: كسرت سن جارية، الثنية أحد الأسنان الأمامية، فكسرت أحد الأسنان الأمامية لجارية أخرى، أي لبنت ثانية؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص؛ أي بكسر ثنية الربيع، وقال:«القصاص كتاب الله» (1).
قال المؤلف رحمه الله: (ويَسقطُ بِإبراءِ أَحدِ الوَرثةِ، ويَلزمُ نَصيبُ الآخَرينَ مِنَ الدِّيةِ)
يسقط القصاص بتنازل أحد الورثة عن حقه؛ لأن القصاص حق لجميع الورثة، فهم الذين يرثون ديته فهم أصحاب الحق في دمه.
والقصاص لا يتبعَّض، أي لا يتجزأ، فإذا أسقط أحد الورثة حقه تحوَّل إلى الدية، الدية تتبعَّض تتجزأ فإذا تنازل أحد الأشخاص يعطى الآخر نصيبه منها، أما القصاص فلا يتجزأ، فإذا أسقط أحد الورثة حقه؛ سقط القصاص، فلا يُقتل القاتل، ولكن تبقى الدية يعطى كل واحد من بقية الورثة حقه.
ثم قال: (فإذا كانَ فِيهمْ صَغيرٌ؛ يُنتَظرُ في القِصاصِ بُلُوغُهُ)
إذا كان في الورثة: أصحاب الدم؛ صغير، سنه أقل من سن البلوغ، لم يكمل عقله فلا
(1) أخرجه البخاري (4500)، ومسلم (1675).
يستطيع أن يختار بنفسه، قال: فإذا كان فيهم صغيرٌ؛ يُنتظر في القصاص بلوغه، أي يُحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير من الورثة، ثم يُنظر عند بلوغه، أيريدون القتل أم يريدون الدية؟ هذا معنى كلامه رحمه الله. استدل أصحاب هذا القول بأنه حق لجميع الورثة ومنهم الصغير، ولا اختيار له قبل البلوغ، فينتظر بلوغه. وفي المسألة نزاع.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُهدَرُ ما سَببهُ مِنَ المَجنِيِّ عَليهِ)
الفعل الذي يؤدي إلى موت الميت أو تلف عضو ويوجب القصاص، الذي يكون سببه المجني عليه، نفس الميت المقتول أو المجني عليه هو المتسبب في قتل نفسه أو إتلاف العضو، وليس الفاعل، فإذا كان هو المتسبب فيسقط القصاص، لا يكون له حق لا في قصاص ولا في دية.
كأن يلقي شخص نفسه أمام سيارتك، وأنت تقودها في الطريق بطريقة صحيحة، لست مسرعاً ومنتبه؛ فيموت، مع أنك أنت الذي ضربه بالسيارة؛ إلا أنه هو المتسبب في ذلك وهو المخطئ، ولست أنت فلا شيء عليك.
يبيِّن لنا ذلك الحديث الذي ورد في مثل هذه القضية، فقد جاء في الصحيحين أن رجلاً عضَّ يد رجل فانتزع يده من فيه-المعضوض الذي يده في فم الآخر نزع يده بشدة - فوقعت ثنيته-العاضّ وقعت سنه- فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل؟ ! لا دية لك» (1) يعني تريد أن تعض يده كذكر الحيوان ولا تريده أن يدافع عن نفسه؟ ! وإذا دافع وأتلف عضواً منك بسببك، تريد أن تأخذ دية؟ لا حق لك في ذلك؛ لأنك أنت المعتدي.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا أَمسكَ رَجُلٌ وَقتلَ آخَرُ؛ قُتِلَ القَاتلُ وَحُبِسَ المُمسِكُ)
اثنان جاءا إلى رجل، أحدهما أمسك به ليقتله الآخر، والآخر تمكن منه عندما أمسكه الأول فقتله، فاشتركا في القتل، أحدهما بإمساكه، والآخر بقتله.
يقول المؤلف: القاتل يُقتل، والماسك يُحبَس حتى الموت كما فعل.
بعض أهل العلم قال: لا؛ يُقتلان، الاثنان يقتلان؛ لأن القتل حصل منهما.
(1) أخرجه البخاري (6892)، ومسلم (1673).
والبعض فصَّل بما ذكره المؤلف رحمه الله، واستدلوا بحديث ضعيف، والأثر الوارد عن علي في ذلك ضعيف أيضاً، بين ضعفه البيهقي في المعرفة.
ولكن ما قاله المؤلف هو الحق إن شاء الله.
قال الإمام الشافعي في الأم: ولم أجد أحداً من خلق الله تعالى يُقتدى به حد أحداً قط على غير فعل نفسه أو قوله، فلو أن رجلاً حبس رجلاً لرجل فقتله؛ قُتل به القاتل، وعوقب الحابس، ولا يجوز في حكم الله تعالى إذا قتلتُ القاتلَ بالقتل، أن أقتل الحابس بالحبس، والحبس غير القتل، ومن قتل هذا فقد أحال حكم الله عز وجل؛ لأن الله إذا قال {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178] فالقصاص أن يفعل بالمرء مثل ما فعل. انتهى كلامه رحمه الله مختصراً.
وهذه الصورة تختلف عن صورة اشتراكهما في قتله بأن يضربه كل واحد منهما ضربة قاتلة؛ فيقتلان به، ولو كانوا عشرة يقتلون به، نقلوا إجماع الصحابة على ذلك. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (وفي قَتلِ الخَطَأِ الدِّيةُ والكَفَّارةُ، وهوَ مَا ليسَ بِعَمدٍ، أو مِن صَبِيٍّ أو مَجنُونٍ، وهيَ على العَاقِلةِ وهمُ العَصَبةُ)
وفي قتل الخطأ الدية: القتل نوعان عند بعض أهل العلم، وثلاثة عند البعض الآخر، أي أن العلماء اختلفوا فمنهم من يقسم القتل إلى نوعين فقط:
1 -
قتل عمد.
2 -
قتل خطأ.
ومن العلماء من يقسم القتل إلى ثلاثة أنواع:
1 -
عَمْد.
2 -
شِبْه عمد.
3 -
خطأ.
قتل العمد: وهو أن يقصد قتل إنسان بما يُقصد به القتل غالباً.
يأتي زيد لعمرو، وينوي زيد قتل عمرو ويقصده ويذهب إليه كي يقتله، ويضربه بشيء يقتل غالباً، لا يمسك حصى صغيرة ويضربه بها، لا، يمسك مثلاً حجراً كبيراً صخرة ويضربه بها على رأسه، فمثل هذه الصخرة الكبيرة مثلها يقتل غالباً.
أو يأخذ مسدساً ويطلق على رأسه.
أو يأخذ سكيناً ويطعنه.
مثل هذه الآلات آلات قاتلة في الغالب هي تقتل ومعروف بين الناس أنها تقتل عادة، فإذا قصد إنساناً ليقتله، وضربه بما يقتل غالباً؛ فهذا القتل يسمى قتلاً عمداً.
وأما قتل شبه العمد: وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالباً.
أن يأتي بعصا مثلاً أو سوط، عصا رفيعة خفيفة مثلها لا يقتل غالباً أو سوط ويضربه به فيموت الشخص المضروب، مثل هذا شبه عمد.
أن يقصد ضربه، فالضرب مقصود.
بما لا يموت مثله: شخص مثلاً قوي مفتول العضلات طويل عريض فهذا لا يموت من ضربة عصا صغيرة عادة، لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالباً، مسك عصا صغيرة وضربه بها ضربتين ثلاثة في الغالب أن مثل هذا الشخص مفتول العضلات قوي لا يموت من مثل هذه الضربات، فإذا مات يكون هذا شبه عمد.
قتل الخطأ: وهو أن لا يقصد ضربه، وإنما قصد غيره فأصابه، أو حفر بئراً فتردى فيه إنسان، أو نصب شبكة حيث لا يجوز، فتعلق بها رجل ومات.
قصد الضرب غير حاصل أصلاً، وإنما قصد غيره فأصابه؛ كالذي يُصوُّب على غزال ليصيده، فتصيب الطلقة شخصاً فتقتله، أو حفر بئراً فتردى فيه إنسان أي وقع فيه إنسان، ونحو ذلك.
رجل يريد أن يصيد طيراً أو يصيد غزالاً على الأرض فأطلق على الغزال فجاءت في رجل فقتلته، الآن هو لا يريد أن يضرب هذا الرجل نهائياً إنما قصده الغزال، فإذا جاءت الضربة فيه فهذا يعتبر قتل خطأ.
يحفر بئراً في مكان من أجل الماء، فيأتي إنسان مار فيقع في هذا البئر فيموت، فهذا يكون قتل خطأ.
ومن ذلك حوادث السيارات غالباً، صاحب السيارة لا يقصد ضرب الشخص مطلقاً، هو يسير في طريقه، فاصطدم بسيارة أخرى أو ضرب أحد المارة فمات؛ فهذا قتل خطأ.
وعَدّ المؤلف منه أن يكون القاتل صغيراً غير مكلف أو مجنوناً.
قال الإمام مالك في الموطأ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا قَوَدَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ، وَأنَّ عَمْدَهُمْ خَطَأٌ، مَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَيَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَأنَّ قَتْلَ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ إِلَاّ خَطَأً، وَذلِكَ لَوْ أَنَّ صَبِيّاً وَكَبِيراً قَتَلَا رَجُلاً حُرّاً خَطَأً، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. انتهى
الآن التفصيل، بعدما عرفنا قتل العمد وقتل شبه العمد وقتل الخطأ.
القتل العمد فيه القصاص أو الدية في مال الجاني، والدية تكون مغلظة حالَّة أي غير مؤجلة.
فعندنا قصاص أو دية، وإذا كانت الدية فتكون في مال الجاني، يعني تؤخذ ممن قتل، مغلظة: سيأتي كيف تكون مغلظة وكيف تكون مخففة. حالَّة: أي غير مؤجلة، مباشرة يدفعها.
شبه العمد: فيه الدية مغلظة، إذن شبه العمد ليس فيه قصاص، القصاص في العمد فقط، شبه العمد ليس فيه قصاص فيه الدية مغلظة، على عاقلته، ليست عليه هو في ماله هو، بل على عاقلته، وهم العصبة، يعني أقاربه من جهة الأب، هؤلاء العاقلة.
هؤلاء يدفعونها جميعاً، الأغنياء منهم تؤخذ منهم كلٌ بقسطه، حتى تجتمع الدية، فلا تكون على الجاني وحده، بل تكون على العاقلة.
مغلظة وعلى العاقلة.
مؤجلة على ثلاث سنوات.
هذا التأجيل لم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن ثبت فيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أجَّلها إلى ثلاث سنوات، ونقل البعض إجماع الصحابة عليه، ولا قصاص فيها.
الخطأ فيه الدية مخففة، الدية المخففة والدية المغلظة سنعرفها إن شاء الله في الديات؛ لكن الآن بشكل سريع: الدية المخففة مائة من الإبل، والدية المغلظة مائة من الإبل في أربعين منها أولادها، يعني أربعين منها حوامل.
الخطأ فيه الدية مخففة على العاقلة أيضاً وليست على الجاني وحده، على العاقلة الذين هم العصبة، في ثلاث سنين ولا قصاص فيه.
فالفرق بين شبه العمد والخطأ في الدية
دية شبه العمد مغلظة، ودية الخطأ مخففة.
فالقتل عمد وشبه عمد وخطأ، هذا القول هو الصحيح في المسألة للحديث الذي ورد عند أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَقْل شبه العمد مغلظ
مثل عقل العمد، ولا يُقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح» (1) أخرجه أحمد وأبو داود، العقل يعني المقصود به الدية.
لكن هذا الحديث فيه نزاع وخلاف في صحته.
والحديث الثاني الذي هو حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها» (2) أخرجه أبو داود وهذا الحديث أصح من الأول.
فيه إثبات شبه العمد، فهذا الحديث يدل على أن القسمة الصحيحة هي ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل منه عمد وشبه عمد ومنه خطأ.
وأما الكفارة التي ذكرها المؤلف رحمه الله، قال: وفي القتل الخطأ الدية والكفارة؛ هي ما ذكر في كتاب الله، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلَّا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء/92]، فالكفارة هي: تحرير رقبة، يعني عتق عبد أو أمة، واليوم هذا غير موجود عند أكثر الناس فينتقل إلى: صيام شهرين متتابعين، فمن قتل شخصاً خطأً لزمه أمران: الأول: الكفارة وهي تحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين.
هذا ليس على التخيير، إذا وجد الشخص تحرير رقبة؛ فهذا هو الواجب، فإذا لم يجد ينتقل إلى صيام شهرين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ، قال: فمن لم يجد.
والأمر الثاني الدية، والدية هذه تكون حق لورثة المقتول، فإذا تنازلوا عنها وسامحوه تسقط عنه، وإذا لم يتنازلوا وجبت عليه، وسيأتي التفصيل في الديات.
ودليل كون الدية على العاقلة في قتل الخطأ وشبه العمد ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها (3). فهذا يدل على أن الدية تلزم العاقلة.
(1) أخرجه أحمد (7033)، وأبو داود (4565).
(2)
أخرجه أحمد (6533)، وأبو داود (4588)، والنسائي (4791)، وابن ماجه (2627).
(3)
أخرجه البخاري (6910)، ومسلم (1681).