الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ البيوعِ
البيوع جمْعُ بَيْع، والبيع في اللغة: مقابلة شيء بشيء.
أي إعطاء شيء مقابل أن تأخذ شيئاً.
تعطيني قلماً مقابل أن تأخذ كتاباً، يسمى هذا بيعاً في اللغة.
ويقال: باع الشيء إذا أخرجه من مِلكه، وهذا السائد في العرف.
ويطلق أيضاً على إدخال الشيء إلى المِلك، بمعنى الشراء، فتقول: بعت الشيء أي اشتريته، وكذلك الشراء يطلق على البيع، فتقول: اشتريت الشيء بمعنى بعته.
قال تعالى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ، أي: باعوه بثمن زهيد. وقال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} ، أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم.
أما البيع اصطلاحاً؛ فهو نقل ملكٍ إلى الغير بثمنٍ.
نقل ملكٍ: شيء تنقل ملكيته إلى غيرك مقابل أن تأخذ شيئاً مكانه.
بثمن: سواء كان الثمن نقداً أم عيناً.
أو قُلْ في تعريفه اصطلاحاً: مبادلة مالٍ بمالٍ تمليكاً.
أي تعطي أخاك شيئاً وتأخذ منه شيئاً؛ كي يصير الذي أعطيته لأخيك ملكاً له، والذي أعطاكه ملكاً لك.
هذا هو البيع في الاصطلاح.
المراد بالمال في التعريف الثاني: كل ما يتملكه الناس من دراهم أو دنانير أو ذهب أو فضة أو حنطة أو شعير أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك.
وأما حكم البيع: فجائز في الكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب فقال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الشاهد: وأحل الله البيع.
وأما السُّنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً» (1) متفق عليه، الشاهد قوله «إذا تبايع الرجلان» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام، فكأنهم تأثموا فيه، فنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج «قرأها ابن عباس (2).
وأما الإجماع: فمعلوم من الدين بالضرورة حِلّ البيع وشرعيته (3).
حكمته: من المعلوم أن لكل إنسان ضروريات يحتاج إليها وهي ليست عنده، ليست في مِلكه في مِلك غيره، وهذا الغير لا يعطيها إلا بمقابل، فلا بد من البيع كي يحقق الناس ضرورياتهم، فلا تستقيم الحياة إلا بالبيع والشراء، لذلك كان البيع مشروعاً.
ولكن من البيوع ما مفسدته عظيمة أو أعظم من مصلحته فجاء الشرع بتحريمها، معلوم من القواعد الأساسية في شرع الله تبارك وتعالى أن شريعة الإسلام جاءت لتحقيق المصالح وتتميمها ودفع المفاسد وتقليلها، فما فيه خير للناس أجازه الله تبارك وتعالى، وما يعود عليهم بالضرر والفساد حرَّمه عليهم، فشريعة الله تبارك وتعالى هذه شريعة كاملة لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه ألبتة، لأن الذي وضعها حكيم خبير عليم، هو الذي خلق البشر وهو الذي يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، ووضع شريعته هذه كي تحقق مصالح البشر وتدرأ عنهم المفاسد، فمن نعم الله تبارك وتعالى على العباد أن تتحقق هذه الشريعة بينهم وأن يقيموا شرع الله بينهم، وعندما لا يكونون أهلاً لهذه النعمة ينزعها الله تبارك وتعالى منهم فيُحرمون الخير.
حكمُ تعلُّمِ فقهِ البيوعِ
فقه البيوع واجب على كل من أراد البيع والشراء.
كل إنسان يحتاج إلى التعامل بالبيع والشراء، فيجب على كل مسلم أن يتعلم أحكام البيع والشراء التي يحتاجها في حياته اليومية، وخصوصاً التجار، فالذي لا يتعلم أحكام هذا الباب ويبيع ويشتري؛ يقع في كثير من المخالفات الشرعية وفي العقود الفاسدة، وما لا يتم
(1) أخرجه البخاري (2112)، ومسلم (1531).
(2)
أخرجه البخاري (2050).
(3)
انظر «مراتب الإجماع «لابن حزم (ص 83) كتاب البيوع، و «الإجماع «لابن المنذر (ص 94) كتاب البيوع.
الواجب إلا به فهو واجب، واجتناب المحرَّم في البيوع واجب ولا يتم ذلك إلا بتعلم أحكام البيع والشراء.
أخرج الترمذي (487) بسند جيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يَبِع في سوقنا إلا مَن قد تفقَّه في الدين» .
ويذكر الفقهاء هنا في هذا الباب أثراً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه، قال فيه:«مَن اتَّجر قبل أن يتفقه ارتطم في الربا» .
هذا وإن كان معناه صحيحا إلا أن الأثر في نفسه ذكره الخطيب في «الفقيه والمتفقِّه» (1/ 172) بسند هالك (1).
قال المؤلف رحمه الله: (المُعتَبَرُ فيهِ مُجرَّدُ التّرَاضِي)
المعتبر في البيع؛ مجرد التراضي، إذا حصل التراضي صح البيع.
هذا الشرط الأول من شروط صحة البيع.
أن يقع برضا الطرفين؛ البائع والمشتري، قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه «(2) فلا بد أن يوجد التراضي من البائع والمشتري حتى يصح البيع، فإذا أُكره شخص على بيع شيء، فالبيع يكون باطلاً، البيع بالإكراه باطل، إلا في صور قليلة؛ كحكم القاضي العادل عندما يحكم في قضية معيَّنة.
حصول البيع بين البائع والشاري بالرضا، وقوع التراضي بينهما كافٍ لصحة البيع، لكن هذا الرضا أمرٌ قلبي لا يُعلم، فلا بد من دليل عليه، لذلك قال المؤلف رحمه الله:
(ولو بإشارةٍ من قادرٍ على النُّطقِ)
أي ولو كان الدليل على التراضي الإشارة، مع كَوْن المشير قادراً على النطق، أي ومع قدرته على النطق إن أشار إشارة فقط كفت، فالإشارة كافية في التعبير عن الرضا، فالمعتبر فقط التراضي، إن دل على التراضي إشارة أو فعل آخر أو قول كفى في ذلك ولا نشترط قولاً معيَّناً، لا نشترط صيغة معينة كما يفعل بعض الفقهاء.
(1) في سنده أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، قال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة:«كان يضع الحديث» . وقال أحمد: «كذاب، يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب» .
(2)
أخرجه البخاري (2050).
بعض الفقهاء يقول: لا بد أن تقول: بِعْني، ويقول لك الآخر: بعتك، وتقول أنت: رضيت، حتى يتم البيع، عندهم مجرد التعاطي لا يكفي.
لكن الصحيح ما قرَّره بعض أهل العلم من أن التعاطي فقط يكفي في صحة البيع، كيف يكون التعاطي؟
تدخل على محل، تأخذ شيئاً منه وتدفع المال لصاحب المحل، هذا يسمى تعاطياً، أو أن يعطيك صاحب المحل شيئاً وأنت تدفع له ثمنه، لا تكلمه ولا يكلمك، إنما فيه تعاطي، أعطيته وأعطاك، هذا يدل على التراضي بشكل آخر، لأن العرف السائد دل على أن مثل هذا يعتبر بيعاً عند الناس، وكل ما عدَّه الناس بيعاً فهو بيع، لأن الشارع لم يضع حداً للبيع والشراء لا يكون البيع بيعاً إلا به، ولا يوجد في اللغة أيضاً حد معيَّن لذلك رجعنا إلى العرف.
والقاعدة عندنا في هذا الباب وفي العقود بالكامل: أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حرَّر هذه المسألة وردّ على الذين يشترطون ألفاظاً معيَّنة في كتابه مجموع الفتاوى في المجلد التاسع والعشرين الصفحة الخامسة.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجُوزُ بَيعُ الخَمرِ، والمَيتةِ، والخِنزيرِ، والأَصنَامِ، والكَلبِ، والسِّنَّورِ، والدَّمِ، وعَسْبِ الفَحْلِ، وكُلِّ حَرَامٍ)
بدأ المؤلف بذكر البيوع التي حرمها الله تبارك وتعالى، مرَّت معنا الآية التي قال الله تبارك وتعالى فيها {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} ، كلمة «البيع «لفظ عام، فالمفرد المحلّى بالألف واللام - إذا كانت الألف واللام للاستغراق- يفيد العموم، كما هو مقرر في أصول الفقه، فهذا لفظ عام، فالأصل في كل بيعٍ أنه حلال إلا ما دل الدليل على تحريمه، فهذا لفظ عام يخصَّص بما ورد من أدلة خاصة في أشياء معيَّنة.
هذه الأشياء التي جاء تخصيصها في أدلة خاصة ذكرها المؤلف رحمه الله هنا.
فقال: ولا يجوز: بيع الخمر.
هذه المسألة الأولى
الخمر في لغة العرب: ما خامَرَ العقل، أي غطّاه.
يعني تسبب في ضياعه فصار صاحبه لا يعقل.
وشرعاً: كل مُسكِرٍ.
قال صلى الله عليه وسلم: » كل مُسْكِرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام «(1) أيَّ شيءٍ يُسكر فهو في شرع الله خمر، والخمر حرام، الشاهد هنا تعريف الخمر في الشرع: كل مسكرٍ خمر.
دليل تحريم البيع
تحريم الخمر معروف، وأدلته مشهورة، منها الحديث الذي ذكرناه سابقا، لكن نريد الآن تحريم بيع الخمر.
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام «(2).
وعن عائشة رضي الله عنها: لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها، خرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«حرمت التجارة في الخمر» (3).
وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب، ولا يبع» (4).
وقال ابن عباس: إن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل علمت أن الله قد حرمها؟ » قال: لا، فسار إنسانا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بم ساررته؟ » ، فقال: أمرته ببيعها، فقال:«إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (5).
علة تحريم بيع الخمر
ما هي علة تحريم بيع الخمر؟ لا علة تحريم الخمر.
إذا عرفنا علة تحريم بيع الخمر؛ استطعنا إلحاق غيرها بها، وإعطاءها نفس الحكم.
اختلف العلماء في علة تحريم بيع الخمر؛ البعض قال: النجاسة، ونحن قررنا فيما مضى أن الصحيح أن الخمر لا يوجد دليل على نجاستها.
وقال البعض الآخر: علة تحريم بيع الخمر: ليس فيه منفعة مباحة مقصودة، لذلك حُرِّم.
(1) أخرجه مسلم (2003)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
(3)
أخرجه البخاري (2226)، ومسلم (1580).
(4)
أخرجه مسلم (1578).
(5)
أخرجه مسلم (1579).
فيه منفعة ولكنها محرَّمة غير مباحة.
منفعة؛ أي تنتفع به لأي شيء، ولكن يجب أن تكون هذه المنفعة مباحة ليست محرَّمة شرعاً.
مقصودة؛ أي يَقصد العقلاء شراء الخمر لأجلها.
هذه المنفعة المباحة المقصودة غير موجودة في الخمر، الخمر يُقصد للإسكار وهذه منفعة محرَّمة.
فشراؤك لها بعد ذلك يعتبر سفاهة فلن تنتفع بها؛ لأن منفعتها المعتبرة عند العقلاء محرمة.
وبيع بائعها لها هو من أكل أموال الناس بالباطل.
هذه علة تحريم بيع الخمر؛ فيُلحَق بها كل شيء ليست له منفعة مباحة مقصودة؛ كالذباب، ليس لبيعه منفعة مباحة مقصودة؛ فيقاس على بيع الخمر لاتحادهما في العلة؛ فبيعه محرَّم، كثير من الحشرات لا منفعة لها مقصودة، فتكون محرَّمة.
قال المؤلف: والميتة.
الميتة: كل ما فارقته الروح من غير ذكاةٍ شرعية.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها، دليل تحريم بيعها حديث جابر المتقدم، قال فيه: » إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام «.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على تحريم بيع الميتة (1).
علة تحريم بيع الميتة
علة تحريم بيع الميتة؛ النجاسة، حُرم بيع الميتة لأنها نجسة.
فإذا كانت الميتة نجسة وحُرِّم بيعها من أجل النجاسة ألحقنا بها كل نجس العين، فكل ما كانت عينه نجسة فيَحرم بيعه قياسا على الميتة.
فكل نجس لا يمكن تطهيره لا يجوز بيعه قياساً على الميتة، النجس الذي يمكن تطهيره هذا ليس نجس العين، النجاسة تكون طارئة عليه والنجاسة ممكن أن تزال عنه فيباع، كالثوب
(1) انظر «الإجماع» (ص 94)
الذي أصابته نجاسة يجوز بيعه؛ لأن النجاسة ممكن أن تُزال عنه، والمقصود هو الثوب الذي يمكن تطهيره.
فيتلخص عندنا مما سبق أن من شروط المبيع:
أن تكون له منفعة مقصودة.
وأن يكون طاهراً.
هل كل ميتة يحرم بيعها؟
لا؛ يستثنى من ذلك الحوت والجراد
الحوت والجراد يجوز بيعه حتى وهو ميت؛ لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُحِلِّت لكم مَيْتَتَان ودمان: فأما الميتتان؛ فالحوت والجراد، وأما الدمان؛ فالكبد والطحال» (1).
فالحوت والجراد حلال مَيْتته، وبما أنها حلال فليست بنجسة، فيخصص حديث جابر بحديث ابن عمر، فيقال: حرم بيع الميتة إلا الحوت والجراد.
هكذا يكون تخصيص العام.
قال المؤلف: والخنزير.
الخنزير حيوان معروف، دليل تحريم بيعه، حديث جابر المتقدم، قال فيه:«إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» .
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن بيع الخنزير وشراءه حرام (2).
فإجماع علماء الإسلام على ذلك.
علة تحريم بيع الخنزير
النجاسة كالميتة، فأي شيء نجس العين يُلحَق بالخنزير والميتة في تحريم بيعه.
قال المؤلف: والأصنام.
(1) أخرجه أحمد (5723)، وابن ماجه (3314)، وقال البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (13/ 466): «هكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة بني زيد بن أسلم، عن أبيهم، مرفوعا.
ورواه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر، أنه قال:«أحلت لنا ميتتان» وهذا أصح، وهو في معنى المرفوع». انتهى كلامه.
يعني أن الصحيح في الحديث الوقف؛ أي أنه من قول ابن عمر، ولكنه في حكم المرفوع. والله أعلم.
وانظر «السنن الكبرى» للبيهقي (13/ 466).
(2)
انظر «الإجماع» (ص 95).
جمع صَنْم، والصنم ما له صورة، كحجرأو تمر على صورة إنسان أو حيوان، أو جبس أو طين أو ثلج على صورة إنسان أو حيوان أو طير.
والفرق بين الصنم والوثن؛ أن الوثن لا صورة له، أما الصنم فله صورة، الوثن ما ليس له صورة مما يُعبد.
ودليل النهي عن بيعه، حديث جابر المتقدم، ذكر فيه الأصنام.
ونُهي عن بيعه؛ لأنه ذريعة إلى اقتنائه واتخاذه، هذه العلة.
البيع والشراء يؤدي إلى اقتنائه عندك في البيت وهذا محرَّم.
قال المؤلف: والكلب.
الكلب أيضاً لا يجوز بيعه؛ لقول أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه»: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحُلوان الكاهن» (1).
فالكلب لا يجوز بيعه.
الكلب نهي عن ثمنه كما في هذا الحديث المتفق عليه، فهل يشمل هذا كل الكلاب؟ ظاهر اللفظ نعم؛ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، هذا لفظ عام فكل كلبٍ منهي عن ثمنه.
لكن بعض أهل العلم استثنى من ذلك كلب الصيد، وقال: يجوز بيعه، وبعضهم استثنى ما يجوز الانتفاع به سواء كان كلب صيد أو كلب حراسة.
ما وجه الاستثناء؟
أما كلب الصيد فاستدلوا بحديث جابر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن السِّنَّور والكلب إلا كلب صيد «(2).
وجد استثناء، لكن هذا الحديث أخرجه النسائي وقال: هو منكر ليس بصحيح.
يبقى معنا القول الثاني وهو استثناء الكلب الذي له منفعة مباحة، هذا من أين جاءوا به؟ من قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتنى كلباً إلا كلب صيدٍ أو ماشية نقص من أجره كل يومٍ قيراطان «(3)
هذا الحديث في الصحيحين، فحرَّم النبي صلى الله عليه وسلم اقتناء الكلاب إلا كلبين: كلبَ صيدٍ أو كلبَ ماشية، وجعلوا العلة في تحريم البيع هي الاقتناء.
(1) أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567).
(2)
أخرجه النسائي (4295 و 4668).
(3)
أخرجه البخاري (5480)، ومسلم (1574).
قالوا: لذلك حُرِّم بيعه، لأن اتخاذه محرَّم، فإذا كانت هذه العلة وقد أُذِن في اتخاذ كلب الماشية يعني الرعي وكلب الصيد فيُستثنى هذا من النهي عن بيعه.
هذه حجتهم في ذلك وهو قولٌ قوي قاله الإمام مالك في رواية عنه رحمه الله، وهذا الذي يظهر لي.
وذكر في الحديث المتقدم:
مَهْر البغي، البغايا جمع، مفردها بغي وهي الزانية، مهرها هي الأجرة التي تأخذها على زناها.
حلوان الكاهن: الكاهن الذي يدَّعي معرفة الغيب، وحلوانه هي الأجرة التي يأخذها على ادعائه الغيب.
قال المؤلف: والسِّنَّور.
ومما نهي عن بيعه: السنور الذي هو الهِرّ، وله عدة أسماء عند العرب، منها هذا السنور، الهر، القط، البَس، عندنا الناس في بعض بلاد الشام يقولون: البِس، خطأ هو البَس بفتح الباء لا بكسرها، وهذا عند العامة من قديم، قال الفيروز آبادي في «القاموس المحيط»: من أسماء القط: البَس، قال: والعامة عندنا يقولون: البِس.
دليل تحريم بيعه
جاء من حديث جابر عند مسلم قال: «زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسِّنَّور» (1)، لكن هذا الحديث وإن كان عند مسلم إلا أنه منتقد.
فيه نزاع شديد وقوي حقيقة بين المصحِّحين والمضعِّفين، وأنا أميل إلى أن زيادة (السنور) في حديث جابر غير محفوظة.
وأخرجه الترمذي (2)، وقال: هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السنور.
وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن بعض أصحابه، عن جابر. واضطربوا على الأعمش في رواية هذا الحديث.
وقد كره قوم من أهل العلم ثمن الهر، ورخص فيه بعضهم، وهو قول أحمد، وإسحاق.
(1) أخرجه مسلم (1569).
(2)
أخرجه الترمذي (1279).
وروى ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه. انتهى
لذلك اختلف العلماء في جواز بيع السنور.
جماعة من الصحابة والتابعين، وأيضاً من الأئمة الأربعة بل هو قول الجمهور، قالوا بجواز بيع الهِرّ، وجماعة قالوا بالتحريم.
والصحيح الجواز بناء على ضعف الرواية. والله أعلم
قال المؤلف: والدم.
لحديث أبي جُحَيفة في الصحيح قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم ثمن الدم» (1).
قال الحافظ: وهو حرام إجماعاً، أعني بيع الدم وأخذ ثمنه (2).
وعلة تحريم بيعه
النجاسة عند من يقول بنجاسة الدم المسفوح، ومعنى المسفوح السائل الذي يسيل كالذي يخرج عند الذبح، قال ابن عبد البر: وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس، إلا أن المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة؛ فإن المعني فيه في الشريعة الكثير؛ إذ القليل لا يكون جاريا مسفوحا، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة في ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير وكان حكمها حكم القليل، ولم يلتفت إلى أصلها في اللغة (3). انتهى.
قلت: وفي ثبوت الإجماع على نجاسة الدم المسفوح خلاف.
قال المؤلف: وعسْبِ الفحل.
أي ماء الفحل، الفحل: الذكر من كل حيوان، والمقصود بالعَسْب هو ماؤه، ماء الفحل الذي يكون منه ابنه.
وطريقة بيعه المتبعة أن يأخذ مَن عنده أنثى من الخيل مثلا ذكرا من شخص كي يلقح الذكر الأنثى وينزل ماءه فيها، ويدفع لصاحب الذكر ثمن الماء.
والدليل على تحريم بيع ماء الفحل قول ابن عمر: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل «
(1) أخرجه البخاري (2238).
(2)
انظر «فتح الباري» (4/ 427).
(3)
انظر «التمهيد» (22/ 230).
أخرجه البخاري (1)، وأخرجه مسلم من حديث جابر (2).
وعلة تحريمه عدم القدرة على التسليم والجهالة، فأنت لا تملك إخراج المني من الفحل وإذا خرج لا تدري كم كميته، ثم إذا حصل وخرج المني وتجاوزنا عن الكمية فإننا لا نعلم هل ستحمل الفرس أو الناقة منه أو لا، فالأمر كله داخل في ضمن الغرر الذي سيأتي الحديث عنه إن شاء الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وهو مجهول العاقبة، عاقبته مجهولة، ستأخذ الجمل إلى الأنثى التي عندك ولكنك لا تدري عاقبة هذا الأمر، ستدفع مالاً لماء هذا الجمل أو الحصان أو الثور ولكن النتيجة مجهولة إما أن تستفيد أو لا تستفيد ويضيع مالك.
قال ابن قدامة مبينا علة النهي: ولنا ما روى ابن عمر، «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع عسب الفحل» رواه البخاري، وعن جابر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل» رواه مسلم، ولأنه مما لا يقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق.
ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته.
ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول. انتهى (3)
قال المؤلف: وكلِّ حرامٍ.
أي ويَحرُم بيع كل حرام، كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى يحرم بيعه
يستدلون على ذلك بما في الصحيحين من حديث جابر المتقدم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة» إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام «فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويَستَصبِح بها الناس-أي يجعلونها وقوداً للمصابيح بدل الغاز اليوم- فقال» لا، هو حرام «- أي البيع- ثم قال: » قاتل الله اليهود إن الله لما حرَّم عليهم شحومها جملوه-أي أذابوه- ثم باعوه فأكلوا ثمنه «لما حرم عليهم الشحوم أكلوا ثمنها، أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها.
وفي رواية من حديث ابن عباس» إن الله إذا حرَّم أكل شيء حرَّم ثمنه «(4) وهذه قاعدة عامة: كل ما حرَّم الله أكله حرَّم بيعه.
لكن البيع يكون محرماً لأجل هذه المنفعة، فإذا كان له منفعة أخرى غير الأكل يجوز بيعه من أجل المنفعة المباحة كالحمار الأهلي، يجوز بيعه بالإجماع.
(1) أخرجه «البخاري» (2284).
(2)
أخرجه «مسلم» (1565) بلفظ: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل» .
(3)
انظر «المغني» (4/ 159) و (5/ 406).
(4)
أخرجه أحمد (4/ 416)، وأبو داود (3488).
حرم الله أكله ولكن جاز بيعه لأنه يُنتفع به في غير الأكل كركوبه والتحميل عليه، فمن اشتراه لأجل الركوب حَلَّ له أن يشتريه وحل للبائع أن يبيعه، ومن اشتراه من أجل الذبح والأكل حرُم عليه أن يشتريه وحرُم على البائع أن يبيعه.
بهذا تجتمع الأدلة
وبعد هذا سنبدأ إن شاء الله بمسألة بيع الغرر، وهذه المسألة أصل عظيم من أصول كتاب البيوع يدخل تحتها الكثير من المسائل والجزئيات.
فمن خلال ما تقدم مما نهي عنه أو من علله نستطيع أن نستخرج شروطا للمبيع أي الشيء الذي تريد بيعه، فنقول لا يجوز بيع الشيء إلا إذا توفرت فيه شروط، وهي:
1 -
أن يكون طاهراً.
فلا يجوز بيع النجس وهذا الشرط أخذ من النهي عن بيع الخنزير والميتة فقد ذكرنا أن علة النهي عن بيعهما النجاسة.
2 -
أن يكون له منفعة مباحة مقصودة.
فما لا نفعة له مباحة ليست محرمة ومقصودة عند العقلاء لا يجوز بيعه، وهذا الشرط أخذ من النهي عن بيع الخمر.
3 -
أن يكون غير منهي عن بيعه.
هذا مأخوذ من القاعدة الأخيرة التي ذكرناها من كلام ابن عباس.
4 -
أن يكون مقدورا على تسليمه.
فلا يصح بيع العبد الذي هرب من سيده، فإذا باعه سيده لم يقدر على تسليمه للمشتري، وكذلك لا يصح بيع الطير في الهواء لعدم قدرته على تسليمه للمشتري.
وهذا الشرط أخذ من النهي عن بيع عسب الفحل المتقدم والنهي عن بيع الغرر القادم.
5 -
أن يكون الثمن والسلعة معلومين للمتبايعين ليسا مجهولين.
وهذا الشرط مأخوذ من النهي عن بيع الغرر القادم ومن النهي عن بيع عسب الفحل أيضا، وسيأتي تفصيله في بيع الغرر.
قال: (وفَضْلِ الماءِ، وما فيه غَرَرٌ؛ كالسمكِ في الماءِ، وحَبَلِ الحَبَلةِ، والمُنَابَذَةِ، والمُلامَسَةِ، وما في الضَّرْعِ، والعَبدِ الآبِقِ، والمَغَانِم حتى تُقسَمَ، والثَّمَرِ حتى يَصْلُحَ، والصُّوفِ في الظَّهرِ، والسَّمنِ في اللَّبَنِ، والمُحَاقَلَةِ، والمُزَابَنَةِ، والمُعَاوَمَةِ، والمُخَاضَرَةِ)
قوله: وفضل الماء.
أي ولا يجوز بيع فضل الماء.
المقصود بفضل الماء: ما زاد من الماء عن حاجة الشخص وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه من الماء الجاري كماء الأنهار أو الماء النابع كماء العيون والآبار وماشابه ذلك مما يخرج دون عمل من الناس.
لا يجوز له أن يمنعه من الناس حتى يأخذ عليه عوضاً.
كأن يمنع الناس مثلاً من مياه العيون والأنهار وما شابه كمياه البرك، لأن هذا الماء حق للناس جميعاً فليس لأحد أن يمنعه عن الناس، من سبق إليه فله أن يأخذ منه كفايته وكفاية أهله وماشيته وزرعه لكن لا يمنعه من الناس.
جاء في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (2).
الكلأ: العشب الذي ينبته الله سبحانه وتعالى وليس فيه للناس عمل.
والنار: الحطب الذي تُشعَل به النار ولم يغرسه الناس.
فإذا أحرز الماء وحازه شخص أصبح ملكاً له، شخص أخذ جالونات أو زجاجات ماء وعبأ ماءً ونقله، هذا الماء الآن يسمى ماءً محروزاً، صار ملكاً لهذا الرجل، فإذا صار ملكاً له جاز له أن يبيعه نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، وكذا إذا حفر بئراً في ملكه أو صنع آلة استخرج بها الماء، هنا له أن يبيع الماء، نستدل على ذلك بحديث بئر رومة، اشتراها عثمان بن عفان وجعلها وقفاً (3).
دلَّ هذا على جواز بيع مثل هذا الماء.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة، فبناءً على ما تقدم، المياه التي تباع الآن في زجاجات أو مياه في جالونات هذه كلها يجوز بيعها وليست داخلة في النهي.
بعض العلماء قال: إذا كان العشب أو الماء أو الحطب، في أرض مملوكة لشخص؛ فله أن يمنع الناس منه وله أن يبيعه، وإذا كان في أرض غير مملوكة لأحد - ويسمونها أرض موات أو مباحة - فلا يجوز له البيع.
والبعض قال: يجب عليه بذل ما فضل عن كفايته لشرب أو طهور أو سقي زرع، وسواء
(1) أخرجه مسلم (1565) من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (2353)، ومسلم (1566) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» .
(2)
أخرجه أحمد (23082)، وأبو داود (3477)، عن أبي خداش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
علقه البخاري كتاب المساقاة، باب في الشرب، قبل الحديث رقم (2351)، ووصله أحمد (511) والترمذي (3703)، وانظر الأوسط لابن المنذر (10/ 135).
كان في أرض مباحة أو مملوكة. والله أعلم
قال رحمه الله: وما فيه غرر.
أي ولا يجوز بيع ما فيه غرر، هذا أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، بيع الغرر، ويدخل فيه مسائل كثيرة.
الغرر في لغة العرب هو: الخطر والخداع.
والتغرير: التعريض للهلاك، وأصل الغرر ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه.
والغرر في الاصطلاح هو: ما كان له ظاهر يَغُرُّ المشتري وباطن مجهول.
أي: يخدعه، ويوقعه في الخطر، ولا يدري ماذا ستكون نتيجته.
بعبارة أسهل: الغرر هو: بيعٌ مجهول العاقبة.
فأي عقد مجهول العاقبة لا يدرى إلى ما يصير؛ فهو من بيع الغرر.
والنبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر» (1)؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة والمخاصمة بين المسلمين.
وأمثلته ذكرها المصنف.
فقال: كالسمك في الماء.
بيع السمك في الماء من بيع الغرر.
إذا كان السمك في ماءٍ كثير، فيكون السمك مجهول الصفة، ومجهول العدد، وربما لا يقدر مشتريه عليه، لا يقدر على صيده وإخراجه، فهذا العقد مجهول العاقبة.
لكن إذا كان الماء قليلاً وصافياً ومحصوراً، فلا يدخل في الغرر؛ لأن بإمكانك أن ترى السمك في الماء في هذه الحالة وأن تعلم عدده أو تقدِّره وأن تعلم صفته، واستخراجه من المكان المحصور سهل مقدور عليه.
فإذا كان الماء قليلاً ولكنه ماء كدر عكر، لا يُرى السمك من خلاله، يكون هذا من بيع الغرر؛ لأن المشتري لا يعلم صفة السمك ولا عدده.
هذا هو التفصيل في هذه المسألة لأن القضية متعلقة بالجهالة، لذلك فصَّلنا هذا التفصيل.
ورد حديث فيه النهي عن بيع السمك في الماء (2)، خاص بهذه المسألة؛ لكنه ضعيف، ونعتمد فيما قررنا على حديث أبي هريرة المتقدم العام في النهي عن بيع الغرر.
قال: وحَبَل الحَبَلة.
أي حمل الحامل وهو أن تلد الناقة مثلاً أو البقرة أو الشاة ثم تحمل التي وُلدت أي بنتها فيكون المُباع هو الحمل الأخير أي حمل البنت.
(1) أخرجه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (22050)، وأحمد (3676)، والبيهقي (5/ 555) وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصحح البيهقي وقفه على ابن مسعود.
هذا أيضاً من بيع الغرر؛ لأنه بيع لشيء معدوم غير موجود أصلاً، ومجهول أيضاً في عدده، لا يمكن أن نعلم الناقة هذه كم ستنجب وإن علمنا العدد فهو مجهول في صفته هل سينزل كاملاً، ينزل ناقصاً، ينزل حياً، ينزل ميتاً، هل سينزل ذكراً، ينزل أنثى، كل هذا مجهول، وغير مملوك للبائع، هو ليس في ملك البائع، فمن شرط البيع أن يكون مملوكاً لبائعه، فهو من بيع الغرر.
ورد في النهي عن بيع حبل الحبلة حديث خاص مع أنه داخل في النهي عن بيع الغرر؛ إلا أنه ورد فيه أيضاً حديث خاص به؛ لأنه كان من بيع الجاهلية.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حَبَل الحَبَلة» (1).
وبعض العلماء ذهب إلى معنى آخر لبيع حبل الحبلة، وهو: أن يبيع لحم الجزور - الجمل - بثمن مؤجل إلى أن يلد ولد الناقة.
يعني صار الحمل مدة زمنية لسداد الثمن فقط، وهي مدة مجهولة، فلا يدرى أيحصل حمل أم لا، وإذا حصل متى يحصل.
فعلة النهي هنا أن أجل دفع الثمن مجهول.
وعلة التفسير الذي قدمناه ورجحناه أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه، وهذا من بيع الغرر.
قال المؤلف: والمُنَابَذَة والمُلَامَسَة.
ومن البيوع المنهي عنها بيع المُنَابَذَة والمُلَامَسَة.
وهي من بيع الغرر.
من بيوع الغرر أيضاً المنهي عنها؛ المنابذة والملامسة.
جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: » نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولِبستين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، قال: والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يُقلِّبه إلا بذلك.
والمنابذة: أن يَنبِذَ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ «(2).
صورة بيع الملامسة: تأتي بثوب تريد أن تبيعه لشخص، فيلمس المشتري الثوب بيده لمساً فقط، ويتم البيع على ذلك، هذا بيع كان يسمى عندهم بيع الملامسة، مجرد اللمس، فلا يفتح الثوب ولا يُقلِّبه ولا يرى ما فيه، هذا أيضاً من بيع الغرر لأنه يجهل حال الثوب وصفته.
وبيع المنابذة: أن يكون عند زيد ثوب وعند عمرو ثوب ويريد أحدهما أن يبيع ثوبه للآخر، فيرمي زيد ثوبه لعمرو ويرمي عمرو ثوبه لزيد، فبمجرد أن يرمي كل منهما ثوبه للآخر يقع البيع، من غير أن ينظر في الثوب ولا يرضاه، هذا أيضاً من بيع الغرر.
(1) أخرجه البخاري (2143)، ومسلم (1514) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (5820)، ومسلم (1512).
قال الإمام مالك رحمه الله: والملامسة: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه. أو يبتاعه ليلا ولا يَعلم ما فيه.
والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمُّل منهما، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا. فهذا الذي نهي عنه من الملامسة، والمنابذة (1).
ومنه: قال المؤلف: ما في الضَّرْع.
الضَّرع: ثدي الناقة أو البقرة أو ما شابه من هذه الحيوانات، نُهي عن بيع ما في الضَّرع، وذلك لأن ما في الضَّرع - وهو في الضَّرع قبل أن يحلب- مجهول الصفة والقدر، ما الذي في الضَّرع؟ حليب، لكن كم قدر هذا الحليب الذي سينزل من الضرع؟ غير معلوم.
ما هي صفة الحليب الذي سينزل؟ غير معلوم. فهو من بيع الغرر.
جاء في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص» (2).
وهو ضعيف.
ولكن يغني عنه حديث أبي هريرة المتقدم في النهي عن بيع الغرر.
قال البيهقي رحمه الله بعدما أخرج حديث أبي سعيد: وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي؛ فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) انتهى.
قال المؤلف: والعبد الآبق.
ومن البيوع المنهي عنها بيع العبد الآبق.
وهو من بيع الغرر أيضا.
العبد: المملوك، والآبق: الفار من سيده، أي الهارب.
نهي عن بيع العبد الآبق؛ لعدم القدرة على تسليمه، ولجهالة صفته أيضاً، فإذا كان هذا العبد معلوماً للمشتري يعرف أوصافه، يعرفه مسبقاً فإنه لا يدري ما حصل عليه من تغير، وتبقى العلة الأولى وهي عدم القدرة على تسليمه للمشتري، فهو هارب من سيده كيف سيسلمه؟
هذا من بيع الغرر.
قا ل الإمام مالك رحمه الله: ومن الغرر والمخاطرة، أن يعمد الرجل قد ضلت دابته، أو أبق غلامه، وثمن الشيء من ذلك خمسون دينارا، فيقول رجل: أنا آخذه منك بعشرين
(1) انظر «الموطأ» ، كتاب البيوع بعد الحديث رقم:(76).
(2)
أخرجه أحمد (11377)، وابن ماجه (2196)، وهو ضعيف في إسناده من لا يحتج به، انظر «الإرواء» (1293) للألباني رحمه الله.
(3)
انظر «السنن الكبرى» له (5/ 553).
دينارا، فإن وجده المبتاع، ذهب من البائع ثلاثون دينارا، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارا.
قال مالك: وفي ذلك عيب آخر: إن تلك الضالة إن وجدت لم يدر أزادت أم نقصت، أم ما حدث بها من العيوب؛ فهذا أعظم المخاطرة (1).
قال: والمغانم حتى تقسم.
المغانم التي هي غنائم الحرب، غنائم الحرب لا يجوز بيعها حتى تقسم بين الغانمين من المجاهدين، عندما تُجْمع، تجمع عند ولي الأمر أو نائب ولي الأمر ثم بعد ذلك هو يقسمها على الغانمين، قبل ما تقسَّم لا يدري الشخص ما الذي سيخرج له من هذه الغنيمة فهو لا يعلم غنيمته ما هي، فإذا باعها باع شيئاً مجهولاً فنهي عن بيعها حتى تقسم، ثم هي قبل أن تقسم ليست ملكاً مستقراً، نعم له نصيب في الغنيمة لكن لم تدخل هذه الغنائم في ملكه ولا يدري قدر نصيبه وصفته، فهو من بيعه الغرر كذلك.
وورد فيه نهي خاص غير حديث أبي سعيد المتقدم، منها حديث ابن عباس عند النسائي (2).
قال المؤلف: والثمر حتى يصلح.
ثمار الأشجار، هل تفرِّقون بين الزرع وثمار الشجر؟
الزرع حبوب تُزرع ثم تحصد، أما الشجر فله سوق يقوم عليها ثم يثمر، ما تخرجه الأشجار يسمى ثماراً، ثمار الأشجار، أما ذاك الذي يُزرع عن طريق الحبوب يسمى زرعاً.
(1) انظر «الموطأ» ، كتاب البيوع بعد الحديث رقم:(75).
(2)
قال ابن رجب في «القواعد الفقهية» القاعدة الثانية والخمسون، المسألة الثالثة (1/ 397): المسألة الثالثة: بيع المغانم قبل أن تقسم: ونص أحمد على كراهته في رواية حرب وغيره، وعلله في رواية صالح وابن منصور: بأنه لا يدري ما يصيبه بمعنى أنه مجهول القدر والعين، وإن كان ملكه ثابتا عليه؛ لكن الإمام له أن يخص كل واحد بعين من الأعيان، بخلاف قسمة الميراث.
وصح عن أبي الزبير قال: قال جابر: أكره بيع الخمس من قبل أن يقسم.
وروى محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد - يعني العبدي- عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشتروا الصدقات حتى تقبض، والمغانم حتى تقسم» أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وإسحاق بن راهويه والبزار في «مسنديهما» ، ومحمد بن زيد؛ صالح لا بأس به، والباهلي؛ بصري مجهول، وشهر؛ حاله مشهور.
وفي «سنن أبي داود» من حديث رويفع بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم» . وفي الحديث طول، أخرج الترمذي بعضه وحسنه.
وخرج النسائي من حديث ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغانم حتى تقسم» .
وخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مكحول: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغانم حتى تقسم» . مرسل.
وهذا في حق آحاد الجيش منهي عنه، سواء باعه قبل القبض أو بعده؛ لأنه قبل القبض مجهول وبعده تعد وغلول؛ فإنه لا يستبد بالقسمة دون الإمام، وأما الإمام فإذا رأى المصلحة في بيع شيء من الغنيمة وقسم ثمنه؛ فله ذلك.
ثمار الأشجار لا يجوز بيعها وهي على الشجر حتى يبدو صلاحُها، أي حتى تنضج، يعني بلهجتنا نحن اليوم حتى تستوي، تصبح جاهزة للأكل، حتى تحمر أو تصفر؛ خوفا من إصابتها بالعاهة، العاهة: الداء الذي يصيب الثمار ويفسدها، وقبل ذلك يكون في بيعها غرر، ربما يشتريها شخص فتصيبها آفة فتفسدها، فتؤدي إلى المنازعة والمخاصمة، وأما بعد أن يبدو صلاحها أي تنضج ففي الغالب تأمن من العاهة، فيقل الغرر.
جاء في حديث جابر في الصحيحين قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، وعن بيع الثمرة حتى تُشْقِح» ، قال: قلت لسعيد: ما تشقح؟ قال: «تَحمَارّ وتَصفَارّ، ويُؤكل منها» (1).
وفي حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يَبدُو صَلاحُها، نهى البائع والمبتاع» (2).
قال المؤلف: والصوف في الظَّهْر.
ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الخروف أي قبل أن يُجز أي قبل أن يقص كما يقال عند بعض الناس.
ولا يباع الصوف حتى يُجَزّ.
هذا محل خلاف هل يجوز بيع الصوف على ظهر الخروف أم لا؟ فبعضهم قال: لا يجوز؛ لأنه يؤذي الخروف خاصة إذا كان الجَزّ في الشتاء.
والبعض قال: العلة في ذلك الغرر؛ لأنه لم يُحدد القطع للصوف، يقطع من الأصل أي كله، أم يبقي أصوله أو أكثر قليلاً؟
فقالوا: هذا سيحصل فيه غرر، والظاهر أنه جائز إذا اتفقوا على الموضع الذي يُجزّ منه واشترطوا الجزّ في الحال أو بعد العقد بيسير، ولم يؤذ الحيوان؛ لأن النهي عنه لا يصح، ولأنه مشاهد معلوم والغرر فيه إما يسير أو غير حاصل، والغرر اليسير مستثنى من التحريم كما سيأتي إن شاء الله.
قال ابن عباس»: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها، أو يباع صوفٌ على ظهر، أو سمنٌ في لبن أو لبن في ضرع «(3).
قال المؤلف: والسمن في اللبن.
(1) أخرجه البخاري (2196)، ومسلم (1536).
(2)
أخرجه البخاري (2194)، ومسلم (1534).
(3)
أخرجه الدارقطني (2835) فما بعده، والبيهقي (5/ 555)، والضياء في «المختارة» (316)، وقال البيهقي: تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي ، وقد أرسله عنه وكيع ، ورواه غيره موقوفاً. انتهى، وأخرجه البيهقي موقوفاً، وقال: هذا هو المحفوظ موقوف.
لا تدري اللبن كم سيُخرج من السمن، وما صفة السمن الذي سيخرج، فهو مجهول القدر مجهول الصفة، فهو من بيع الغرر لذلك يحرم، وقد نهي عنه في حديث ابن عباس المتقدم؛ ولكنه ضعيف يغني عنه النهي عن بيع الغرر.
ومن الغرر المنهي عنه أيضاً: المُحَاقَلة والمُزَابَنة والمُعَاوَمَة والمُخَاضَرة.
المحاقلة مأخوذة من الحقل، وهي: أن يبيع الزرع بكيلٍ من الطعام معلوم.
تأتي إلى حقل زيد مثلاً مزروع بالقمح، كمية غير معلوم قدرها؛ فتأتي أنت تريد شراء الزرع الذي في الحقل سواء كان قمحاً أو غيره بكيل معلوم من الطعام أي الثمن قدر معلوم من الطعام، من أي طعام، بقدر تتفقان عليه.
هذه الصورة المنهي عنها والعلة الجهالة في قدر الزرع الذي في الحقل، والربا إذا كان الطعام من الربويات.
والمزابنة: بيع ثمر النخل بأوساقٍ من التمر، ، الوسق وعاء كبير يسع كمية كبيرة، يسع تقريباً ستين صاعاً من التمر، والصاع أربعة أمداد يعني حفنات.
وثمر النخل منه الرطب والتمر، وهو من الأصناف الربوية كما سيأتي إن شاء الله.
المزابنة مثل المحاقلة العلة واحدة إلا أن المزابنة في ثمر النخل خاصة، والمحاقلة في الزرع.
والمعاومة: بيع الثمار سنين، يكون عندك مزرعة مثلاً فيها أشجار، يأتي شخص ويقول لك: بعني ثمر هذا الشجر لمدة ثلاث سنوات أو أربع سنوات، في كل سنة يكون ثمر هذا الشجر لك أنت كونك اشتريته، هذا بيع السنين أو المعاومة هما اسمان، وهذا فيه غرر واضح بيِّن فهو يشتري شيئاً معدوماً غير موجود أصلاً، فهو مجهول وغير مقدور على تسليمه.
والمخاضرة: بيع الثمرة الخضراء قبل بدو صلاحها، وهو المعنى الذي تقدم في النهي عن بيع الثمر حتى يصلح، نفس المعنى المخاضرة، وهذا كله ورد النهي عنه في أحاديث في الصحيحين: المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخاضرة (1).
ضابط بيع الغرر
بيع الغرر يدخل فيه:
1 -
بيع المعدوم: شيء غير موجود أصلاً؛ مثل حبَل الحبَلة وبيع المعاومة.
2 -
بيع المجهول المطلق: كبعتك عبداً، غير معين، فلو قلت بعتك عبدي أكون عينته.
(1) أخرجه البخاري (2207) من حديث أنس، وأخرجه البخاري (2381)، ومسلم (1536) من حديث جابر بن عبد الله. ما عدا بيع المعاومة انفرد به مسلم.
3 -
بيع المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق.
4 -
بيع المجهول قَدرُه؛ كبعتك عبيدي، كم عددهم؟ أو بعتك اللبن الذي في الضرع، كم كميته؟ مجهول.
5 -
بيع المجهول جنسه: بعتك ما في بيتي، هذا جنسه مجهول، ما هو الذي في البيت؟ هل هو من جنس البشر؟ من جنس الحيوانات؟ من جنس الكمبيوترات؟ من جنس الفرش؟ شيء غير معلوم جنسه.
6 -
بيع المجهول نوعه؛ كبعتك الحيوان الذي عندي، فهذا معين وجنسه معلوم من ذوات الأربع، لكن ما نوعه؟ أهو جمل أم حصان أم شاة؟ غير معلوم. أو بعتك الثوب الذي في كمي، جنس الثوب معلوم ولكن نوعه مجهول.
7 -
بيع المجهول وصفه؛ كبعتك العبد الذي أملكه، وأنت لا تعرف هذا العبد لا تعرف أوصافه، طويل أم قصير أم قوي أم ضعيف أم صحيح أم مريض، هذا كله لا تعرف عنه شيئاً، أوصافه مجهولة (1).
فائدة:
الآن عندما تسأل أحد العلماء عن التأمين يقول لك: التأمين حرام، التأمين التجاري محرَّم.
يقول لك: هذا عقد فيه غرر.
نمثل بالتأمين على السيارة، الآن يقول لك عندما تريد أن ترخص السيارة لا بد أن تؤمن، تدفع مبلغاً من المال لشركة التأمين لمدة سنة، مائة دينار تدفعها لشركة التأمين مثلاً، عقدنا هذا العقد ودفعنا المائة دينار، هل العاقبة معلومة أم مجهولة؟
مجهولة: ربما يسلِّمك الله تبارك وتعالى ولا تعمل أي حادث سير خلال السنة المائة دينار التي دفعتها ضاعت من غير أي مقابل خسارة، وأكلتها شركة التامين بالباطل من غير وجه حق.
وربما قدَّر الله وعمل الشخص هذا المؤمِّن حادثاً، كم ستدفع شركة التأمين؟
الله أعلم مجهول، طيب عمل حادث سير ثانياً، وثالثاً ورابعاً وربما أكثر في خلال السنة، ستخسر شركة التامين كثيراً، وهو قدر مجهول.
فالعاقبة مجهولة بشكل كبير جداً واضح الغرر، الغرر بيِّن فهو عقد محرَّم.
هذا هو سبب تحريم شركات التأمين التجارية.
هذا من الأسباب؛ وإلا فيوجد أسباب أخرى كالربا في بعض المعاملات.
ويستثنى من تحريم الغرر ما ذكره النووي رحمه الله:
(1) انظر زيادة التفصيل «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (4/ 18).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1):
قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جداً.
ويستثنى من بيع الغرر أمران:
أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعاً فلو أفرد لم يصح بيعه.
والثاني: ما يتسامح بمثله إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه وتعيينه.
فمن الأول: بيع أساس الدار، والدابة التي في ضرعها اللبن، والحامل.
ومن الثاني: الجبة المحشوة، والشرب من السقاء.
قال: وما اختلف العلماء فيه مبني على اختلافهم في كونه حقيراً أو يشق تمييزه أو تعيينه فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس. انتهى
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: وقد يحتمل بعض الغرر بيعاً إذا دعت إليه حاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن؛ فإنه يصح للبيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار؛ ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها.
وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز.
وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهراً، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين.
وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم.
وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض، مع جهالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا.
وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون، والطير في الهواء.
قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده على ما ذكرناه: وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيراً جاز البيع وإلا فلا.
وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده كبيع العين الغائبة؛ مبني على هذه القاعدة.
فبعضهم يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع. والله أعلم (2).
قال المؤلف رحمه الله: (والعُربُونِ، والعصيرِ إلى من يتَّخذُهُ خَمْراً، والكَالِئ بالكَالِئ، وما اشتَراهُ قَبْلَ قبْضِهِ، والطَّعَامِ حتى يَجرِي فيه الصَّاعَانِ)
ولا يجوز بيع العربون.
يقال: عُربُون، وعُربَان، وعَرَبُون
العربون: أن يُعطى البائع درهماً أو دراهم- مالاً - على أنه من الثمن.
نفس صورة العربون المعروفة عند الناس اليوم؛ يُعطي المشتري البائع جزءاً من ثمن البضاعة، قبل أن يشتريها، على أنه إذا ترك الشراء كان ما دفعه حقّاً للبائع يأخذه.
يهمنا بيان صورة المسألة وحكم المسألة ودليلها وعلتها إن وجدت، هذا ما أحرص على بيانه بأسهل عبارة، وإلا الخلافات والتفريعات كثيرة، ولكن كَوْن هذا الكتاب للمبتدئين نكتفي بهذه الأمور: تصوُّر المسألة مع ذكر الدليل، معرفة المعنى الذي جاءت له المسألة، وحكم.
وبعد أن تُعرف هذه الأمور، بقية المسائل تصبح سهلة، والخلافات بين العلماء والأقوال مجرد أن تقرأ في كتاب كبير تستطيع أن تفهم على العلماء بسهولة بما أنك فهمت صورة المسألة وعرفت دليلها وعرفت حكمها وعلتها إن وجدت.
حكم بيع العربون
اختلف فيه أهل العلم ما بين مجوِّز ومانع، فبعضهم جوَّز بيع العربون والبعض منع.
وسبب الخلاف؛ اختلاف الأدلة فقد جاء عند مالك في «الموطأ» قال: بلغني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العُربَان «(1)، وأخرجه أبو داود وغيره أيضاً، وبيَّن الإمام البيهقي رحمه الله ضعف هذا الحديث، والعُربَان والعربون بمعنى واحد لا فرق.
هذا حديث فيه النهي عن بيع العربون.
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 609)، وأحمد (6723)، وأبو داود (3502)، وابن ماجه (2192). وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 559): هكذا روى مالك بن أنس هذا الحديث في «الموطأ» لم يسم من رواه عنه. انتهى
ورواه البيهقي من طرق أخرى عن عمرو بن شعيب؛ ضعيفة، ثم قال: والأصل في هذا الحديث مرسل مالك.
وانظر «البدر المنير» (6/ 524)، و «التلخيص الحبير» (3/ 44) ففيهما زيادة فائدة.
وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» عن زيد بن أسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلَّ العُربان في البيع» (1)،
يعني أحل بيع العربون، وهو مرسل، من رواية زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزيد بن أسلم تابعي، وليس صحابياً، فالحديث مرسل؛ فهو ضعيف أيضاً.
فحديث التحريم ضعيف، وحديث الإباحة أيضاً ضعيف، ولا يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
فالذين حرَّموا احتجوا بحديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وقالوا بأنه من أكل أموال الناس بالباطل، فالبائع الذي أخذ المال من المشتري عندما ترك الشراء؛ أخذه من غير وجه حق.
والذين أحلوا استدلوا بحديث زيد بن أسلم الذي هو أيضاً ضعيف، وضعَّفوا الحديث الأول وردّوا القول الذي يقول بأنه من أكل أموال الناس بالباطل، قالوا بل هو مالٌ أُخذ للضرر الذي يلحق البائع من تأخير البضاعة عنده، ما أُخِّرت البضاعة هذه ولا حُجزت إلا لأن المشتري قد أرادها، لذلك أُخرت، وإلا ربما بيعت في الفترة التي حجزها المشتري، ولا تباع بسببه؛ فحصل تعطيل وحصل ضرر على البائع نتيجة الحجز الذي حجزه المشتري، فلما تركه صار المال الذي حُجز من حق البائع مقابل تأخير بيع البضاعة، فليس هو من أكل أموال الناس بالباطل في شيء.
وهذا القول الثاني هو القول الصحيح، أن بيع العربون جائز؛ لأن الأصل حل البيع ما لم يأتِ دليل صحيح على تحريمه، وهذه المسألة ليس فيها دليل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتعليل الذي عللوا به أيضاً لا يسلَّم فلم يبقَ إلا القول بالجواز، وهذا القول منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عمر، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وأما بيع العصير إلى من يتخذه خمراً.
فالمراد بالعصير عصير العنب، فإن الشخص إذا أبقاه وخزَّنه تحول إلى خمر مسكر، ومن علم أن مشتريه أراد أن يتخذه خمراً حرُم عليه بيعه له؛ لقول الله تبارك وتعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وبيع العصير إلى من يتخذه خمراً فيه إعانة له على فعل ذلك، فيدخل في النهي.
وأخرج أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه «(2).
فلعن في هذا الحديث شارب الخمر ومن أعانه على ذلك.
والبيع باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم» من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد «(3) وهذا البيع ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (23195).
وانظر «البدر المنير» (6/ 526)، و «التلخيص الحبير» (3/ 45) ففيهما زيادة فائدة.
(2)
أخرجهأحمد (5716)، أبو داود (3674)، وابن ماجه (3380).
(3)
تقدم تخريجه، وهو في الصحيح.
وهكذا الحكم عام في كل ما يُقصد به الحرام؛ كبيع السلاح في وقت الفتنة التي تقع بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً؛ لأنك تعلم أو غلب على ظنك أن المشتري اشترى السلاح كي يقتل به مسلماً آخر، وهذا الفعل كبيرة من الكبائر، وأنت ببيعك السلاح له تكون أعنته عليها، وفاعل ذلك داخل في قول الله تبارك وتعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
أو بيع السلاح لقُطّاع الطرق كذلك، لأن قطاع الطرق يقتلون به الناس سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين من المستأمنين أوالمعاهدينأو الذميين، فمثل هؤلاء لا يجوز بيع السلاح لهم لأنهم من المفسدين في الأرض.
وبيع الأَمة للغناء كذلك يدخل في هذا؛ لأن الغناء محرَّم، فبيع الأمة لأجل الغناء من التعاون على الإثم والعدوان.
أو إجارة داره لبيع الخمرأو لفتح بنك ربوي أو محل قمار كمحلات لعب البلياردو، شخص جاءك وأنت عندك دكاكين، وأراد أن يستأجر منك دكاناً ليبيع الخمر، يفتحها خمّارة أو يفتحها كما يسمونه اليوم (نادي ليلي)، (كازينو)، (بار)، أو ما شابه من الأشياء أو محل لبيع الدخان، فمثل هذا داخل كله في قول الله تبارك وتعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
شخص أراد أن يفتح محلاً للأنترنت هذا موجود كثير ونُسأل عنه كثيراً.
الأنترنت يستعمل فيما يحل وفيما يحرم، ومثل هذا ينظر فيه إلى الغالب، الغالب على استعمال مقاهي الأنترنت في الأفلام الإباحية أفلام الزنا والموسيقى والغناء وما شابه من الفساد، فإذا كان هذا هو غالب الاستعمال فيقال يحرم فتحه لأنه من التعاون على الإثم والعدوان.
والله أعلم
والإثم الذي ورد في الآية هو: ترك ما أمر الله بفعله.
والعدوان: مجاوزة ما حدَّ الله في دينكم وما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، فهما يشملان جميع المحرمات.
وأما بيع الكالئ بالكالئ.
أصله مأخوذ من كلأَ الدَّين أي أخَّره.
والمراد به عند الفقهاء: بيع الدَّين بالدين.
وهو بيع مؤجل بمؤجل، بيع الشيء الغائب عن مجلس العقد.
يعني بيع الشيء الغائب عن مجلس العقد دون قبضه مؤجلاً بالشيء الغائب عن مجلس العقد مؤجلاً، فكل ما أُجِّل فيه الثمن والمبيع وأُخّر قبضه يكون من بيع الكالئ بالكالئ؛ كأن يشتري مثلاً شخص ما شاة بمائة دينار، زيد وعمرو، زيد عنده شاة تساوي مائة دينار، وعمرو جاء إليه وأراد أن يشتري منه الشاة بمائة دينار، والشاة ليست حاضرة في المجلس مجلس العقد بل أجل تسليمها ولا عمرو معه المائة دينار في المجلس كذلك أجل تسليمها.
وتعاقدا في ذاك المجلس على البيع على أن هذا له الشاة وهذا له المائة دينارمؤجلاً، لا المائة دينار موجودة ولا الشاة موجودة فكلاهما غائب مؤجل فصار دين بدين، الثمن والمبيع.
هذا البيع باطل بالإجماع، فإذا حضر الثمن أو المبيع مجلس العقد وقبض في المجلس صح البيع؛ إذا دُفعت المائة دينار في المجلس ثم سلَّمه بعد ذلك الشاة، صح البيع إذا كانت الشاة معلومة للمشتري غير مجهولة، أو سلَّمه الشاة، وأخر تسليم المال صح البيع، لكن أن تكون الشاة مؤجلة وتكون المائة دينار أيضاً مؤجلة هذا لا يجوز.
ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ «(1) أخرجه الحاكم وغيره، ولكن الإمام أحمد رحمه الله ضعَّف هذا الحديث، ونقل الاتفاق على تحريم ذلك (2).
وأما ما اشتراه قبل قبضه.
فيحرم بيع الشيء قبل قبضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تُباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم «(3) رواه زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي؛ حتى تقبض بنقلها من مكانها.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال»: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو الطعام المباع حتى يُقبض، قال ابن عباس: ولا أحسِب كل شيء إلا مثله» (4).
كل شيء مثل الطعام فليس النهي خاصاً بالطعام كما ذهب إليه بعض أهل العلم.
ابن عباس يقول: وأحسب كل شيء مثله، ويؤكد ما ذهب إليه ابن عباس حديث حكيم بن حزام قال قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها، وما يحرم عليّ؟ فقال:«إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» (5) هذا لفظ عام في الطعام وفي غيره.
قال البيهقي: هذا إسناد حسنٌ متصل.
وقال الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم: كرهوا أن يبيع الرجل ما ليس عنده.
قلت: والحديث المتقدم: حديث زيد بن ثابت؛ يقوي هذا المعنى.
فإذا ذهبت إلى البنك وأردت أن تشتري منه سيارة، فيقول لك: اذهب إلى معرض السيارات وعين السيارة التي تريدها وأحضر لنا فاتورة بثمن، فتذهب إلى المعرض وتأتي لهم بثمن السيارة أن ثمنها عشرة آلاف دينار وتعينها لهم، فيبيعك البنك هذه السيارة بعشرين ألفاً،
(1) أخرجه الدارقطني (3061)، والحاكم (2/ 65)، والبيهقي (5/ 474)، في إسناده من لا يحتج به، انظر تفصيل القول فيه «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (277) لشيخنا مقبل الوادعي رحمه الله، و «البدر المنير» لابن الملقن (6/ 569).
(2)
انظر «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (6/ 44)، و «البدر المنير» لابن الملقن (6/ 569).
(3)
أخرجه أحمد (21668)، وأبو داود (3499).
(4)
أخرجه البخاري (2135)، ومسلم (1525).
(5)
أخرجه أحمد (15311)، وأبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4613)، وابن ماجه (2187)، بلفظ:«لا تبع ما ليس عندك» ، وجاء باللفظ المذكور عند بعضهم.
والسيارة مكانها في المعرض، حتى وإن كان البنك قد وقَّع عقداً مع المعرض على أن يشتري هذه السيارة، لا يكفي؛ لأنه لم يقبض السيارة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشيء حتى يُقبض، وإن تم العقد بينه وبين صاحب المعرض، وإن تم الشراء بينه وبينه إلا أن القبض لم يتحقق، فالسيارة لا زالت في المعرض لم يخرجها، ولا يتحقق القبض في هذه الحالة حتى يخرجها البنك من المعرض، فإن باعها بعد ذلك من غير أن يُلزم المشتري بأي نوع من الإلزام قبل ذلك فيجوز وإلا فلا.
ومهم أن نعلم أن الشراء شيء والقبض شيء آخر، عقد الشراء إذا جئت للشخص وقلت له: أريد أن أشتري منك سيارتك، وقال لك: بعتك وهو استلم المال، تم العقد بينهما، فإذا تفرقا لزم البيع لا يجوز لأحدهما أن يرجع فيما عقده مع الآخر، لكن مسألة القبض مسألة زائدة.
كيف يتم التقابض الآن؟
الأشياء المباعة:
إما أن تنقل؛ كالسيارة مثلاً، أو الطعام، فإذا أخرجها المشتري من المكان الخاص بالبائع يكون قد قبَضَها، قبْضُها يكون بنقلها من المكان الذي يختص بالبائع.
وإما أنها لا تنقل؛ كالعقارات والأراضي، فهذه تقبض بالتَّخْلِيَة، ومعنى التخلية أن تسلمني مفتاح البيت وتخلي بيني وبينه أتصرف به كما أشاء، بحيث أتمكن من الانتفاع به فيما يُقصد منه.
فالبيت يقصد للسكنى فتمكنني من سكناه، والأرض تقصد للبناء أو للزراعة فتمكنني من بنائها أو زرعها.
وكل شيء بعد ذلك قبضه على حسب العرف ما عُدّ في العرف قبضاً فهو قبض.
وحكمة النهي عن بيع السلع قبل قبضها، إغلاق الطريق على المتحايلين على الربا، كما يحدث الآن في كثير من البنوك الإسلامية، فهو سد للذريعة.
وكذلك قبل القبض تكون السلعة في ضمان البائع إلى أن يقبضها المشتري، فإذا هلكت أوعدمت يكون ضمانها على البائع، فإذا باعها المشتري يكون باع ما لم يضمن، يكون باع ما لم يتحمل تبعاته.
وأما الطعام الذي يجري فيه الصاعان، فقد ورد فيه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه» نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري «(1).
قالوا معنى ذلك: إذا باع الطعام بالكيل؛ فلا يجوز لمن اشتراه أن يبيعه بالكيل الأول بل لابد أن يكال ثانية عند بيعه.
(1) أخرجه ابن ماجه (2228)، في سنده من لا يحتج به، انظر «البدر المنير» لابن الملقن (6/ 570).
هذا ما بيع بالكيل، وأما ما بيع مجازفة أي من غير كيل ولا وزن؛ فيجوز بيعه من غير كيل ولا وزن.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوزُ الاستِثنَاءُ في البيعِ إلا إذا كان مَعلُوماً، ومنه استثناءُ ظَهرِ المَبِيع)
صورة المسألة أن تقول لرجل مثلاً: بعتك عبيدي إلا عبداً، أو بعتك سياراتي إلا سيارة، الآن العبد هذا المستثنى مجهول، السيارة التي استُثنيت مجهولة، ففيه غرر، حتى يكون المستثنى معلوماً، عندها يجوز، فإذا قلتَ: بعتك عبيدي إلا زيداً، وزيد هذا أحد عبيدك وهو معلوم، فمثل هذا الاستثناء جائز إذ لا غرر فيه.
قال المؤلف: ومنه استثناء ظهر المَبيع، أي من الاستثناء المعلوم الجائز؛ استثناء ظَهر المبيع؛ كأن يكون عندك جمل أو سيارة، تبيع هذا الجمل لشخص، تقول له: ولكن أشترط أن أركب ظهر الجمل من هذا المكان إلى البيت الفلاني أو إلى المدينة الفلانية، هذا استثناء من البيع، استثناء منفعة، ولكنه استثناء معلوم.
دليل هذا حديث جابر عند مسلم في صحيحه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثُّنَيّا» (1)، بيع الثُّنَيّا يعني الاستثناء في البيع، كالمثال المتقدم: بعتك عبيدي إلا عبداً، استثناء شيء مجهول.
وعند أبي داود زيادة: » إلا أن يُعلم «(2).
يعني إلا أن يكون المستثنى معلوماً.
والدليل على أن استثناء ظهر المبيع - أي الركوب على ظهر الدابة للسفر أو النقل أو غير ذلك- جائز؛ حديث جابر في الصحيحين «أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملاً، وقال: فاستثنيت حُملانَه إلى أهلي» (3).
جابر يقول: بعت الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم واستثنيت حُمْلانَه إلى أهلي، يعني قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أشترط أن يحملني هذا الجمل إلى أهلي وكانوا في الطريق إلى المدينة.
وفيه: قال له النبي صلى الله عليه وسلم»: لك ظهره إلى المدينة «.
يعني لك أن تركبه وأن يوصلك إلى المدينة، ففي هذا الحديث اشترط جابر رضي الله عنه شيئاً معلوماً إلى وقتٍ معلوم، فيجوز مثل هذا الاستثناء، أما إذا كان الاستثناء غير معلوم فلا يجوز ويدخل في النهي.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجوزُ التفريقُ بين المَحَارمِ، ولا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، والتَّناجُشُ، والبَيعُ على البَيعِ، وتَلَقِّي الرُّكبَانِ، والاحتِكارُ، والتَّسْعِيرُ)
هذه مجموعة من البيوع المحرمة لعلل مختلفة.
(1) أخرجه مسلم (1536) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
أخرجها أبو داود (3405).
(3)
أخرجه البخاري (2718)، ومسلم (715).
قال: ولا يجوز التفريق بين المحارم.
أي عند بيع العبيد والإماء المملوكين، كأن يفرِّق الشخص بين الأختين أو بين الأخوين أو بين الأم وابنها أو بين الأب وابنه، هؤلاء كلهم من المحارم فلا يجوز التفريق بينهم على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
استدل المؤلف ومن قال بقوله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة «(1) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري وهو حديث ضعيف.
وكذا حديث علي» أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما وفرَّقت بينهما، فذكرت ذلك له فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعاً «(2) يعني مع بعضهما لا تفرِّق بينهما.
أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم وغيرهما وهو ضعيف أيضاً.
وفي حديث أبي موسى قال: » لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرَّق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وبين أخيه «(3)
أخرجه ابن ماجه وهو ضعيف.
ورويت أحاديث أخرى مرفوعة.
والخلاصة أنه لا يصح عندي شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن نقل أهل العلم اتفاق الفقهاء على منع البيع الذي يؤدي إلى التفريق بين الأم وولدها الصغير، التفريق بين الأم وولدها الصغير وليس بين المحارم كلهم، لم يتفقوا على هذا، إنما الاتفاق حصل فقط على منع التفريق بين الأم وابنها الصغير في البيع رحمة به لحاجته إليها.
قال ابن المنذر رحمه الله في كتابه «الأوسط» وهو من أنفس كتب الفقه الذي يسمى اليوم بالفقه المقارَن، فقه مبني على طريقة أهل الحديث، فقه سلفي بمعنى الكلمة.
قال: وأجمع كل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على التفرقة بين الولد وبين أمه، والولد طفلٌ
(1) أخرجه أحمد (23499)، والترمذي (1566). قال ابن عبد الهادي في المحرر (857): رواه أحمد والترمذي وحسنه، والدارقطني والحاكم وقال:(صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)؛ وفي قوله نظر: فإنه من رواية: حيي بن عبد الله، ولم يخرج له في الصحيح شيء، بل تكلم فيه البخاري وغير واحد وقد روي من وجه آخر منقطع. انتهى وانظر «البدر المنير» (6/ 519).
(2)
أخرجه أحمد (760)، والترمذي (1284)، وابن ماجه (2249)، انظر علته في «البدر المنير» (6/ 521).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2250)، وقال البيهقي بعدما أخرجه من طريق إبراهيم: إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع هذا لا يحتجُّ به.
وقال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 25): وذكر الدارقطني فيه اختلافاً على طليق، فمنهم من يرويه عن طليق عن أبي بردة عن أبي موسى، ومنهم من يرويه عن طليق عن عمران بن حصين، ومنهم من يرويه عن طليق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهكذا ذكره عبد الحق في «أحكامه» من جهة الدارقطني، ثم قال: وقد اختلف فيه على طليق، فرواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن طليق عن أبي بردة عن أبي موسى، ورواه أبو بكر بن عياش عن التيمي عن طليق عن عمران بن حصين، وغير ابن عياش يرويه عن سليمان التيمي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهو المحفوظ عن التيمي، انتهى كلامه.
قال ابن القطان: وبالجملة فالحديث لا يصح، لأن طليقاً لا يعرف حاله، وهو خزاعي، انتهى كلامه. انتهى من نصب الراية.
لم يبلغ سبع سنين ولم يستغنِ عن أمه؛ غير جائز (1).
هذه الصورة المتفق عليها، أن الولد إذا كان أقل من سبع سنين ولم يستغنِ عن أمه في الطعام والشراب والملبس فيحتاج إليها في كل هذا، هنا لا يجوز التفريق بينه وبين أمه عند البيع، هذا محل اتفاق، فإذا وقع البيع فالبيع باطل.
واختلفوا في السن التي يجوز التفريق بعدها، وما اتفقوا عليه هو أن الولد إذا كان لا يزال لا يستغني عن أمه في الطعام والشراب والملبس فلا يجوز التفريق بينهم، وذكر ابن المنذر أن ذلك إلى السنة السابعة، واختلفوا بعد ذلك، فمن قائل إلى البلوغ ومن قائل حتى بعد البلوغ، أقوال.
ما أجمعوا عليه نقول به أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها إلى السن السابعة؛ لأن الولد لا يستغني عن أمه في هذه السن، وبعد ذلك مَنْ أتى بقولٍ فعليه بدليله، فلا يؤخذ بقولٍ بلا دليل، هذا الدليل معنا في الإجماع على أن سن السابعة لا يجوز التفريق بينه وبين أمه إليها، لكن من سن السابعة نقول يجوز متى صار قادراً على خدمة نفسه؛ لعدم الدليل المانع من ذلك.
أما مسألة المحارم فهذا كما ذكرنا الأحاديث الواردة فيها ضعيفة لا تصح فلا يُعتمد عليها.
قال المؤلف رحمه الله: ولا أن يبيعَ حاضرٌ لِبادٍ.
الحاضر هو المدني، المقيم في المدينة، والبادي نسبة إلى البادية، والمراد القادم من البادية ليبيع سلعته، فالحاضر في المدينة لا يبيع لشخص جاء من خارج المدينة لبيع سلعته.
صورة المسألة: أن يحمل البدوي متاعه إلى بلد يريد أن يبيعه بسعر يومه، فيأتيه الحاضر فيقول له: ضع متاعك عندي واتركه أبيعه لك شيئاً فشيئاً بثمنٍ أغلى من السعر الذي ستبيع به؛ لأن الذي يأتي من الخارج يريد أن يبيع ويرجع إلى أهله، فيضطر أن يبيع بأقل من سعر السوق، فإذا أخذ الحاضر البضاعة من هذا الشخص وباعها له سيبيعها بسعر السوق وربما أغلى، ويصير سمساراً له، هذا الذي نهي عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يكون له سمساراً (2).
وهذا يشمل كل من جاء من خارج البلد فالعلة تشملهم جميعاً.
جاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال»: لا يبِع حاضر لباد «(3).
وفي حديث ابن عمر قال: » نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد «(4).
(1)«الأوسط» (11/ 249).
(2)
أخرجه البخاري (2258)، ومسلم (1521).
(3)
أخرجه البخاري (2262)، ومسلم (1520).
(4)
أخرجه البخاري (2159).
قال الترمذي رحمه الله (1223): «والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: كرهوا أن يبيع حاضر لباد، ورخص بعضهم في أن يشتري حاضر لباد. وقال الشافعي: يكره أن يبيع حاضر لباد، وإن باع فالبيع جائز» .انتهى
والعلة بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم.
في حديث جابر عند مسلم أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى علة النهي فقال»: لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض «(1).
فكانت العلة عند أهل العلم: نفع أهل البلد، ودفع الضرر عنهم برُخص الأثمان والتوسعة في السِّعر؛ لأن المصلحة الخاصة إذا تعارضت مع المصلحة العامة، قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
قال ابن قدامة في المغني (4/ 162، مسألة 3104): والمعنى في ذلك: أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد؛ ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى. انتهى
قال المؤلف رحمه الله: والتَّناجُش.
التناجش من النَّجْش وأصله الاستثارة، أثاره فاستثار.
وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة ولا يريد شراءها ولكن ليَسمعه غيره فيزيد على زيادته.
بعضهم يفعل هذه الحيلة، اثنان يتفقان مع بعضهما، أحدهما يضع السلعة يبيعها، ويرى الناس مجتمعين عنده فيذهب الآخر ويضع ثمناً في للسلعة هو لا يريد أن يشتري ولكن يريد من الناس أن يضعوا ثمناً أعلى من الثمن الذي وضعه هو.
هذا هو بيع النجش، هذا فيه خداع واضح لذلك نهي عنه، وهو محرَّم.
والمشتري المخدوع إذا اشترى سلعة تعرض فيها لهذا الفعل فهو مخيَّر، إن شاء أخذ السلعة وإن شاء ردها.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُتلقى الركبان لِبَيْع، ولا يبع بعضكم على بعض، ولا تناجشوا .... » (2) الحديث.
قال ابن قدامة في المغني (5/ 18): «(والنجش منهي عنه، وهو: أن يزيد في السلعة، وليس هو مشترياً لها).
(1) أخرجه مسلم (1522).
(2)
أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (1515).
النجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ليقتدي به المستام، فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه، فيغتر بذلك، فهذا حرام وخداع، قال البخاري: الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل.
وروى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش» ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد» متفق عليهما.
ولأن في ذلك تغريراً بالمشتري، وخديعة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الخديعة في النار» .
فإن اشترى مع النجش، فالشراء صحيح، في قول أكثر أهل العلم، منهم الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن البيع باطل، اختاره أبو بكر، وهو قول مالك؛ لأن النهي يقتضي الفساد .... ». انتهى
ولكن ابن عبد البر نقل عن الإمام مالك خلاف ذلك، فقال في التمهيد (13/ 348):
وأما النجش فلا أعلم بين أهل العلم اختلافاً في أن معناه: أن يعطي الرجل الذي قد دسه البائع وأمره، في السلعة عطاء - لا يريد شراءها به- فوق ثمنها؛ ليغتر المشتري فيرغب فيها أو يمدحها بما ليس فيها، فيغتر المشتري حتى يزيد فيها أو يفعل ذلك بنفسه، ليغر الناس في سلعته، وهو لا يعرف أنه ربها.
وهذا معنى النجش عند أهل العلم، وإن كان لفظي ربما خالف شيئاً من ألفاظهم، فإن كان ذلك فإنه غير مخالف لشيء من معانيهم.
وهذا من فعل فاعله مكر وخداع لا يجوز عند أحد من أهل العلم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش، وقوله (لا تناجشوا).
وأجمعوا أن فاعله عاصٍ لله إذا كان بالنهي عالماً.
واختلف الفقهاء في البيع على هذا إذا صح وعلم به؛ فقال مالك: لا يجوز النجش في البيع، فمن اشترى سلعة منجوشة فهو بالخيار إذا علم، وهو عيب من العيوب.
قال أبو عمر: الحجة لمالك في قوله هذا عندي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصراة الخيار إذا علم بعيب التصرية ولم يقض بفساد البيع، ومعلوم أن التصرية نجش ومكر وخديعة؛ فكذلك النجش يصح فيه البيع، ويكون المبتاع بالخيار من أجل ذلك قياساً ونظراً. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: والبيع على البيع.
لمِا جاء في حديث أبي هريرة المتقدم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُتلقى الركبان لِبَيْع، ولا يبع بعضكم على بعض، ولا تناجشوا .... » الحديث.
وفي رواية: » ولا يبع الرجل على بيع أخيه «(1).
(1) أخرجه البخاري (2139)، ومسلم (1412).
قال أهل العلم: وذلك إذا تقاربا وركن البائع إلى السائم؛ أي جاء شخص يسوم السلعة، يعني يعطي فيها سعراً، يقول أنا أشتري منك هذه بعشرة دنانير، والبائع قال له: اجعلها أكثر من ذلك، حتى صار بينهم توافق في السعر، وركنا إلى بعضهما، وقاربا على إتمام العقد، في هذه الحالة لا يجوز لأحد أن يأتي ويدخل بينهما ويضع سعراً جديداً للسلعة، أو يعرض سلعة أخرى على المشتري، وإذا لم يتم التوافق ولا يزال بينهم تفاوض على السعر ولا يوجد بوادر اتفاق؛ فجائز.
وجوَّزوا أن يأتي شخص مثلاً ويضع سعراً في السلعة دون أن يكون بينهما تقارب؛ جمعاً بين الأدلة، فقد ثبت جواز بيع المزايدة.
وبيع المزايدة، يعني بيع الشيء فيمن يزيد، تأتي بسلعة تقول: أعطي فيها عشر دنانير، من يزيد؟
يقول آخر: أزيد خمسة عشر.
يقول ثالث: عشرين
…
وهكذا حتى يستقر الثمن عند من يدفع أكثر؛ هذا جائز عندهم.
ذكر أدلة جوازه الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» (1): بوَّب عليه باب بيع المزايدة.
وذكر فيه قول عطاء: أدركت الناس لا يرون بأساً ببيع المغانم فيمن يزيد.
فإذا جاز وهو من بيع بعضهم على بعض؛ لأن أحدهم يضع في السلعة سعراً بعد أن وضع أخوه سعراً لشرائها، لكن قالوا هذا غير داخل في النهي؛ لأنه قد جاز بيع المزايدة، فخصوا النهي في الصورة التي ذكرناها جمعاً بين الأدلة.
قال الإمام مالك رحمه الله في «الموطأ» (البيوع: 96): وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نرى - والله أعلم - لا يبع بعضكم على بيع بعض؛ أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم، وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب، وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذي نهي عنه. والله أعلم.
قال مالك: ولا بأس بالسوم بالسلعة تُوْقَف للبيع، فيسوم بها غير واحد.
ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها؛ أُخِذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه، ولم يزل الأمر عندنا على هذا. انتهى
وقال ابن المنذر في «الإقناع» (1/ 253): ثبت أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يبع بعضكم عَلَى بيع بعض» .
و«نهى أن يستام الرجل عَلَى سوم أخيه» ، وذلك إذا تقاربا وركن البائع إِلَى السلعة ولم يبق إلا العقد، وإذا كان على غير ذلك؛ فجائز؛ للحديث الذي روينا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه «باع قدحاً وحلساً فيمن يزيد» .انتهى
(1) انظر الحديث رقم (2141 فما قبله).
وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (13/ 318) بعدما بين مذهب مالك والشافعي في ذلك: ولا خلاف عن الشافعي وأبي حنيفة في أن هذا العقد صحيح وإن كره له ما فعل، وعليه جمهور العلماء.
ولا خلاف بينهم في كراهية بيع الرجل على بيع أخيه المسلم وسومه على سوم أخيه المسلم، ولم أعلم أحداً منهم فسخ بيع من فعل ذلك؛ إلا ما ذكرت لك عن بعض أصحاب مالك بن أنس، ورواه أيضاً عن مالك، وأما غيره فلا يفسخ البيع عنده؛ لأنه أمر لم يتم أولاً وقد كان لصاحبه أن لا يتمه إن شاء
…
انتهى.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: قال أهل العلم: العقد صحيح؛ لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات المعقود عليه، وإنما يعود إلى أمر خارج وهو العدوان على المسلم فيكون العقد حراماً، ويدل على ذلك: أن هذا الذي باع على بيع أخيه لو أذن له الذي بيع على بيعه لكان العقد صحيحاً ولا شيء فيه، فإذاً يكون التحريم غير عائد إلى ذات المنهي عنه، ويكون العقد صحيحاً مع الإثم. انتهى
قلت: علة النهي كما تبين من كلام أهل العلم: أنه ظلم، ويسبب الشحناء والعداوة بين المسلمين. والله أعلم
قال رحمه الله: وتلقي الرُّكبان.
تلقي الركبان كذلك لا يجوز، الركبان جمع راكب، وهم هنا: الذين جاءوا إلى السوق لبيع بضاعتهم فيه، والمقصود إذا جاء مثلاً خبر بقدوم قافلة للتجارة أو أحد من الناس لبيع بضاعته في السوق؛ فلا تذهبوا وتستقبلوها وتشتروا منها قبل أن تنزل إلى السوق؛ لأنهم قبل أن ينزلوا إلى السوق لا يعرفون الأسعار، وأنتم ربما عندما تستقبلونهم تأخذون منهم السلع بثمنٍ أقل من ثمنها في السوق.
ومثل هذا لا يجوز.
وعلة النهي: خداع الركبان.
ودليل النهي: حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يتلقى الركبان لبيع» (1).
هل يصح البيع إذا وقع: في رواية للحديث الذي تقدم: قال: » فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» (2) سيده: أي صاحب البضاعة، إذا جاء إلى السوق ووجد نفسه قد غُبِن أي خُدع، فله أن يرجع في البيع إذا أراد، فالعقد صحيح مع إثم المخالفة، وللبائع الخيار بين أن يفسخ العقد أو يقره إذا وجد نفسه قد خدع. والله أعلم
(1) أخرجه البخاري (2150)، ومسلم (1515).
(2)
أخرجه مسلم (1519).
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (5/ 22): قال: (ونهي عن تلقي الركبان)؛ فإن تُلُقُّوا، واشتُرِي منهم، فهم بالخيار إذا دخلوا السوق، وعرفوا أنهم قد غُبِنوا؛ إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا.
روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب، فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق، فربما غبنوهم غبناً بيناً، فيضرونهم، وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم، والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعاً، ويتربصون بها السِّعر، فهو في معنى بيع الحاضر للبادي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وروى طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» ، وعن أبي هريرة مثله، متفق عليهما.
وكرهه أكثر أهل العلم، منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق.
وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأسا.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع.
فإن خالف، وتلقى الركبان، واشترى منهم، فالبيع صحيح في قول الجميع. وقاله ابن عبد البر. وحكي عن أحمد رواية أخرى، أن البيع فاسد لظاهر النهي.
والأول أصح؛ لأن أبا هريرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلقوا الجَلَب، فمن تلقّاه، واشترى منه، فإذا أتى السوق فهو بالخيار» . رواه مسلم، والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا لمعنى في البيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المُصرّاة، وفارق بيع الحاضر للبادي، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار، إذ ليس الضرر عليه، إنما هو على المسلمين.
فإذا تقرر هذا، فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غُبِن.
وقال أصحاب الرأي: لا خيار له.
وقد روينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، ولا قول لأحد مع قوله.
وظاهر المذهب: أنه لا خيار له إلا مع الغبن؛ لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر، ولا ضرر مع عدم الغَبْن، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ويحمل إطلاق الحديث في إثبات الخيار على هذا؛ لعلمنا بمعناه ومراده؛ لأنه معنى يتعلق الخيار بمثله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار إذا أتى السوق، فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع.
ولم يُقدّر الخِرقي الغبن المُثبِت للخيار، وينبغي أن يتقيد بما يخرج عن العادة؛ لأن ما دون ذلك لا ينضبط
…
انتهى
قال المؤلف رحمه الله: والاحتكار.
الاحتكار هو شراء السلعة وحبسها إلى أن يرتفع سعرها، هذا معنى الاحتكار، عرفه المالكية بقولهم: الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق.
والاحتكار محرَّم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: » لا يحتكر إلا خاطئ «أخرجه مسلم (1).
ولا فرق بين سلعة وأخرى، بما أن الناس يحتاجونها فلا يجوز احتكارها.
وخص بعض أهل العلم التحريم بالقوت، وخصه في بعض البلاد دون بعض، والصحيح العموم في كل ما يضر بالسوق وفي كل موضع لظاهر الأدلة، وعليه الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن المنذر في الإشراف (6/ 54): وفيه قول ثان: وهو أن الاحتكار يحرم في كل موضع، في كل سلعة، هذا قول مالك.
وعلة التحريم: دفع الضررِ عن الناس، والتضييقِ عليهم.
بهذه العلة يقال: يجوز الاحتكار إذا لم يكن فيه ضرر على الناس وتضييق عليهم. والله أعلم
ثم قال المؤلف رحمه الله: والتَّسعير.
التسعير وضع سعر محدد للسلعة، معروف، كثير من الدول تتعامل به اليوم، يضعون لبعض السلع أسعاراً معيَّنة لا يجوزون مخالفتها، وهذا جاء فيه حديث عن أنس قال: قال الناس: يا رسول الله! غلا السعر فسعِّر لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال «(2).
والتسعير عند أهل العلم ينقسم إلى قسمين:
قسم يلجأ إليه ولاة الأمور لظلم الناس واحتكارهم، وهذا لا بأس به؛ لأنه من السياسة الحسنة، ورفع الظلم عن الناس.
وقسمٌ آخر يكون سبب رفع الأسعار أمرٌ من عند الله تبارك وتعالى وليس فيه تصرف من قبل التجار ولا ظلم منهم، ولكن أمرٌ من عند الله، بسبب حرب حصلت أو قلة البضاعة في العالم أو ما شابه، مثل هذا مما لا يكون نتيجة تصرُّف التجار وظلمهم للناس، ففي هذه الحالة لا يجوز التدخل وتسعير البضاعة؛ لأنه في هذه الحالة ليس إزالة ظلم وقع، فتدخل
(1) أخرجه مسلم (1605).
(2)
أخرجه أحمد (12591)، وأبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200).
في الحديث المذكور. والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويجبُ وَضعُ الجَوَائِحِ، ولا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبيعٌ، ولا شَرطَانِ في بيعٍ، ولا بيعتانِ في بيعةٍ، وربحُ ما لا يُضمَن، وبيعُ ما ليسَ عندَ البائِعِ. ويجوزُ بشَرطِ عَدمِ الخِدَاعِ، والخِيارُ في المَجلِسِ ثابتٌ ما لم يَتفرَّقَا)
قال: ويجب وضع الجوائح.
الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار.
ووضع الجوائح: يعني إذا باع شخص - مثلاً - إلى آخر ثمار شجرٍ، فأصابتها آفة فأفسدتها قبل أن يقطفها المشتري؛ وجب على البائع أن يرد المال للمشتري، ويتحمل هو الخسارة.
دليل هذا القول ما أخرجه مسلم في صحيحه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح» (1)، وفي رواية: » لو بعتَ من أخيك ثمراً، فأصابته جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ! «(2).
أي أخذك لمال أخيك في هذه الحالة منكر من غير وجه حق، من غير مقابل، فلذلك وجب على صاحب الثمار الأول الذي هو البائع أن يرد المال للمشتري.
ولكن الجائحة المقصودة هاهنا هي الآفة السماوية، وهي ما لا صنع للآدمي فيها، كالريح والحر والبرد والجراد الذي يأتي ويأكل الزرع، هذه آفات سماوية لا صنع للآدمي فيها، فإذا كانت هذه الثمار قد بيعت ولم يتمكن المشتري من أخذها حتى أصيبت بالآفة، فإن المشتري يرجع على البائع بالثمن ويأخذ ما دفعه له.
هذا إذا تلفت كل الثمار أو أكثر الثمار، أما إذا تلف القليل من الثمار فلا يُعتبر هذا التلف جائحة، كم قدر القليل من الثمار الذي إذا تلفت لا تعتبر جائحة؟ يُرجع في ذلك للعرف، عرف المزارعين هم الذين يعرفون ما المعتاد على تلفه من الثمار في كل سنة مثلاً، والتحديد يكون بناءً على العرف؛ لأنه لا يوجد حد شرعي يُرجع إليه ولا حد لغوي، فالتحديد يُرجع فيه إلى العرف.
وقد علَّل العلماء رحمهم الله تضمين البائع جائحة الثمرة، مع أن الضمان على من صارت في ملكه هذا هو الأصل:
بأن قبض الثمار على رؤوس الشجر بالتخلية قبض غير تام، والتخلية: أن يخلي بينه وبين الثمار كي ينتفع بها، فإذا خلّى بينه وبينها فيكون المشتري قد قبض الثمار، لكن هل هذا القبض قبض تام؟ هل صارت هذه الثمار في حوزته بالتخلية؟
لا؛ لا يزال بحاجة إلى قطفها كي تصبح في ملكه وفي قبضته بشكل تام، فالقبض غير تام.
(1) أخرجه مسلم (1554).
(2)
أخرجه مسلم (1554).
قالوا: ولما كان القبض غير تام؛ ضُمِّن البائع ثمن الثمار إذا أصابتها جائحة، بهذا عللوا المسألة (1).
أما إذا أصابت الثمار جائحة بفعل آدمي مثلاً، بفعل فاعل فإنه يخيَّر المشتري بين فسخ البيع مع زيد ومطالبة البائع بما دُفع من الثمن، ويرجع البائع على المتلف بالضمان، أو إمضاء البيع ومطالبة المتلف بدل ما أتلف، فهو مخيَّر بين فسخ العقد وبين إمضائه، فإذا فسخ العقد يكون ما أُتلف حق للبائع فيرجع به على من تسبب بالجائحة من الناس، وإذا لم يفسخ العقد وأتمه فيكون له هو الحق في الرجوع على المسبب (2).
وقال المؤلف: ولا يحل سلف وبيع.
أي بيع مع شرط قرض، فالسلف هنا: القرض، أي الدين.
صورته: أن يقول زيد لعمرو: بعتك سيارتي بألف، بشرط أن تقرضني قرضاً.
أي تعطيني ديناً، هذا منهي عنه، والقاعدة المقررة عند العلماء أن كل قرض جر منفعة مشروطة فهو ربا.
وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» (3).
قال الإمام مالك رحمه الله: بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف.
قال: وتفسير ذلك: أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا، على أن تسلفني كذا وكذا. فإن عقدا بيعهما على هذا، فهو غير جائز، فإن ترك الذي اشترط السلف ما اشترط منه؛ كان ذلك البيع جائزاً. انتهى (4)
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أن يكون يقرضه قرضاً، ثم يبايعه عليه بيعاً يزداد عليه (5). انتهى
وقال المؤلف: ولا شرطان في بيع.
اختلف العلماء في المقصود بهذا الحديث، فذهب البعض إلى ظاهر الحديث الوارد في ذلك، حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع
…
».
ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم «ولا شرطان في بيع «أنه لا يجوز اشتراط شرطين في عقد البيع، كأن يشترط مثلاً على البائع أن يحمّل له البضاعة وأن ينزلها، هذان شرطان في البيع فلو أنه اشترط التحميل فقط جاز لأنه شرط واحد، بعض العلماء فسره بذلك.
(1) انظر «المغني» لابن قدامة (4/ 206 فما بعدها).
(2)
انظر «المغني» لابن قدامة (4/ 206 فما بعدها).
(3)
أخرجه أحمد (6671)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4611).
(4)
«الموطأ» (كتاب البيوع 69).
(5)
«مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» (1847)، وسنن الترمذي (1233).
والبعض الآخر فسره بالنهي عن بيعتين في بيعة، وسيأتي بيانها.
والبعض قال: المقصود شرطان يلزم منهما محذور شرعي هما المنهي عنه، كأن يكون في الشرطين جهالة أو ظلم أو ربا أو غير ذلك من الأمور التي نهى عنها الشارع.
والذي جعل هؤلاء يفسرونه بخلاف ظاهره: الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: » أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1)، فمفهومه كل شرط لا يخالف كتاب الله فهو حق سواء كان واحداً أو اثنين أو أكثر. والله أعلم
قال الترمذي (1234): قال أحمد -أي ابن حنبل-: إذا قال: أبيعك هذا الثوب وعليّ خياطته وقصارته؛ فهذا من نحو شرطين في بيع، وإذا قال: أبيعكه وعلي خياطته فلا بأس به، أو قال: أبيعكه وعلي قصارته فلا بأس به؛ إنما هو شرط واحد. انتهى
وقال ابن عثيمين رحمه الله: والصحيح جواز الجمع بين شرطين، بل بين ثلاثة شروط وأربعة شروط، حسب ما يتفقان عليه، والحديث لا يدل على هذا بوجه من الوجوه، وإنما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا شرطان في بيع» ، الشرطان اللذان يلزم منهما محذور شرعي، وهذا الجمع بين شرطين فيما ذكر، لا يلزم منه محذور شرعي، كالجهل، والظلم، والربا، وما أشبه ذلك.
ويقال: ألستم تجيزون أن يشترط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً؟ فسيقولون: بلى.
فنقول: هذان شرطان في البيع، وأنتم تقولون: إن هذا جائز، فأي فرق؟ ! وعلى هذا فلو شرط حمل الحطب، وتكسيره، وإدخاله في المكان المعد له في البيت لكان هذا الشرط صحيحاً، ولو كانت ثلاثة شروط؛ لأنها شروط معلومة، ولا تستلزم محذوراً شرعيّاً، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فتبين لنا الآن أن الشروط الصحيحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم ثابت، سواء شرط أم لم يشترط؛ لأنه من مقتضى العقد، مثل تسليم البائع المبيع والمشتري الثمن، وكون الثمن حالًّا، وما أشبه ذلك مما لا يحتاج إلى شرط، فهذا إذا شرط فهو توكيد، ولو جمع ألف شرط من هذا النوع فإنه يصح.
الثاني: ما يتعلق بمصلحة العقد وليس نفعاً مستقلاً، أي: ليس نفعاً ينتفع به البائع أو المشتري، ولكنه من مصلحة العقد، مثل: الرهن، وكون العبد كاتباً، والأمة بكراً، والدابة هملاجة وما أشبه ذلك.
الثالث: شرط نفع إما للبائع وإما للمشتري، والذي للبائع، مثل أن يشترط إذا باع داره سكناها شهراً، والذي للمشتري، مثل أن يشترط على البائع أن يحمل الحطب وما أشبه ذلك، فهذان النوعان إذا جمع فيهما بين شرطين، كان البيع على ما ذهب إليه المؤلف ـ وهو المذهب ـ فاسداً، والصواب أنه صحيح ولا بأس به. انتهى من زاد المستقنع.
(1) أخرجه البخاري (2729)، ومسلم (1504).
وقال المؤلف: ولا بيعتان في بيعة.
فسَّر ابن القيم رحمه الله حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ببيع العينة، وسيأتي تفسيرها إن شاء الله.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله ففسّر ذلك ببيع البضاعة بسعرين نقداً بعشرة مثلاً وبالتقسيط بعشرين، وهو الذي نسميه اليوم ببيع التقسيط.
لكن المحرم في المسألة عند الإمام الشافعي رحمه الله الجهالة، أي أن البائع والمشتري لا يتفقان على سعر من السعرين، ويتمان البيع دون تحديد للسعر، يقول لك البائع مثلاً: هذه السيارة كاش بألف دينار وبالتقسيط بألف وخمسمائة دينار، تقول أنا اشتريت، اشتريت بكم؟ بهذا أم هذا؟ لم يحدداه، ففي الثمن جهالة، هذا هو المنهي عنه عند الإمام الشافعي رحمه الله، وأما إذا اتفقا على التقسيط أو الكاش جاز بلا خلاف كما قال البغوي رحمه الله.
والمنتشر بين الناس اليوم بيع صحيح؛ لأن البائع يقول للمشتري نقداً (كاش) بعشرة، وبالتقسيط بعشرين، فيقول له المشتري اشتريت بالتقسيط بعشرين، هذا جائز. والله أعلم
قال البغوي رحمه الله في شرح السنة (8/ 143): وفسروا البيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما: أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة إلى شهر.
فهو فاسد عند أكثر أهل العلم، لأنه لا يُدرى أيهما الثمن، وجهالة الثمن تمنع صحة العقد.
وقال طاوس: لا بأس به، فيذهب به على أحدهما، وبه قال إبراهيم، والحكم، وحماد.
وقال الأوزاعي: لا بأس به، ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحدهما، فإن فارقه قبل ذلك، فهو له بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، أما إذا باته على أحد الأمرين في المجلس؛ فهو صحيح به لا خلاف فيه، وما سوى ذلك لغو .... انتهى
قال المؤلف: وربح ما لم يُضمن.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يُضمن كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، أي ما لم يدخل في ضمان البائع إذا تلف، يعني مثلاً: ذهبت إلى معرض سيارات واشتريت سيارة منه وأبقيت السيارة في مكانها ولم يحصل منك قبض لها، فتلفت السيارة لأي سبب من الأسباب، مَنْ الذي يضمن؟ الذي يضمن صاحبها الأصلي لأنك لم تقبض البضاعة، لم تُدخِل السيارة في ضمانك، فلا يجوز لك بيعها؛ لأن الضمان على صاحبها الأصلي وليس عليك، فبما أنها لم تدخل في ضمانك فلا يجوز لك بيعها.
قال المؤلف: وبيع ما ليس عند البائع.
النهي عنه ذكر في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم.
أي ما لا يملكه، وملكه له يكون بقبضه.
لكن قال الإمام الخطابي: يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنَّه أجاز السّلم، وهو بيع ما ليس عند البائع. انتهى
والقبض هو ما تعارف عليه الناس أنه قبض فهو قبض.
تنبيه على معاملة انتشرت مؤخرا بين البنوك والشركات سئل عنها الشيخ ابن باز رحمه الله:
هناك شركة لها مندوبون لدى معارض السيارات فمن أراد شراء سيارة بالتقسيط فإنه يتفق مع صاحب المعرض على القيمة ثم يتصل بمندوب هذه الشركة فتقوم الشركة بدفع كامل قيمة السيارة لمعرض السيارات ثم تقسط الشركة المبلغ على المشتري بأقساط شهرية بفوائد. نرجو إفادتنا عن جواز التعامل مع هذه الشركة بالنسبة لأصحاب معارض السيارات وبالنسبة للمشترين؟
فأجاب:
هذا العمل من الشركة التي أشرتم إليها مخالف للحكم الشرعي؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك» .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» . وثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» ، وهذا العمل من الشركة المذكورة مخالف لهذه الأحاديث كلها؛ لأنها تبيع ما لا تملك ولا يجوز التعاون معها في ذلك؛ لقوله سبحانه:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والطريق الشرعي أن تشتري الشركة السيارات أو غيرها من السلع وتحوزها بمكان يخصها ثم تبيع على من يرغب الشراء منها نقدا أو مؤجلا. وفق الله الجميع لما يرضيه.
قال المؤلف: ويجوز بشرط عدم الخداع.
أي ويجوز البيع بشرط عدم الخداع، أي بأن يشترط المشتري عدم الخداع؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين، قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع، فقال:«من بايعت فقل: لا خِلابة» (1).
الخلابة: الخديعة. فله الخيار إن غُبن، يعني إذا خُدع فله الخيار، له أن يرد السلعة ويُبطل البيع، وله أن يمضيها.
وهذا يسمى خيار الغَبْن يعني خيار الخديعة.
قال المؤلف: والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا.
هذا لقوله صلى الله عليه وسلم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا» (2) متفق عليه، هذا يسمى خيار المجلس.
(1) أخرجه البخاري (2117)، ومسلم (1533).
(2)
أخرجه البخاري (2110)، ومسلم (1531).