الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تعتق بعد موت سيدها؛ إلا أن يعتقها سيدها.
بابُ الوقْفِ
الوقف لغة: الحبس.
وفي الشرع: حبس مالٍ، وتسبيل منفعته، مع بقاء عينه ودوام الانتفاع به.
حبس مال: المقصود بالمال ما تملكه كالأرض والبيت والكتاب وماشابه، لا يعني به النقود.
ومعنى حبسه: أن لا يباع، ولا يوهب، ولا يهدى، ولا يورث.
وتسبيل منفعته: أن تجعل المنفعة التي يُنتفَع بها المال؛ في سبيل الله، ينتفع الناس بها، سواء كان المنتفعون أشخاصاً معينين أو جماعات أو الانتفاع كان عاماً للناس.
مع بقاء عينه: أي أن المال هذا باق لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا شيء من هذا القبيل؛ كأن توقف بيتاً مثلاً، البيت من مالك، أوقفته في سبيل الله، فلا يورث ولا يباع ولا يشترى ولا يوهب ولا يهدى، ولكن تبقى مفعته، ينتفع به من أوقفته عليهم، مع بقاء العين: البيت نفسه باق، ولكن الناس ينتفعون به، يسكنه بعضهم ثم يتركونه ويأتي غيرهم وهكذا، والبيت على حاله موقوف.
ودوام الانتفاع به: مع بقاء عينه، بقاء عين المال أي المال باق سواءً كان أرضاً أو كان عمارة أو كان سيارة أو كتاباً أو غير ذلك، عينه باقية، ولكن الانتفاع به مستمر ودائم؛ فلا بد أن يكون المال الموقوف له أصل ثابت، ومنفعة مستمرة كي يكون وقفاً.
دليل الوقف؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (1) الصدقة الجارية هي الوقف.
(1) أخرجه مسلم (1631).
قال المؤلف رحمه الله: (مَن حَبَّسَ مُلكَهُ في سبيلِ اللهِ صارَ؛ مُحبَّساً، وله أن يَجعلَ غَلَاّتِهِ لأيِّ مَصْرِف شاءَ مما فيه قُربُهُ)
يعني من جعل مالاً من ماله وقفاً في سبيل الله يبتغي أجره، صار المال وقفاً، لا يجوز بيعه ولا ولا هبته ولا أن يورث.
وله أن يجعل نفعه عائداً إلى مَن شاء مِن الناس، إذا كان في صرفه لهم قربة لله، كالفقراء والمساكين والأقارب والعلماء وما شابه، يحدد من شاء من الناس، هذا من العمل الباقي للإنسان بعد موته يجري له أجره للحديث الذي تقدم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ:«إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ (1).
هذا وقف أوقفه عمر من ماله بل هي أفضل ماله، وهي أرض صارت من نصيبه من خيبر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في أنفع ما يفعله بها؛ لأنه يريدها صدقة، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها على الصورة المذكورة في الحديث، ومنه أخذت أحكام الوقف المذكورة، ثبّت أصلها وتصدق بمنفعتها على أشخاص عينهم، هم: الفقراء، وأقربائه، والرقاب يعني العبيد، والضيف معروف، وفي سبيل الله أي في الجهاد والمجاهدين، وابن السبيل: المسافر.
ثم قال: لا جناح على من وليها، من وليها: يعني من قام على أمرها، من قام على شأنها فيكون حارساً لها، ويجمع غلتها إذا كانت لها غلة، إذا احتاجت إصلاحاً أصلحها .. إلخ. فيقوم على أمر الوقف يرعاه ويحفظه، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، يعني مَنْ تَكفَّل بأمرالوقف؛ فله أن يأكل من منفعته بالمعروف، بالمعروف عرفاً، مثل هذا العمل كم يقدَّر لصاحبه أن يأخذ ويأكل منه بحسب المتعارف عليه.
ويطعم صديقاً: وله أن يطعم صديقاً يكرم صديقه منه.
غير متموِّلٍ: أي من غير أن يدخر.
(1) أخرجه البخاري (2737)، مسلم (1632).
لذلك اعتبرت شروط الواقف في الوقف.
قال المؤلف: (ولِلمُتَولِّي عليهِ أن يأكلَ منه بالمعروفِ)
للحديث الذي تقدم عن عمر رضي الله عنه، للمتولي عليه: أي القائم على الوقف، الذي يكون مسؤولاً عن الوقف؛ له أن يأكل من الوقف بحسب المتعارف عليه بقدر ما يحتاج إليه.
قال أهل العلم: (لا جناح) أي: لا إثم (على من وليها) أي: قام بحفظها وإصلاحها (أن يأكل منها بالمعروف) بأن يأخذ منها قدر ما يحتاج إليه قوتاً وكسوة (أو يطعم) أي: أهله أو من حضره (غير متمول) أي: مدخر، حال من فاعل وليها (قال ابن سيرين - رحمه الله تعالى -: غير متأثلٍ مالاً) أي: غير مجمع لنفسه منه رأس مال. قال النووي: وفيه دليل على صحة أصل الوقف، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وفيه أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وإنما ينتفع فيه بشرط الواقف، وفيه صحة شروط الواقف، وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية، وفضيلة الإنفاق مما يحب، وفضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، وفضيلة مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمر وطرق الخير، وفيه أن خيبر فتحت عنوة وأن الغانمين ملكوها واقتسموها واستمرت أملاكهم على حصصهم، وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم. انتهى.
قال: (ولِلواقِفِ أن يَجعلَ نفسَهُ في وقفِهِ كسائرِ المُسلمينَ)
أي للواقف أن ينتفع بالوقف كواحد من المسلمين؛ لما جاء في حديث عثمان في بئر رُومَة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير منها في الجنة؟ » فاشتراها عثمان (1). أخرجه الترمذي والنسائي، في هذا الحديث عثمان جعل له دلواً مع دلاء المسلمين في هذا الوقف الذي وقفه.
قال البغوي في شرح السنة عند شرح حديث عمر المتقدم: فيه دليل على أن من وقف شيئاً ولم ينصب له قيماً معيناً جاز ; لأنه قال: لا جناح على من وليها أن يأكل منها، ولم يعين لها قيماً، وفيه دليل على أنه يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه ; لأنه أباح الأكل لمن وليه وقد يليه الواقف ولأنه صلى الله عليه وسلم قال للذي ساق الهدي:«اركبها» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيكون
(1) أخرجه البخاري (2682)، ومسلم (59).
دلوه فيها كدلاء المسلمين» فاشتراها عمر رضي الله عنه، ووقف أنس داراً وكان إذا قدمها نزلها
…
انتهى
قال المؤلف رحمه الله: (ومَن وقفَ شيئاً مُضارَّةً لِوارِثهِ؛ كانَ وقفه باطلاً)
من لم يرد وجه الله بالوقف، وإنما أراد أن يحرم ورثته فقط؛ وقفه باطل؛ لأنه وقف محرَّم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار» (1) ، والوقف الذي يراد به قطع ما أمر الله به؛ وقفٌ باطل.
قال المؤلف: (ومَن وضعَ مالاً في مسجدٍ أو مشهدٍ لا ينتفعُ به أحدٌ؛ جازَ صَرفُه في أهلِ الحاجاتِ ومَصالحِ المسلمين، ومِن ذلك ما يوضعُ في الكعبةِ أو في مَسجدِهِ صلى الله عليه وسلم
المؤلف رحمه الله يريد بالمشهد هنا: المكان الذي يشهده الناس ويحضرونه، لا يريد بالمشهد القبر لما سيأتي من كلامه.
ويعني: أن الوقف إذا تعطل؛ جاز نقله أو صرفه فيما يُنتفع به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لولا أنّ قومَكِ حَديثُو عَهدٍ بجاهلية؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله» (2).
كنز الكعبة وقفٌ عليها، لكن لما كان لا يُنتفع به؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفقه في سبيل الله، ولكنه خشي الفتنة.
ولكن النووي رحمه الله قال: وفيه دليل لجواز إنفاق كنز الكعبة ونذورها الفاضلة عن مصالحها في سبيل الله، لكن جاء في رواية: لأنفقت كنز الكعبة في بنائها، وبناؤها من سبيل الله، فلعله المراد بقوله في الرواية الأولى: في سبيل الله. والله أعلم.
ومذهبنا: أن الفاضل من وقف مسجد أو غيره لا يصرف في مصالح مسجد آخر ولا غيره؛ بل يحفظ دائماً للمكان الموقوف عليه الذي فضل منه، فربما احتاج إليه. والله اعلم. انتهى
قال المؤلف: (والوقفُ على القبورِ لِرفعِ سُمْكِها أوتَزيينِها أو فعلِ ما يَجلِبُ على زَائرِها فتنةً؛ باطل)
لأنه وقفٌ في أمر منهي عنه فهو وقف باطل ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور، ونهى عن البناء عليها، ويُلحق بذلك كل ما يجلب على الناس فتنة في دينهم ويؤدي إلى الاعتقاد فيها،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (1333)، وأصله في البخاري (1584).