الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الإحرام قبل الميقات، فقد نقل ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أنّ من أحرم قبل الميقات - من بيته مثلا أو من أي مكان قبل الميقات -، فإنه يكون مُحرماً، وإحرامه صحيح (1).
لكن اختلف في كراهته، هل يُكره هذا الفعل أم لا؟
والصحيح أنّه مكروه، لأنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السنة والذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يُحرم من الميقات، لكن لو حصل وفعلها أحد فنقول بجواز هذا الفعل وإحرامه يكون صحيحاً.
وأمّا من كان بالطائرة والسفينة ونحوِ ذلك، فهذا إذا حاذى الميقات أحرم، ولا يجوز له مجاوزة ذلك إلا وهو محرم، أي أنه صار على نفس المستوى.
ودليل المحاذاة، أثر عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم في «الصحيحين» ، أن أهل العراق جاؤوه، فقالوا له بأن الميقات الذي وقَّته النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجد - وهو قرن المنازل- بعيد عنهم فلو أنّك تفعل لنا شيئا، فقال لهم:«انظروا حذوها من طريقكم» (2) فحدّ لهم ذات عرق، لأنه حذو قرن المنازل، وهو ميقات نجد.
فأخذ من هذا أنّ مَن طريقُه لا تأتي به إلى الميقات فيُحاذي الميقات ويُحرم من هناك، وكذلك الذي يأتي بالطائرة أو بالسفينة.
قال المؤلف رحمه الله: -
(فصل: ولا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القميصَ، ولا العمامة، ولا البُرْنُسَ، ولا السراويل، ولا ثوباً مَسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخُفَّين إلا أنْ لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)
انتهى المؤلف رحمه الله من ذكر المواقيت لأهل كل بلد، ثم بدأ يذكر ما يَحرُم على المُحرِم فعله، لأن هذه المحرمات يجب أن تُجتنب قبل نية الدخول في النسك - أي قبل الإحرام -.
وهذا الذي ذكره المؤلف جاء في حديث واحد من حديث عبد الله بن عمر في «الصحيحين» (3).
(1)«الإجماع» (ص 51).
(2)
أخرجه البخاري (1531).
(3)
أخرجه البخاري (1543)، ومسلم (1177).
فالمحرمات التي ذكرها المؤلف هي:
- القميص، وهو ما يخاط على قدر الجسد، ونبه على ما في معناه من كل ما لبس على قدر البدن ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يلبس المُحرِم القميص» كما جاء في حديث ابن عمر وهو ما يسميه الفقهاء بالمخيط، ويعنون بالمخيط ما كان على قدر الجسد أو على قدر عضو من أعضاء الجسد ولا يقصِدون بالمخيط ما فيه خيط، بل هو ما ذكرناه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يلبس المحرم القميص» استدل به أهل العلم على عدم جواز لبس ما يُخاط على قدر الجسد أو على قدر عضو من أعضاء الجسد لأنها في معنى القميص.
وهذا الحكم خاص بالرجال دون النساء (1).
- العِمامة: وهي غطاء الرأس، ليست القلنسوة هذه التي يسميها الناس طاقية، بل العِمامة تُلف على الرأس. وذكره المؤلف.
- البرنس: وهو ثوب رأسه منه، معروف عند المغاربة اليوم ويلبسونه بكثرة.
ونبّه بالعمامة والبرنس على كلِّ ما يُغطي الرأس، سواء كان معتاداً أو غير معتاد، فالبرنس غير معتاد عند الصحابة، وأمَّا العمامة فمعتادة.
- السراويل: ثوب ذو أكمام يُلبس بدل الإزار - يعني مِثل البنطال- فله جزء يخص الرِّجْلَ اليمنى وجزء يخص الرِّجْلَ اليسرى كالبنطال تماماً، إلا أنه أوسع من البنطال.
والبنطال والملابس الداخلية والذي نقول له الشورت، هذه كلها تُلحق بالسراويل فكل مخيط - يعني خيط على قدر الجسد أو على قدر العضو- فلا يجوز لُبسه للمُحرم.
- الوَرْس: وهو نبت أصفر اللون، تُصبغ به الثياب وله رائحة طيبة، ولا يجوز استعمالها للمحرم.
- الزعفران كذلك نبت يُصبغ به وهو طيب الرائحة كذلك، ولا يجوز استعماله للمحرم أيضاً.
ويُلحَق بهما أنواع الطيب، فلا يجوز للمُحرم أن يتطيب.
(1) نقل ابن عبد البر الإجماع على أن المراد بحديث ابن عمر الذي ذكر المؤلف معناه، أنه للرجال دون النساء.
انظر «الاستذكار» (4/ 14) له.
وحكم تحريم الطيب للمحرم عام يشمل الرجال والنساء.
- الخفان: الخف ما يُلبس في القدمين، ويكون طويلاً حتى يغطي الكعبين، ويُلحق بهما كل ما غطى القدمين مثل الجوارب، فكل ما غطّى القدمين إلى الكعبين وغطى الكعبين أيضاً يلحق بالخفين.
- النعلان: وهو ما يُلبس في القدمين ولا يغطي الكعبين، هذا يجوز لبسه، بينما الخفان لا يجوز لبسهما إلا عند فقد النعلين؛ لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ولا الخفيّن» ، أي ولا يلبس الخفين إلا أنْ لا يجد النعلين، فمن لم يجد نعلين فيجوز له أن يلبس الخفين، لكن «فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» ، كما جاء في الحديث.
وقد حصل خلاف بين أهل العلم في مسألة قطع الخف، هل هو حكم منسوخ أم لا
والظاهر من قول المؤلف إلى أنه يذهب إلى وجوب قطعهما إلى أن يكونا أسفل الكعبين، وأنه لا يرى النسخ.
فعلى ذلك فلا يجوز للمُحرم أن يَلبس هذه الأشياء التي ذُكرت وما يُلحَق بها.
وهذا حكم خاص بالرجال، أما المرأة فلها أن تلبس الخفين.
قال المؤلف رحمه الله: - (ولا تَنْتَقِبُ المرأةُ، ولا تلبسُ القُفَّازَين، وما مسه الوَرْس والزعفران)
قوله: (ولا تنتقب المرأة)
(النقاب) غطاء للوجه فيه فَتحة للنظر.
أي، لا يجوز للمرأة أن تضع غطاء الوجه، لكن إذا أَرْخت الغطاء من فوق وأسدلته سدلاً، فهذا جائز كما كانت تفعله نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الرجل فالصحيح أنّه يجوز له أن يغطي وجهه فهو ليس كالمرأة.
وقد حصل خلاف بين أهل العلم في تغطية الرجل وجهه، فقال البعض: لا يجوز تغطية الرجل وجهه، وقال البعض الآخر: هو جائز.
وسبب الخلاف ما ورد في حديث الرجل الذي وقصته ناقته، وقوله عليه السلام فيه:«ولا تخمروا رأسه» (1)، وفي رواية عند مسلم:«ولا وجهه» ثم قال: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ، فدلَّ ذلك على أن المُحرم لا يُغطي وجهه.
لكنّ رواية مسلم هذه، اختُلف فيها، أهي محفوظة أم غير محفوظة؟
والصحيح أنها غير محفوظة، وإذا كانت غير محفوظة فلا يوجد ما يدل على أنّ الرجل المُحرم لا يُغطي وجهه، فيبقى الأمر على الحِلِّ.
قوله: (ولا تلبس المرأة القفازين)، القفازان لباس يُعمل لليدين يغطيهما، وكذلك الرَجل يَحرُم عليه لبس القفازين أيضاً، لأنهما داخلان في معنى ما تقدم.
(وما مسه الوَرْس والزعفران) ولا أي نوع من أنواع الطيب.
وسيأتي زيادة بيان لهذه المسألة إن شاء الله.
ولا يَحرُم عليها شيء من الملابس غيرُ ما ذكر هاهنا.
وقوله: «ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين» هي زيادة في نفس حديث ابن عمر عند البخاري (2).
قال المؤلف رحمه الله: - (ولا يَتَطَيَّبُ ابتداءً، ولا يَأخُذُ مِنْ شَعَرِهِ، أو بَشَرِهِ إلا لعذرٍ، ولا يَرْفُثُ ولا يَفْسُقُ ولا يجادلُ، ولا يَنكِح ولا يُنكَح، ولا يَخْطُب)
(ولا يتطيب ابتداءً)، أي لا يجوز للمُحرم أن يتعطر بعد الإحرام، جاء في هذا أحاديث،
منها حديث ابن عمر المتقدم، «لا يلبس ثوباً مسه وَرْس ولا زعفران» .
وقد قرّرنا بناء على هذا الحديث أن المُحرم لا يجوز له أن يَلبس ثوباً مسَّه طيب أو أن يتطيب في حال إحرامه.
وجاءت أحاديث أخرى حصل بسببها خلاف في المسألة.
هل يجوز للمحرم أن يتطيب في جسده قبل إحرامه بحيث يبقى الطيب عليه بعد الإحرام؟
(1) أخرجه البخاري (1267)، ومسلم (1206).
(2)
أخرجه البخاري (1838).
أمّا الأحاديث التي وردت في ذلك،
فحديث اتفق على إخراجه الشيخان: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه جبة صوف متضمخ بطيب، فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الذي سألني عن العمرة آنفاً» فالتُمس الرجل، فجيء به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزِعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» (1)، وكان هذا في الجِعرّانة في سنة ثمان بلا خلاف بين أهل العلم.
وأما الحديث الثاني فهو حديث عائشة رضي الله عنها وهو متفق عليه أيضاً -، قالت:«كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يُحرم، ولِحِله قبل أن يطوف بالبيت» (2) وكان هذا في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف.
هذان حديثان وحديث ابن عمر المتقدم حديث ثالث اختلف أهل العلم في طريقة الجمع بين هذه الأحاديث، فالحديث الأول يدل على عدم جواز التطيب وإبقاء الطيب لا على الملابس ولا على الجسد، والحديث الثاني يدل على جواز التطيب قبل الإحرام ولو بقي بعد ذلك أثره بعد الإحرام، ولكن لا يتطيب بعد الإحرام لحديث ابن عمر المتقدم.
والخلاصة،
أولاً: اتفق العلماء على تحريم الطيب على من صار مُحرماً ابتداءً.
ثانياً: محل الخلاف في التطيب عند إرادة الإحرام - أي قبل الإحرام - واستمرارِ أثره لا ابتداءه بناءً على الحديثين المتقدمين.
قال المؤلف الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار» : «والحقُّ أن المُحَرَّمَ من الطيب على المُحرِم هو ما تطيب به ابتداءً بعد إحرامه، لا ما فعله عند إرادة الإحرام وبقي أثره لوناً أو ريحاً» (3).
وبهذا تجتمع الأدلة، وهو فصل القول في هذا الموضوع.
ولكن الطيب يوضع على الجسد لا على الثياب، فإن نزل على الثياب فلا يضرّ.
(1) أخرجه البخاري (1789)، ومسلم (1180).
(2)
أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189).
(3)
«نيل الأوطار» (4/ 361).
قال: (ولا يأخذ من شعره ولا بشره إلا لعذر)
من شعره، أي شعر بدنه رأساً كان أو لحية أو غير ذلك.
ولا من بشره، كأظفاره مثلاً، والجلد أيضاً، فأخذ البشر ظاهر الجلد.
وتحريم الأخذ من الشعر أو من البشر على المُحرِم دليله حديث كعب بن عجرة في «الصحيحين» قال: «أتى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم والقَمْل يتناثر على وجهي، فقال: «أيؤذيك هوامُ رأسك؟ » قال: قلت: نعم، قال:«فاحلق، وصُم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة» (1).
فكان كعب مُحرماً وكان القمل يتناثر على وجهه من كثرته في شعره، فسأله صلى الله عليه وسلم هل يؤذيك القمل؟ فلما قال نعم، أَذِنَ له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يَحلِق رأسه فيُزيل شعره. لكن أمره بالفدية، مما يدلّ على أن حلق الشعر في الإحرام غير جائز، ومن فعل ذلك فعليه فدية.
الفدية هي التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «فاحلق، وصُم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة» ، وفي رواية أخرى، قال:«فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر» (2) أي، ما تيسر من هذه الثلاث، فهو مُخير بين هذه الثلاث، وفي رواية أخرى قال:«ففيّ نزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صم ثلاثة أيام» فحدد النبي صلى الله عليه وسلم عدد أيام الصيام، فالآية أطلقت، وقيَّدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«صم ثلاثة أيام أو تصدق بفَرَق بين ستة مساكين أو انسُك ما تيسر» (3).
وكلها روايات في الصحيح.
والفَرَق: ثلاثة آصع، والصاع أربعة أمداد، فيكون الفَرَق اثنا عشر مداً، فإذا أطعمتها لستة مساكين، فيكون لكل مسكين نصف صاع، أي مُدَّان.
كما صحَّ في رواية في «الصحيحين» : «لكل مسكين نصف صاع» (4).
(1) أخرجه البخاري (5703)، ومسلم (1201).
(2)
أخرجه البخاري (6708)، ومسلم (1201).
(3)
أخرجه البخاري (1815)، ومسلم (1201).
(4)
أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (1201).
هذه هي فدية من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، الصيام ثلاثة أيام، إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، أو النسيكة يعني يذبح شاة.
وسيأتي التفصيل إن شاء الله في موضوع الفدية.
قوله: (ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل)
أما الرفث فهو الجماع ومقدمات الجماع.
وأمّا الفسق فهي المعاصي كلُّها.
وأمّا الجدال فهو المخاصمة التي تُؤدي إلى الغضب من أحد الطرفين.
وكل هذا مُحرَّم على المُحرِم لقول الله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} .
أمّا الجدال فاتفقوا على أنه لا يُبطل الحجّ ولا الإحرام، ولكن يَأثم صاحبه على فعله.
وأما الفسق فهو مُحَرَّم في الحجّ وفي غيره أيضاً، إلا أنه في الحجّ آكد.
وأما الجماع قبل التحلل الأول فيُفسد الحجّ، وأما بعد التحلل الأول ففيه فدية، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله.
قوله: (ولا يَنكِح ولا يُنكَح ولا يَخطُب).
لما جاء في «صحيح مسلم» من حديث عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنكِح المُحرِم ولا يُنكَح ولا يَخطُب» (1).
فهذا يقتضي منع عقد النكاح للمُحرم، ومنع المُحرم من عقده لغيره، فلا يَعقد النكاح لنفسه، ولا يَعقد نكاحاً لغيره، وهو مُحرم.
ويقتضي أيضاً منع طلب المرأة للزواج في حال الإحرام، أي لا يجوز للرجل أن يَطلُب المرأة للزواج وهو مُحرِم، وهذه حقيقة الخِطبة التي نُهي عنها في حال الإحرام، وهي طلب الرجل المرأة للزواج وهو مُحرم.
أما حديث الصحيحين، من حديث ابن عباس:«أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو مُحرِم» (2)، ففيه إشكال إذ فيه تعارض واضح مع ما هو أرجح منه.
(1) أخرجه مسلم (1409).
(2)
أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410).
ففي «الصحيح» أيضاً عن ميمونة: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال» (1)، وكذا أَخبر أبو رافع - وكان هو السفير بين رسول صلى الله عليه وسلم وميمونة - أخبر:«أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال» (2).
فعندنا الآن حديث يدل على عدم مشروعية النكاح في الإحرام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَنكِح المُحرِم ولا يُنكَح ولا يَخطُب» (3)، وعندنا حديث يدلّ على الجواز وهو حديث ابن عباس، لكنّ حديث ابن عباس مُعارَضٌ بحديث ميمونة وهو أولى بالأخذ به، فنُقدم الأولى على حديث ابن عباس.
لكن ما الذي جعلنا نحكم على الثاني بأنه أولى من حديث ابن عباس:
أولا: أنّ الذي خالف ابن عباس هي صاحبة القصة - وهي ميمونة -، وهي أدرى بما حصل معها من ابن عباس.
ثانيا: معارضة أبي رافع - وهو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة-، فهو أدرى أيضاً من ابن عباس.
والأمر الثالث، وجود النهي وهو حديث عثمان، فحمل الحالة على الوضع الذي يُوافق النهي في حديث عثمان أولى من حملها على الحالة الثانية التي ذكرها ابن عباس.
فطريقة الترجيح هذه هي المعتمدة في التعامل مع هذه الأحاديث.
أما الجمع بين حديث ابن عباس وحديث ميمونة وحديث أبي رافع، فصعب لا مجال له، فماذا نفعل؟
درسنا في النزهة أن التعامل مع الأحاديث المتعارضة يكون كالتالي:
العمل الأول: الجمع، والجمع بين هذين الحديثين - حديث ابن عباس وحديث ميمونة - فابن عباس يقول: تزوجها وهو محرم، وميمونة وأبو رافع يقولان: تزوجها وهو حلال، فلا سبيل للجمع، والنبي صلى الله عليه وسلم حجَّ مرة واحدة وتزوج ميمونة مرة واحدة.
ننتقل إلى الحالة الثانية حالة النسخ: ليس عندنا الآن متقدم ومتأخر، إنما هي حادثة واحدة.
يبقى عندنا الحالة الثالثة وهي الترجيح، فكيف نرجح؟
(1) أخرجه مسلم (1411).
(2)
أخرجه أحمد (27197)، والترمذي (841).
(3)
تقدم تخريجه.
نُرجح بالطريقة التي ذكرنا، أنّ صاحبة القصة أولى بالحفظ والمعرفة من الآخر، وكذلك السفير الذي كان بين صاحبة القصة وبين النبي صلى الله عليه وسلم أولَى أيضاً بالمعرفة من ابن عباس.
ثم هذان الحديثان: حديث ميمونة وحديث أبي رافع يتوافقان مع حديث النهي، أما حديث ابن عباس فيتعارض مع حديث النهي، فيُقدم حديث ميمونة وأبي رافع على حديث ابن عباس.
خلاصة الموضوع، أنّه لا يجوز للشخص أن يَنكِح - يعقد النكاح لنفسه وهو مُحرِم -، وكذلك لا يجوز له أن يعقد لغيره نكاحاً وهو مُحرِم، كأن يكون ولياً مثلاً للمرأة، وكذلك لا يجوز له أن يَخطُب وهو مُحرِم.
فيبقى هذا الحديث، وهو حديث عثمان على ما دلَّ عليه من النهي، وحديث ابن عباس لا يعارضه، لأنّه ليس بصواب والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يَقتل صيداً)
يريد المؤلف هنا أن قتل الصيد مما يحرم على المُحرِم بعد إحرامه.
فقال: ولا يقتل صيداً.
والصيد صيدان، صيد بر وصيد بحر،
فأما صيد البر فيَحرُم على المُحرِم صيده مادام مُحرماً، لقول الله تبارك وتعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم} ، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} .
فصيد البرّ مُحرَّم على المُحرِم بهاتين الآيتين اللتين ذكرناهما.
وأمّا صيد البحر، فنقل ابن حزم رحمه الله الإجماع على أن للمُحرِم أن يتصيد في البحر ما شاء من سمكه (1).
إذن صيد البحر جائز للمُحرِم، والذي يَحرُم عليه هو صيد البرّ.
والمراد من صيد البرّ، كلّ صيدٍ مأكول بري.
فعلى ذلك فذبح الأنعام ليس منه، لأنه ليس صيداً، أن تذبح الشاة أو تذبح البدنة أو تذبح البقرة.
(1)«مراتب الإجماع» (ص 44).
وكذلك ذَبح غير الأنعام من الحيوانات الإنسية كالدجاج مثلاً، فمثل هذا ليس بصيد، وإنما الصيد الذي يَحرُم على المُحرِم كل مأكول بري.
قال: (ومن قتله فعليه جزاءٌ مِثلُ ما قَتَلَ من النَّعم، يحكم به ذوا عدل)
(ومن قتله): أي من قتل الصيد وهو مُحرِم، (فعليه جزاءٌ)، أي فيجب عليه جزاءٌ.
وهذا الجزاء الذي وجب على الشخص لِقتله الصيد هو (مثل ما قتل من النَّعم) والنَّعم كما سبق وذكرنا، هي الإبل البقر والغنم.
فيجب على من قتل الصيد وهو محرم، ما يُشبه ما قَتل من النَّعم، فإذا قتل مثلاً نعامة، فأكثر ما يشبهها من النعم هو البدنة الذي هو الجمل، وإذا قتل بقرة وحشية من بقر الوحش وجب عليه بقر إنسي، وإذا قتل ضباً تجب عليه شاة، وهكذا
…
.
كل هذه الأمثلة التي مثلنا بها حكم بها الصحابة رضي الله عنهم بالأمثلة التي ذكرنا، فكل حيوان بري يؤكل يصطاده المحرم يجب عليه فيه أن يخرج ما يشبهه من الأنعام.
(يحكم به ذوا عدل منكم) أي، من الذي يُقَدِّر في النعامة أنَّ ما يماثلها من النَّعم هو الإبل؟
الذي يقدر مايماثلها هم: ذوا عدل، أي عدلان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فهم الذين يميزون التشابه المطلوب شرعاً.
وكل هذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله جاء في كتاب الله في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثلُ ما قَتَل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} .
قال ابن عبد البر: «فدخل فيه قتل الخطأ قياساً عند الجمهور- إلا من شذَّ
…
» (1) فليس الحكم مختصاً بالمتعمد، المتعمد بنص الآية، والمخطئ بالقياس».
أي أن المنصوص عليه في الآية أن الحكم فيمن فعل ذلك متعمداً، لكن أَلحَق الجمهور المُخطئ بالمتعمد.
(1) انظر «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 873، رقم 1649).
إلّا القليل من الفقهاء الذين خالفوا في هذا الإلحاق وخصُّوا الحكم بالمتعمد، وقالوا المُخطئ لا، لأن الذي جاء في الآية هو تنصيص على المتعمد، فيَخرج المخطئ غير المتعمد بمفهوم المخالفة، أي بما أن القرآن ذكر المتعمد، فمفهوم المخالفة الذي يُؤخذ، هو أن المخطئ ليس مثله.
لكن الجمهور أخذوا بالقياس وتركوا المفهوم في مثل هذا الموطن.
وقوله تبارك وتعالى: {هدياً بالغ الكعبة} ، أي هذا المثل الذي يَذبحه، يتصدق به على فقراء الحرم، فيبلغ، أي يصل به إلى فقراء الحرم.
وهذا المحرم الذي قتل الصيد مخير بين ثلاثة أمور، فلا يجب عليه أن يُخرج المثل فقط، بل هو مخير بين، {هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مسكين أو عدل ذلك صياما} ،
فالمثل، وهو ما سبق.
الثاني وهو الإطعام، وهو أن يقدِّر المثل، فينظر كم قيمته، ثم ينظر كم تأتي به هذه القيمة من أمداد، وبعدد الأمداد سيكون عدد المساكين الذين سيطعمهم، مُداً لكل مسكين من فقراء الحرم.
أو الثالثة، وهي الصيام، فيَصوم عن كل مُدٍّ يوماً، فعدد الأمداد التي خرجت عند تقدير المثل والتي هي عدد المساكين الذين سيطعمون، هي نفسها عدد الأيام الواجب عليه أن يصومها.
فلنقل مثلاً أن قيمة المثل قدرت بما يساوي ألف مد، فيجب عليه أن يصوم ألف يوم، فيكون - بناء على ذلك - إخراج المثل أهون عليه، والإطعام أهون عليه من الصيام، لكن هو على كل حال مخير بين هذه الثلاث.
وأمَّا إذا لم يكن للصيد مِثلٌ فيُخرِج ثمن الصيد يُحمل إلى مكة، أو يصوم.
فالخيار الأول - وهو المثل - انتهى، فيبقى عنده الخيار الثاني أو الثالث فقط.
ومثال ذلك أن يصطاد جراداً أو أن يصطاد عصفوراً صغيراً، فهذان لا مثل لهما فيتوجب عليه عندئذ أن يُخرج إما القيمة وهي الإطعام أو أن يصوم.
قال رحمه الله: (ولا يأكلُ ما صادَه غيرُهُ، إلّا إذا كان الصائدُ حلالاً ولم يَصِدْهُ لأجله)
انتهى المؤلف من حكم صيد المحرم بنفسه، وبدأ بحُكم أكله من صيدٍ صَاده غيره، أيجوز له أن يأكل منه أم لا يجوز؟
في هذه المسألة تفصيل،
المُحَرَّم على المُحرِم أكله، هو ما صاده المُحرِم، أو صِيد لأجله أو أعان على صيده.
أما إن لم يصد لأجله ولم يعن المُحْرِم على صيده، فله أن يأكل منه.
عندنا ثلاث حالات في تحريم أكل المحرم من الصيد:
- إمّا أن يصطاده مُحرِم فهذا يَحرُم عليه أن يأكله.
- أو أن يصطاده حلال - شخص غير مُحرِم - لكن صاده لأجل المُحرِم، وهذا حرام عليه.
- أو أن يكون المحرم قد أعان الصائد على الصيد.
فأما الحالة الأولى والحالة الثالثة، فلا إشكال في كونه لا يجوز الأكل من هذا الصيد.
تبقى الحالة الثانية وهي إذا صاد الحلال الصيد لأجل المُحرِم هل يجوز له أن يأكل أم لا؟
ورد في ذلك حديثان
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: » صَيد البرّ حلال لكم ما لم تصيدوه أو يُصد لكم» (1)
وهذا الحديث ضعيف، أعلّه غير واحد من أهل العلم بالانقطاع فلا يُعوَّل عليه.
وأما الثاني، فمن حديث أبي قتادة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فأحرم أصحابي ولم أُحرم، فرأيت حماراً فحملت عليه، فاصطدته، فَذَكَر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت أني لم أكن أحرمت، وأني إنما اصطدته لك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له» (2).
فقوله: «إنما اصطدته لك» و «لم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له» ، فهذان اللفظان ليسا في الصحيحين، وقد تفرد بهما مَعمَر دون بقية الرواة، فهما شاذان، لذلك -
(1) أخرجه أحمد (14894)، وأبو داود (1851)، والترمذي (846)
(2)
أخرجه أحمد (22590)، وابن ماجه (3093).
والله أعلم- أعرض عنهما البخاري ومسلم، ولم يخرجا هذه الألفاظ، فالحديث أصله عندهما لكن دون هذين اللفظين.
وبناءً على تضعيف الحديثين الواردين في ذلك، فلا يُوجد ما يدل على تحريم أكل الصيد للمُحرِم إذا صيد الصيد لأجله من شخص حلال غير محرم.
فيبقى المنع في حال أن يكون المحرم هو الذي صاد صيداً، أو أن يكون قد أعان على الصيد.
ودليل تحريم الصيد على المحرم إذا أعان على صيده، ما جاء في بعض ألفاظ حديث أبي قتادة في «الصحيحين» ، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«أمنكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه؟ » قالوا: لا، قال:«فكلوا ما بقي من لحمها» (1)، وفي رواية: فناولته العضد فأكلها -أي النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ففي حديث أبي قتادة إباحة أكل المحرم للصيد، فقد قال عليه السلام لأصحابه:«كلوا» وهم محرمون، والرواية في «الصحيحين» تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قد أكل من الحمار الذي اصطاده أبو قتادة، وهذا مما يؤكد شذوذ رواية مَعمَر.
ثم بعد ذلك تأتي القيود، وهي سؤاله صلى الله عليه وسلم أصحابه:«أمنكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه» ، ومعناها، إعانة المحرم الحلالَ على الصيد التي تُحرِّم عليه أكل ما أعان على صيده، أو أن يدلّه عليه وهي المقصود بقوله «أشار إليه» .
فالصحيح في هذه المسألة والله أعلم أنه يجوز للمُحرِم الأكل من الصيد الذي صاده غير المُحرِم بشرط أن لا يكون أعانه عليه أو دلَّه عليه.
وجاء في رواية من حديث الصعب بن جَثَّامة أنه أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده صلى الله عليه وسلم ولم يأخذه منه، وقال له بأنَّه لم يقبله منه إلا لأنه مُحرِم (3).
(1) أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196).
(2)
أخرجه البخاري (2570)، ومسلم (1196).
(3)
أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (1193).
هذا الحمار الوحشي الذي أهداه الصعب بن جَثَّامة للنبي صلى الله عليه وسلم، إن كان حماراً حياً فالحكم على ما ذكرنا فيما تقدم، فالحمار الحي هو الصيد لا يجوز للمُحرِم أن يأخذ الصيد، أن يملكه في حال إحرامه.
أمَّا إن كان لحم حمار وحش صيد لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فهنا يأتي التفصيل الذي ذكره المؤلف ويكون هذا دليلاً عليه، وهو أنَّه إذا صاد الحلالُ الصَّيد لأجل المُحرِم فلا يجوز للمحرم أن يأكله في هذه الحالة، لكنَّ الروايات التي في «الصحيحين» ، وهي الأصح والأقوى أنَّ الذي أهداه الصعب بن جَثَّامة للنبي صلى الله عليه وسلم كان حماراً وحشياً حيّاً (1) والله أعلم.
قال رحمه الله: (ولا يُعضد من شجر الحَرَم إلّا الإذخر)
بدأ المؤلف هنا بمسألة جديدة، وهي مسألة القطع من شجر الحرم.
وهذا الحكم ليس خاصاً بالمُحرِم، بل يندرج على المحرم وغيره، فهو متعلق بحرمة مكة والمدينة.
قال (لا يُعضد): أي لا يُقطع (من شجر الحَرَم) أي الحرم المكي.
ومكة بلد الله الحرام، حرَّمه ربنا تبارك وتعالى، وحدودها معروفة، وعلاماتها اليوم ظاهرة تبين للداخل أن هذا هو الحرم، ليعلم أنه في منطقة التحريم.
والحرم هذا حكم شرعي، فالحرم مأخوذ من التحريم، والتحريم والتحليل حكم شرعي لا يكون إلا لله تبارك وتعالى، وليس لأحد أن يُحَرِّم المكان الذي تهوى نفسه، كتسمية الجامعات بالحرم الجامعي، فهذه تسميات لا أصل لها البتة ولا تجوز أصلاً، فمن الذي حرَّم تلك الأماكن؟ ؟
فلا ينبغي أن تُطلق على مثل هذه الأماكن هذه الألفاظ، فبما أنّه لم يأت ما يدل على تحريم هذه الأماكن دليل من الشارع، فلا تسمى حرماً.
وكذلك القدس لا تسمى حرماً، لأنه لم يأت دليل من الكتاب والسنة على أنها منطقة محرمة كمكة والمدينة.
وأما قولهم ثالث الحرمين الشريفين، فهذا يحتاج إلى دليل يقيمونه على قولهم هذا.
(1) بوّب عليه الإمام البخاري: باب: إذا أهدي للمحرم حماراً وحشياً حيّاً لم يقبل
وأما تحريم مكة فمأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن مكة حرَّمها الله ولم يُحَرِّمها الناس فلا يَحِلّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يسفك فيها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشاهدُ الغائبَ» (1).
فالمُحَرَّم الأول في مكة هو سفك الدم، فالقتل فيها مُحَرَّم.
والمُحَرَّم الثاني هو قطع الشجر، لقوله «ولا يَعضد بها شجرة» ، وهو ما استدلّ به المؤلف على كلامه.
وقوله: «فإن أحد ترَّخص لقتال رسول الله فيها فقولوا له: إن الله أَذِن لرسوله ولم يأذن لكم» ، معناه إذا جاء أحد واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل أو دخل مُقاتلاً إلى مكة، فيجوز لنا القتال، فقولوا له: بأن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم.
وأما المُحَرَّم الثالث، فهو تنفير الصيد، ودليله ما جاء في رواية:«ولا يُنَفَّر صيدها، ولا يُختلى شوكها، ولا تحِلُّ ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُفدى، وإما أن يُقتل» فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إلا الإذخر» (2) متفق عليه.
وتنفير الصيد أبلغ من القتل، فليس فقط أن لا يصطاد فيها، بل يَحرُم أيضاً أن يُنفِّر صيدها، أي أن يزعجه من مكانه الذي هو فيه ويطرده منه، فهذا أبلغ من القتل.
والصيد هو ما يصطاد.
المُحَرَّم الرابع: «ولا يُختلى شوكها» ، أي لا يُقطع حتى الشوك الذي فيها.
المحرم الخامس: «ولا تَحِلّ ساقطتها إلا لمُنْشِد» ، والساقطة ما يسقط من الناس من ممتلكاتهم، أي الشيء الذي يضيع، وتسمى لُقَطَةً، وهذه اللُقطة لا تَحِلّ إلا لمُنْشِد.
والمنشد، هو الذي أخذها ليُبَلّغ عنها ويبحث عن صاحبها فقط، أما غير ذلك فلا تَحِلّ ألبتة.
(1) أخرجه البخاري (1832)، ومسلم (1354).
(2)
أخرجه البخاري (1349)، ومسلم (1353).
فالأول: أنَّه لا يجوز سفك الدم فيها.
والثاني: لا يجوز قطع الأشجار فيها.
والثالث: لا يُنَفَّر صيدها.
والرابع: لا يختلى شوكها.
والخامس: لا تحل ساقطتها إلا لمنشد.
قوله (إلا الإذخر)، الإذخر: نبات له رائحة طيبة استثناه النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم قطع أشجار مكة لأنهم ينتفعون به.
فاتفق العلماء على تحريم قطع أشجار مكة التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها - وهو الرطب من عشبها-، واختلفوا فيما يستنبته الآدميون، أي الذي يعمل الآدميون على إنباته ويزرعونه هم بأنفسهم.
وأما مسألة الجزاء، أي هل على من قطع شيئاً من أشجار مكة جزاء؟
الصحيح في هذه المسألة أنّه لا جزاء عليه، ولكنّه يأثم بفعله هذا، والمسألة محل خلاف.
قال رحمه الله: (ويجوز له قتل الفواسق الخمس)
أي، ويجوز للمحرم قتل الفواسق الخمس لقوله صلى الله عليه وسلم:«خمسٌ فواسقُ يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديّا» (1).
وفي رواية «الغراب» من غير ذكر الأبقع.
والأبقع، الذي في ظهره وبطنه بياض.
الحُدَيَّا - وفي رواية جاءت الحدأة -، وهي طائر من الجوارح ينقض على الجرذان والدواجن وعلى الأطعمة ويأخذها فيفسد على الناس طعامهم.
والكلب العقور، قيل هو الكلب المعروف، وقيل هو كل ما يفترس، لأن كل ما يفترس من السباع يُسمى كلباً عقوراً في اللغة، والراجح في الكلب العقور أنه كل مفترس.
(1) أخرجه البخاري (3314)، ومسلم (1198).
وفي رواية «العقرب» بدل «الحية» .
وقد اتفق جماهير العلماء على جواز قتل هذه المذكورات في الحل والحرم والإحرام.
وكذلك اتفقوا على أنَّه يجوز للمُحرِم أن يقتل ما في معناهن، فالمعنى الذي أذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذه الخمس بالذات لأجله هو كونهن مؤذيات.
فعلى ذلك نقول يجوز قتل هذه الخمسة المؤذية وكل مؤذٍ للمُحرِم في الحِلِّ وفي الحَرَم قياساً على هذه الخمس التي ذُكرت بالنص.
فالخمس هذه أو الست يجوز قتلها بالنص، والبقية ملحقة بها بعلة الإيذاء.
قال: (وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة)
يريد المؤلف أن التحريم ليس فقط لمكة بل كذلك للمدينة لقوله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم ما بين عَيْرٍ إلى ثور» (1).
وعَيْرٌ وثور: جبلان.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة» (2).
وفي رواية: «المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يُقطع شجرها ولا يُحْدَث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (3).
وفي رواية: «أن لا يُهراق فيها دم، ولا يُحمل فيها سلاح لقتال ولا يُخبط فيها شجرة إلّا لعلف» (4).
ومعنى يُخبط: يُضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقها.
فهذا كله يدل على أنَّ المدينة مُحرَّمة كتحريم مكة، ومعالمها أيضاً واضحة، فأول ما تدخل المدينة ستجد علامات تَدلك على بداية الحرم ونهاية الحرم.
(1) أخرجه البخاري (6755)، ومسلم (1370).
(2)
أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (1360).
(3)
أخرجه البخاري (1867)، ومسلم (1136).
(4)
أخرجه مسلم (1374).
قال رحمه الله: (إلّا أنَّ من قَطَعَ شَجَرَهُ أو خَبَطَهُ كان سَلَبُه حلالاً لمن وجده)
هذا الحكم من الأحكام التي يختلف فيها حرم المدينة عن حرم مكة، وهو خاص بحرم المدينة فحسب.
ودليله حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه وجد عبداً يقطع شجراً أو يَخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلَّموه أن يرُدَّ على غلامهم أو عليهم ما أخذ من الغلام، فقال:«مَعَاذ الله أن أرد شيئاً نَفَّلَنِيه رسول الله» وأبى أن يَرُدَّ عليهم (1).
والمراد بالسلب أن يُؤخذ منه فرسه وسلاحه ونفقته التي معه، حتى ملابسه.
فهذا الحديث يدل على جواز سلب من قطع شجر المدينة.
ولا يجب على من قتل صيداً أو قطع شجراً من حرم المدينة لا جزاء ولا قيمة، فلم يثبت في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّه يأثم ويكون لمن وجده يفعل ذلك أَخْذُ سَلَبِه.
قال المؤلف: (ويَحرُم صيد وُجٍّ وشجره)
وُجٍّ: اسم وادٍ بالطائف، والطائف قريبة من مكة.
وقد ورد فيه حديث عند أحمد وأبي داود وغيرهما، قال صلى الله عليه وسلم:«إن صيد وجٍّ وعِضاهه حرام محرم لله عز وجل» (2).
وقوله: «وعضاهه» ، أي كل شجر يُعضد وله شوك.
ولكن هذا الحديث ضعيف لا يصح، في إسناده من لا يُعتمد عليه.
وبناء عليه فلا يَحرُم صيده ولا شجره، وهذا الحكم ملغى غير صحيح بناءً على ضعف الحديث الذي ورد فيه:«صيد وُجٍّ محرم» .
ويبقى التحريم فقط لمكة والمدينة.
(1) أخرجه مسلم (1364).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 32)، وأبو داود (2032)، وغيرهما.
وفي سنده محمد بن عبد الله بن إنسان لا يحتج به، وقال ابن قدامة في «المغني» (3/ 326):«والحديث ضعيف، ضعفه أحمد، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب «العلل» .