الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو واجب على كل مكلف مستطيع كما قال المؤلف لقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} .
فقوله {لله على الناس} صيغة إلزام وإيجاب، وقيَّد ذلك بالاستطاعة فقال:{من استطاع إليه سبيلاً} .
والحج واجب في العمر مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس قد فَرَض الله عليكم الحجَّ فحُجّوا» ، وفي هذا أمر بالحجِّ، يُستدل به على وجوب الحجِّ.
فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟ - أي، هل يجب علينا في كل سنة؟ -.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» (1).
فدلّ ذلك على أن الحجَّ يجب مرة واحدة في العمر.
شروط الحج:
- الشرط الأول: الإسلام، فقد تقدم معنا في دروس أصول الفقه أن الصحيح أن الكفار مُخاطبون بفروع الشريعة، والحجّ من فروع الشريعة، إذن فهم مُخاطبون مُكلفون به.
لكن الخطاب الذي أردناه عند الأصوليين، أنهم إذا لم يأتوا به عُذبوا عليه في نار جهنم، لكنَّه لا يصحُّ منهم حتى يأتوا بشرطه وهو الإسلام، فالإسلام شرط لوجوب الحجِّ، أي كي يقبل من فاعله، يُشترط أن يكون مسلماً.
- الشرط الثاني: العقل، فالمجنون غير مُكلف لحديث:«رفع القلم عن ثلاث، النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» (2) فالمجنون غير مكلف لرفع القلم عنه.
- الشرط الثالث: البلوغ، فغير البالغ مرفوع عنه القلم حتى يحتلم كما ذكرنا في الحديث المتقدم.
(1) أخرجه مسلم (1337).
(2)
أخرجه أحمد (940)، وأبو داود (4399)، والترمذي (1423)، وابن ماجه (2042).
الشرط الرابع: الاستطاعة، ودليلها ما تقدم من قول الله تبارك وتعالى:{من استطاع إليه سبيلاً} ، والمقصود بالاستطاعة، توفر الأسباب التي تُمَّكنه من أداء فريضة الحجِّ، ويدخل في ذلك:
المال.
والصحة.
وتأشيرة الحج فإنها تعتبر من ضمن الاستطاعة.
والمَحرَم للمرأة، فإذا توفرت لها الصحة وتوفر لها المال لكنها لا تجد مَحرَماً تحج معه فهذه ليست مستطيعة.
وكذلك أمن الطريق.
- الشرط الخامس: أن يكون المُكلّف حرّاً، فإن كان عبداً - وهو المملوك - فلا يجب عليه الحج، لأنَّ العبد لا مال له يملكه ويتمكن من الحج به، وإنما ماله لسيده، فإذا كان لا يملك المال، فلا يمكنه الحج.
قال المصنف: (فوراً)
أي يجب على كل مكلف مستطيع، الحج فوراً بمجرد تحقق الشروط المتقدمة من غير تأخير، لما ذكرناه في أصول الفقه بأن الأصل في الأمر أنَّه على الفور لا على التراخي، واستدللنا على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: قول الله تبارك وتعالى: {فاستبقوا الخيرات} .
والثاني: أن المرء لا يدري ما يعرض له من بعدُ، فلربما تيسرت لشخص في سنة من السنين جميع سُبل الحج وأسبابه، فأَجَّلَه، ولا تتيسر له مرة أخرى.
(1)«جامع الترمذي» (3/ 256).
إذن يجب عليه أن يحجّ في الوقت الذي تيسرت له الأسباب فيه، لئلا يفوته بعد ذلك.
فهذا يدل على أن الحجَّ إذا توفرت أسبابه صار لازماً لصاحبه فوراً، وإذا لم يحج فهو آثم.
قال رحمه الله: (وكذلك العمرة)
أي وكذلك العمرة تجب على كل مكلف مستطيع فوراً.
وفي وجوب العمرة مرة في العمر خلافٌ، والصحيح أنها سنّة وليست بواجب، إذ لا يوجد ما يدلّ على وجوبها، والأحاديث التي استدل بها من قال بالوجوب كلها ضعيفة لا يصح منها شيء.
تبقى عندهم آية {وأتموا الحج والعمرة لله} ، وهل لهم وجه في الدلالة بهذه الآية؟
لا، لأن المأمور به هنا هو الإتمام، فإذا دَخَلت في العمرة وجب عليك أن تُتِمها، لكنَّه لم يأمر بالبِدء بها، ولو جاء أمر بالبدء بها لسلمنا لهم وقلنا كلامكم صحيح، لكن فرق بين البدء والإتمام، فالصحيح أنَّ العمرة سنة مستحبة وليست واجبة.
أما الحج فقد أمر الله به، وأمر بإتمامه.
قال: (وما زاد فهو نافلة)
أي ما زاد عن مرة واحدة فهو نافلة سواء كان مرة من الحجِّ أم من العمرة.
ولكن - كما ذكرنا - فإن العمرة مستحبة أصلاً، وأما الحجُّ فكما قال.
والدليل هو ما تقدم معنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» (1)، فدلّ هذا الحديث على أنَّه لا يجب على المسلم أكثر من حجة واحدة في عمره.
قال المؤلف: (يجب تعيين نوع الحجّ بالنية، من تَمَتُّعٍ أو قِرانٍ أو إفرادٍ)
في هذه الفقرة بيّن لنا المؤلف رحمه الله أن الحجّ أنواع ثلاثة:
قران، وتمتع، وإفراد، وأنه لا بدّ للحاج أن ينوي واحداً من هذه الأنواع الثلاثة، من الميقات عند الإحرام.
النوع الأول، القران: وهو أن يُحرم من الميقات بالعمرة والحجّ معاً، فيَقرِن بينهما، أي
(1) تقدم تخريجه.
يجمع في نيته بين الحجّ والعمرة، فيقول عند التلبية:«لبيك بعمرة وحجّ» ، فينوي في قلبه أنّه يريد أن يؤدي العمرة والحجّ.
وهذا القران يقتضي بقاء المحرم على صفة الإحرام إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحجّ جميعاً، فيبقى مُحرماً لا يتحلل أبداً.
وللقران صورة ثانية، وهي أن يُحرم بالعمرة ويُدخل عليها الحجّ قبل الطواف، أي أنه يكون قد عقد في نفسه وهو في الميقات أن يعتمر، وقال:«لبيك بعمرة» ، وعند وصوله مكة وقبل أن يبدأ بطواف العمرة أدخل عليها الحجّ، فصار حينئذ قارناً، قرن بين العمرة والحجّ.
وسُمّي هذا قراناً، لما فيه من القران والجمع بين الحجّ والعمرة بإحرام واحد، ويطلق عليه في الكتاب والسنة:«تمتع» .
النوع الثاني، التمتع: وهو أن يعتمر في أشهر الحج، ثم يحجّ من عامه الذي اعتمر فيه.
وأشهر الحج، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقال بعضهم: ذو الحجة كاملاً.
فإذا اعتمر في أشهر الحجّ ثم حجّ في نفس السنة التي اعتمر فيها سمي متمتعاً، ويسمى هذا النوع من الحج، حجّ التمتع، وذلك للانتفاع بأداء النُسكين في أشهر الحجّ في عام واحد من غير أن يرجع إلى بلده.
ولأن المتمتع يتمتع بعد التحلل من إحرامه، بما يتمتع به غير المحرم من لُبس الثياب، والطيب، والجماع، وغيرها.
وصفته أن يُحرم من الميقات بالعمرة وحدها فقط، ويقول عند التلبية:«لبيك بعمرة» وهذا طبعاً يقتضي البقاء على صفة الإحرام حتى يصل الحاجّ إلى مكة فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق شعره أو يقصره ويتحلل، فيخلع ثياب الإحرام، ويلبس ثيابه المعتادة، ويأتي كلّ ما كان حَرُم عليه بالإحرام، ويبقى على حاله هذه إلى أن يأتي يوم التروية، الذي هو يوم الثامن من ذي الحجة، فيُحرم في ذلك اليوم بالحجّ من مكة.
يتضح لنا بذلك الفرق بين التمتع والقران،
فمن ناحية الإحرام، فإن القارن يُحرم بالعمرة مع الحج، بينما المتمتع يحرم بالعمرة فقط.
ومن ناحية التحلل، فالقارن لا يتحلل أبداً، بل يبقى محرماً حتى ينهي حجه، وأمّا المتمتع فيعتمر ثم يتحلل تحللاً كاملاً إلى اليوم الثامن وهو يوم التروية.
قال الحافظ في «الفتح» : «والذي ذهب إليه الجمهور أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بين الحجّ والعمرة في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد وأن يُقَدِّمَ العمرة وألاّ يكون مكياً، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعاً» (1).
النوع الثالث، الإفراد: وهو أن يُحرم من يريد الحجّ من الميقات بالحجّ وحده، لا عمرة معه، ويقول في التلبية:«لبيك بحجّ» ، ويبقى محرماً حتى تنتهي أعمال الحج.
وأما الإحرام، فركن من أركان الحجّ لا يصحّ إلّا به، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .. » (2) الحديث.
والإحرام: هو نية الدخول في النسك، والنسك هو الحج أو العمرة.
فإذا نويت في قلبك البدء بأعمال الحج والدخول في ذلك فقد أحرمت سواء قلت لبيك بحجة أو بعمرة أو لم تقل، فبمجرد أن عقدت ذلك في قلبك فقد حصل الإحرام، لكن يُستحب معه أن تُهل بذلك، فتقول:«لبيك بحج» أو «لبيك بعمرة» أو «لبيك بعمرة وحج» .
والإحرام مأخوذ من التحريم، ومعنى أحرم: أي، دخل في الحرام، والمراد أنّه يدخل في التحريم، فإذا قلت أحرم بالحجّ أي دخل في تحريم ما يُحرَّم في الحجّ، كالجماع ولبس المخيط والطيب ونحو ذلك مما يَحرم على الحاجّ أو على المعتمر.
ومحل الإحرام القلب لأن النيّة محلها القلب، فإذا نوى بقلبه الدخول في الحج أو العمرة فقد أحرم.
ويُهل بالنسك الذي يريد، فيقول:«لبيك بحج» أو «بعمرة» أو «بعمرة وحجّ» حسب النسك الذي يريده.
والإهلال - وهو زائد على نية الدخول في النسك -: فهو رفع الصوت بالتلبية، ودليله ما أخرجه الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم «يُلَبّي بالحج والعمرة جميعاً» (3)، وفي أحد ألفاظه قال:«كانوا يصرخون بذلك» (4)، أي: يرفعون أصواتهم به.
(1)«فتح الباري» (3/ 435).
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(3)
أخرجه البخاري (1551)، ومسلم (1232).
(4)
أخرجه البخاري (2951).
وحكم هذا الإهلال، الاستحباب، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو ذكر من أذكار الحجّ، ويصح الإحرام بدونه، لأنه ذكر من الأذكار، حكمه كحكم بقية الأذكار.
ويستحب رفع الصوت به، ثم يستمر بعد ذلك برفع الصوت بالتلبية:«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» (1).
وأما قول المؤلف (يجب تعيين نوع الحج بالنية، من تمتع أو قران أو إفراد)، فقد احتج المؤلف ومن ذهب مذهبه على وجوب تعيين الحاج نوع النسك الذي يريده - هذا ما قاله المصنف-، احتجوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .. » فقالوا يجب أن ينوي المحرم بالحج أو العمرة عند دخوله فيه.
والصحيح في هذه المسألة، أن الحجّ ينعقد بإحرامٍ من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع - بأن يقصد نية النسك فقط - وله أن يمضي في ذلك الإحرام ثم يجعله أي وجه شاء من الأوجه الثلاثة.
ودليله حديث «الصحيحين» : «أن النبي صلى الله عليه وسلم سَأل علياً: «بم أهللت؟ » قال: بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم» (2)، ولم يكن علي رضي الله عنه يَعلم بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُعين نوع النسك.
وكما حصل مع أبي موسى الأشعري (3).
فدلَّ ذلك على أن الإهلال بنُسك مُبهم، صحيح ويصرفه صاحبه إلى أيّ نوع من الأنواع الثلاث.
قال المؤلف: (والأول أفضلها)
أي أفضل هذه الأنواع الثلاث، التمتع.
وفي المسألة خلاف، والصحيح من أقوال أهل العلم، أنّه التمتع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة حين فرغوا من الطواف والسعي أن يُحلوا ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي. متفق عليه (4).
(1) أخرجه البخاري (5915)، ومسلم (1184).
(2)
أخرجه البخار ي (4352)، ومسلم (1216).
(3)
أخرجه البخار ي (1559)، ومسلم (1221).
(4)
أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1213).
فاستدل أهل العلم بهذا على أفضلية التمتع، ثم إنه أخفّ وأيسر على النفس.
قال رحمه الله: (ويكون الإحرام من المواقيت المعروفة، ومن كان دونها، فَمُهَلُّه أَهْلُهُ، حتى أهل مكة من مكة)
للحجّ مواقيت زمنية ومكانية.
ونعني بالمواقيت الأوقات التي جعلها الشارع أوقاتاً لأداء الحجّ أو للإحرام، فهي الزمن الذي يُحجّ فيه، والمكان الذي يُحرم الحاجّ منه أيضاً.
المواقيت الزمنية: هي الأوقات التي لا يصحّ شيء من أعمال الحجّ إلّا فيها، قال تعالى:{الحج أشهر معلومات} ، أي وقت أعمال الحجّ أشهر معلومات.
والعلماء مجمعون على أن المراد بأشهر الحج: شوال، وذو القَعدة - يقال القَعدة بالفتح، والقِعدة بالكسر، والقَعدة أفصح-، واختلفوا في ذي الحجة، أَكلُّ الشهر من أشهر الحجّ أم العشر الأول فقط، والذي ثبت عن ابن عمر وغيره، أنها العشر الأول من ذي الحجة.
فلا يصحُّ أن يحرم أحدٌ بالحج إلا في أشهر الحج، فالإحرام من أعمال الحج التي ضرب الله لها أشهراً معلومة.
وأما المواقيت المكانية: فهي الأماكن التي يُحرم منها من يريد الحجّ أو العمرة.
فالحاجّ عندما ينطلق من بلده لا يبدأ الحجّ من سكنه ولا يُحرم من سكنه، بل ينطلق إلى أن يصل مكاناً عينه الشارع فيُحرم منه، هذه الأمكنة هي التي تسمى المواقيت المكانية.
ولا يجوز لمن أراد الحجّ أو العمرة أن يتجاوزها - أي يمرَّ عليها - دون أن يُحرم، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في «الصحيحين» وغيرهما، فقال ابن عباس:«وقَّت لنا رسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، قال: «فهنَّ لهُنَّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا كذلك حتى أهل مكة يهلون منها» (1). متفق عليه.
فيخرج المرء مسافراً للحجّ من بلده بلباسه المعتاد، ومن غير أن يبدأ بالحجّ أو بالعمرة، إلى أن يصل إلى الأماكن المذكورة في الحديث - وهي المواقيت المكانية - فيعد نفسه ليبدأ بالحج ويُحرم من تلك الأماكن.
(1) أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1181).
فإذا كان هذا الذي يريد الحجّ من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإحرامه يكون من ذي الحليفة، وتسمى اليوم بآبار علي، وتبعد عن مكة أربعمائة وثلاثين كيلو (430 كيلو)، وهي أبعد المواقيت عن مكة، فإذا وصل المدني الذي هو من أهل المدينة إلى ذي الحليفة يُحرم من هناك يتجرد من ملابسه ويلبس ملابس الإحرام ويُعد نفسه للإحرام، فيعقد نية الدخول في النسك ويقول: لبيك بحجة أو لبيك بعمرة أو لبيك بحجة وعمرة.
وإذا كان من أهل الشام - الأردن، فلسطين، سورية، لبنان -، فإحرامه من الجُحفة، وهي قرية بجانب رابغ، مدينة مشهورة معروفة تبعد عن مكة مائة وستة وثمانين كيلو (186 كيلو).
وإذا كان من أهل نجد - وهي المنطقة التي تشمل الرياض وما حولها-، فيُحرم من قرن المنازل - ويُقال لها أيضاً قرن الثعالب - ويُعرف اليوم بالسيل الكبير، ويبعد عن مكة خمسة وسبعين كيلو (75 كيلو).
وإذا كان من أهل اليمن فيُحرم من يلملم، ويُقال لها ألملم، ويُقول لها أهلها اليوم لملم، وهو واد معروف هناك، فيه قرية تسمى السعدية تبعد عن مكة اثنين وتسعين كيلو (92 كيلو)، وكان الطريق الرئيسي يمر بها ثم صار يمر بعيداً عنها، إلا أنّه يمر بنفس الوادي يلملم أيضاً وفي النقطة التي يمر الطريق الرئيس بوادي يلملم يكون بُعد الوادي عن مكة مائة وعشرين كيلو (120 كيلو)، وهو واد كبير جداً.
فالإحرام جائز من الطريق القديم الذي يمر بقرية السعدية وكذلك من الطريق الجديد، لأن كليهما يمر بالوادي، وادي يلملم.
وأمّا ذات عِرْق، والذي يسمى اليوم: الضريبة - وهذا الميقات لم يُذكر في الحديث الذي تقدم -، فهو ميقات أهل العراق، وقد اختلف العلماء هل تحديد هذا الميقات من النبي صلى الله عليه وسلم أم من عمر بن الخطاب؟
والنزاع بين أهل العلم في ذلك كبير، وعلى كل حال فهم مُجمعون على أنّه ميقات شرعي من مواقيت الحج.
وأما الرافضة فيُحرِمون من العقيق لا من ذات عرق، مخالفةً لعمر رضي الله عنه.
قال في الحديث: «هنَّ» أي هذه الأماكن «لهنَّ» ، أي لأهل هذه البلدان، «ولمن أتى
عليهن من غير أهلهن»، أي من مرَّ على هذه المواقيت من غير أهل البلد الذين لهم الميقات فيُحرمون من هذه المواقيت أيضاً.
فالمصري، مثلاً إذا دخل من طريق الشام وجاء من طريق الجحفة، أحرم من الجحفة، كذلك أهل تركيا مثلاً أو روسيا أو غيرها إذا دخلوا من طريق الشام، فميقاتهم الجحفة، وإذا جاؤوا من طريق المدينة فيكون ميقاتهم ذا الحليفة وهكذا.
قوله في الحديث المتقدم نفسه: «ممن أراد الحج والعمرة» ، يدل على أن من لم يرد الحج ولا العمرة، وأراد دخول مكة، فله أن يدخل بدون إحرام فلا يجب عليه أن يُحرم، إنما الإحرام واجب على من أراد الحجّ أو العمرة.
وفي المسألة هذه خلاف، والصحيح ما ذكرناه.
وقول المصنف (ومن كان دونها فمُهله أهله، حتى أهل مكة من مكة)، فهذا يدل عليه الحديث المتقدم.
ومعناه أنَّ من كان يسكن مكاناً هو أقرب إلى مكة من الميقات، فهو لا يمر في سفره إلى مكة بهذه المواقيت أصلاً، لقربه من مكة، فهو يسكن بين الميقات ومكة، فهذا ميقاته في نفس مكانه من بيته، فهذا لا يلزمه أن يرجع إلى الميقات ثم بعد ذلك يُحرم من هناك، بل ميقاته من البلد التي هو فيها، حتى أهل مكة يُحرمون من مكة.
لكن هذا في الحج، أما في العمرة فأهل مكة يلزمهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل فيُحرمون من هناك كما فعلت عائشة رضي الله عنها، فإنها خرجت إلى أدنى الحل وهو التنعيم، فأحرمت من هناك (1).
وأما من جاوز الميقات من غير أن يُحرم وهو يريد الحج أو العمرة، فأمامه أحد أمرين:
إمّا أن يرجع إلى الميقات ويُحرم من هناك، ثم يُكمل طريقه.
أو أن يُكمل طريقه ويلزمه دم، فيجب عليه أن يذبح بدل تركه لهذا الواجب.
(1) أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211).