المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الجهاد والسير - فضل رب البرية في شرح الدرر البهية

[علي الرملي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشارح

- ‌تعريف الفقه

- ‌‌‌الفقه لغةً‌‌واصطلاحاً:

- ‌الفقه لغةً

- ‌واصطلاحاً:

- ‌فالفقه في الشرع:

- ‌وأما الفقه عند الأصوليين:

- ‌وأما الفقه عند الفقهاء

- ‌ترجمة الشوكاني

- ‌«الدُّرَرُ البَهيَّة» للشوكاني

- ‌كتاب الطهارة

- ‌ باب حكم المياه

- ‌(الماءُ طاهرٌ مُطَهِّرٌ)

- ‌(فصل باب النجاسات)

- ‌(بابُ قضاءِ الحاجةِ)

- ‌(بابُ الوضوءِ)

- ‌(فصل: ويستحبُّ التثليثُ)

- ‌(فصلٌ: وينتقضُ الوضوءُ بما خرجَ من الفَرْجَيْنِ من عَيْنٍ أو ريحٍ)

- ‌(بابُ الغُسْلِ)

- ‌(فصلٌ: والغُسْل الواجب هو: أن يُفيضَ الماءَ على جميع بَدَنِهِ، أو يَنْغَمِس فيه مع المضمضةِ والاستنشاقِ)

- ‌(فصلٌ: ويُشْرَعُ لصَلاةِ الجُمُعة)

- ‌(باب التَّيَمُّمِ)

- ‌(بابُ الحَيْضِ)

- ‌(فصل: والنِّفاسُ أكثرُهُ أربعونَ يوماً، ولا حدَّ لأقلّه وهو كالحيضِ)

- ‌كتابُ الصلاةِ

- ‌(باب الأذان)

- ‌(بابُ شروطِ الصلاةِ)

- ‌(بابُ كيفيةِ الصلاةِ، لا تكونُ شرعيةً إلا بالنيَّةِ)

- ‌(باب متى تبطل الصلاة؟ وعمّن تسقط

- ‌(فصل: وتبطل الصلاة بالكلام)

- ‌(فصل: ولا تجبُ على غَيْرِ مُكَلَّفٍ)

- ‌(بابُ صلاة التَّطَوُّعِ)

- ‌(باب صلاة الجماعة)

- ‌(باب سجودِ السهوِ، وهو سجدتانِ قبل التسليمِ أو بعدهُ، وبإحرامٍ، وتشهدٍ، وتحليلٍ)

- ‌(بابُ القضاءِ للفوائتِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الجمعةِ، تَجِبُ على كُلِّ مُكَلَّفٍ إلا المرأةَ والعبدَ والمسافرَ والمريضَ)

- ‌(بابُ صلاةِ العيدينِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الخوفِ)

- ‌(باب صلاةِ السَّفَرِ، يَجِبُ القَصْرُ)

- ‌(باب صلاة الكسوفين)

- ‌(باب صلاة الاستسقاء)

- ‌كتاب الجنائز

- ‌(فصلٌ: غسل الميت)

- ‌(فصلٌ: تكفينُ الميت)

- ‌ فصل صلاة الجنازة

- ‌(فصل: ويكون المشي بالجِنازةِ سريعاً)

- ‌(فصلٌ: دَفْنُ الميت، ويجبُ دفن الميتِ في حفرة تَمْنَعُهُ السِّباعَ)

- ‌كتاب الزكاة

- ‌(باب زكاةِ الحيوانِ)

- ‌(فصل: إذا بلغت الإبلُ خمساً، ففيها شاةٌ، ثم في كلِّ خمسٍ شاةٌ، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففيها ابنة مَخاضٍ، أو ابن لبونٍ، وفي ستٍّ وثلاثين ابنة لبون، وفي ستٍّ وأربعين حِقّة، وفي إحدى وستين جَذَعة، وفي ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقّتان إلى

- ‌أولاً: الزكاة واجبة في هذه الحيوانات بثلاثة شروط

- ‌ثانياً: كم المقدار الذي يجب أن يخرج إذا بلغت الإبل النصاب

- ‌(فصلٌ: ولا شيء فيما دُونَ الفريضةِ، ولا في الأوْقاصِ)

- ‌(باب زكاة الذهب والفضة)

- ‌(باب زكاة النبات)

- ‌(باب مصارف الزكاة)

- ‌(باب صدقة الفطر)

- ‌كتاب الخُمُس

- ‌كتاب الصيام

- ‌(باب صوم التطوع)

- ‌(باب الاعتكاف)

- ‌كتاب الحج

- ‌شروط الحج:

- ‌(فصل: ولا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القميصَ، ولا العمامة، ولا البُرْنُسَ، ولا السراويل، ولا ثوباً مَسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخُفَّين إلا أنْ لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)

- ‌(فصلٌ: وعند قدوم الحاجّ مكة، يطوف للقدوم سبعة أشواط، يَرمُلُ في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه بِمِحْجَنٍ ويُقَبِّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني)

- ‌(فصل: ويسْعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور)

- ‌(فصل: ثم يأتي عرفة صُبح يوم عرفة مُلبياً مُكبراً ويَجمع العصرين فيها، ويخطُب، ثم يُفيض من عرفة بعد الغروب)

- ‌(باب العمرة المفردة)

- ‌كِتابُ النِّكاحِ

- ‌حكم النكاح:

- ‌مسألة:

- ‌بابُ المُحرَّماتِ في النِّكاحِ

- ‌(بابُ العُيُوبِ وَأَنْكِحَةِ الكُفَّارِ)

- ‌بابُ المَهرِ والعِشرَةِ

- ‌كتابُ الطَّلاقِ

- ‌باب الخلع

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظهار

- ‌بابُ اللِّعَانِ

- ‌بابُ العِدَّةِ والإحدِادِ

- ‌باب استِبْرَاءِ الإِمَاءِ

- ‌بابُ النَّفقةِ

- ‌بابُ الرَّضَاعِ

- ‌بابُ الحَضَانَةِ

- ‌كتابُ البيوعِ

- ‌ باب الربا

- ‌(باب الخِيارَات)

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب القَرْض

- ‌باب الشُّفْعة

- ‌باب الإِجارة

- ‌بابُ الإحيَاءِ والإِقْطَاعِ

- ‌بابُ الشَّرِكة

- ‌بابُ الرَّهْنِ

- ‌بابُ الوَدِيْعَةِ والعَارِيَّة

- ‌بابُ الغَصْبِ

- ‌بابُ العِتْقِ

- ‌بابُ الوقْفِ

- ‌بابُ الهَدَايا

- ‌بابُ الهِبات

- ‌كتاب الأَيمَان

- ‌كتابُ النَّذرِ

- ‌كتاب الأطعِمَة

- ‌بابُ الصَّيدِ

- ‌بابُ الذَّبحِ

- ‌بابُ الضِّيافَةِ

- ‌بابُ آدابِ الأكلِ

- ‌كتابُ الأشرِبةِ

- ‌كتابُ اللِّباسِ

- ‌كتابُ الأُضحِيةِ

- ‌بابُ الوَلِيمةِ

- ‌فصلٌ

- ‌كتابُ الطِّبِّ

- ‌كتابُ الوَكالةِ

- ‌كتابُ الضَّمَانَةِ

- ‌كِتابُ الصُّلحِ

- ‌كتابُ الحَوَالةِ

- ‌كتابُ المُفلسِ

- ‌كتابُ اللُّقطةِ

- ‌كتابُ القَضاءِ

- ‌كِتابُ الخُصُومُةِ

- ‌كِتابُ الحُدُودِ

- ‌بَابُ حَدِّ الزَّانِي

- ‌بابُ حَدِّ السَّرقةِ

- ‌بابُ حَدِّ القَذفِ

- ‌بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ

- ‌فَصلٌ

- ‌بَابُ حَدِّ المُحَاربِ

- ‌بابُ مَنْ يَستحقُّ القَتلَ حَدّاً

- ‌كِتابُ القِصاصِ

- ‌كتابُ الدِّياتِ

- ‌بَابُ القَسَامَةِ

- ‌كتابُ الوَصِيَّةِ

- ‌كِتابُ المَوَاريثِ

- ‌كتابُ الجِهادِ والسِّيَرِ

- ‌فَصلٌ

- ‌فصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

الفصل: ‌كتاب الجهاد والسير

والذي يؤكد عدم جواز التوارث بين المسلم والكافر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد.

وأجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، نقله ابن قدامة في المغني وغيره، واختلفوا في غير ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يَرثُ القَاتِلُ مِنَ المَقتُولِ)

إذا قتل الابن أباه لا يرث منه، مع أنه في الأصل من الورثة، لكن كونه هو القاتل لا يرث.

وإذا قتل الأخ أخاه كذلك حتى لوكان من الورثة أصلاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل شيئا» (2) أخرجه أبو داود، وهو صحيح.

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن القاتل لا يرث، كان القتل عمداً أو خطأ.

وقال بعضهم: إذا كان القتل خطأ فإنه يرث، وهو قول مالك. انتهى.

‌كتابُ الجِهادِ والسِّيَرِ

الجهاد: هو بذل الجَهد - أو الجُهد وهو الوسع والطاقة- في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله.

أما السِّيَر: فهي جمع سيرة، والسيرة: هي الطريقة، سواء كانت خيراً أم شراً، يقال: فلان محمود السيرة، وفلان مذموم السيرة.

والمراد هنا: طرق النبي صلى الله عليه وسلم في قتال العدو، ومعاملته معه، ومع الغزاة والأنصار.

قال المؤلف رحمه الله: (الجِهادُ فَرضُ كِفايةٍ مع كلِّ بَرٍ وفاجرٍ، إذا أَذِنَ الأَبوانِ)

الجهاد عند أهل العلم ينقسم إلى قسمين، عُرِفَ ذلك باستقراء الأدلة وتتبُّع السيرة: جهاد طلب، وجهاد دفع.

نبدأ أولاً بجهاد الطلب، وهو طلب العدو في بلاده وقتاله فيها.

هذا النوع هو الذي قصده المؤلف ببيان حكمه، وأنه فرض كفاية.

والمقصود بفرض الكفاية كما مر معنا، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

وهو فرضٌ مع الإمام المسلم، سواء كان الإمام بَرّاً أم فاجراً، براً يعني: صالحاً مطيعاً، وفاجراً: عاصياً فاسقاً، بشرط إذن الوالدين كما قال المؤلف.

(1) أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614).

(2)

أخرجه أبو داود (4564) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه الترمذي (2109)، وابن ماجه (2645) من طريق ابن أبي فروة من حديث أبي هريرة، قال فيه البيهقي: إسحاق بن عبد الله لا يحتج به، إلا أن شواهده تقويه. والله أعلم

ص: 643

أما كونه فرضاً؛ فلقول الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة/216] ولقوله أيضاً: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال/39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» (1) متفق عليه.

هذه الأدلة تدل على فرضية الجهاد.

وأما كونه فرض كفاية لا فرض عين؛ فدليله قول الله تعالى: {لَاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء/95]، القاعدون غير أولي الضرر لا يستوون مع المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة:{فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} [النساء/95]، هذا شاهدنا الآن قال:{وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} بما أن الله سبحانه وتعالى قد وعد الحسنى القاعدين، فلا يجب عليهم أن يخرجوا إذا خرج من فيه كفاية؛ لأنه لمّا وعد المتخلف عن الجهاد الحسنى؛ دل ذلك على أنه غير واجب عليه وجوباً عينياً.

هذا الدليل الأول.

والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة/122]، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً} أي لا ينفر جميع الأمة بالكامل تخرج للجهاد، ولكن تبقى طائفة ليتعلموا دين الله سبحانه وتعالى ويُعلِّموه للآخرين.

فهذا دل على أن هذه الفرقة التي تبقى للتعلم لا يجب عليها أن تخرج، فدلَّ ذلك على أن الخروج للجهاد فرض كفاية وليس فرض عين، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

هذا كله في جهاد الطلب، نتحدث عن القسم الأول وهو جهاد الطلب.

وقال أهل العلم أيضاً مؤكدين على حكم فرضية الكفاية فيه، قالوا: لا نعلم غزوة خرج فيها إلا وقد تخلف عنه فيها رجال، لا نعلم غزوةً خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتخلف عنه فيها رجال، وتخلف هو نفسه صلى الله عليه وسلم عن سرايا كان قد أخرجها.

هذا كله يدل على أن الفرض هنا للكفاية لا فرض عين.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لِيَنبعَثْ مِنْ كُلِّ رَجلِينِ رَجلٌ، والأجرُ بينهما» (2).

ويجب هذا الجهاد على المسلم، البالغ، العاقل، الذكر، الحر.

أما المسلم فلأن الكافر لا يُقبل منه عمل إلا بالإسلام، هو مخاطب بفروع الشريعة؛ لكنها لا تُقبل منه إلا أن يأتي بأصلها وهو الإسلام.

وأما البلوغ فلأن ابن عمر رضي الله عنه حدث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي (3).

(1) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).

(2)

أخرجه مسلم (1896).

(3)

أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (1868).

ص: 644

وأما كونه عاقلاً فلأن العقل هو مناط التكليف، فالمرء لا يكلف إلا أن يكون عاقلاً.

وأما الذكر فلحديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» (1)، فالمرأة ليس عليها جهاد واجب، أن تقاتل بالسيف.

أما الحر فنقلوا الاتفاق على أن العبد لا يجب عليه جهاد الطلب.

ويجب أيضاً أن يكون صحيحاً كي يجب عليه الجهاد، المجاهد يجب أن يكون صحيحاً لا مريضاً كي يقدر على القتال؛ لقول الله تبارك وتعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور/61].

قال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن لا جهاد فرضاً على امرأة، ولا على من لم يبلغ، ولا على مريض لا يستطيع، ولا على فقير لا يقدر على زاد. انتهى

هذه الشروط التي يجب أن تتحقق كي يجب الجهاد على الشخص.

وهذا الجهاد وإن كان أصله كما ذكرنا هو فرض كفاية، إلا أنه يتعين في بعض الصور ويصير واجباً عينياً، أي يجب على كل قادر بعينه أن يخرج للجهاد، من هذه الصور:

الصورة الأولى: أن يَحضُر المكلف صف القتال، فإذا حضر القتال وجب عليه أن يقاتل، وصار القتال في حقه واجباً عينياً؛ لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال/15] أي لا تفروا، يجب عليكم أن تقاتلوا، وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ فذكرهن، قَالَ:«وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ» (2).

والصورة الثانية: إذا استنفر الحاكم أحداً من المكلفين.

الاستنفار: طلب النفير، طلب الخروج للجهاد، الحاكم أو ولي الأمر إذا أمر شخصاً بعينه أن يخرج للجهاد صار واجباً عينياً عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ * إلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة 38/ 39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا» (3) وإذا طُلِبتم للخروج للغزو وجب عليكم الخروج لأنه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم.

والصورة الثالثة: فإذا احتيج إليه؛ كأن لا يقدر على استعمال سلاح معيَّن إلا هو، يصير واجباً عينياً عليه الجهاد، أو أنه يجيد أمراً لا يجيده كُثُر بحيث تقوم بهم الكفاية، يجيد نوعاً من أنواع القتال أو نوعاً من أنواع استعمال الأسلحة، يوجد في الجيش من يستعمل هذا

(1) أخرجه البخاري (2901).

(2)

متفق عليه، تقدم.

(3)

أخرجه البخاري (2825)، ومسلم (1353).

ص: 645

السلاح أو من يقوم بهذا القتال؛ ولكنهم لا يكفون، فلا يحققون فرض الكفاية، فيجب عليه أن يخرج معهم.

هذه الصور الثلاث التي يتحول فيها هذا الفرض من فرض كفاية إلى فرض عين في حق بعض الأشخاص.

وأما دليل كونه مع الإمام البَرِّ والفاجر، فلعموم الأدلة الآمرة بالجهاد، ليس فيها تقييد الإمام بأن يكون عادلاً، فبما أنها لم تُخصص بإمام عادل، فتبقى على عمومها وأنه يجاهد مع الإمام البر والإمام الفاجر، شرطه أن يكون مسلماً لا كافراً، الكافر لا يجاهَد معه، الجهاد يكون مع الإمام المسلم.

وأما اعتبار إذن الوالدين في هذا النوع من الجهاد فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل استأذنه في الجهاد، قال له:«أحيٌّ والداك؟ » قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» (1).

فإذا لم يأذنا له بالخروج للجهاد فلا يجوز له أن يخرج.

قال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن من له أبوان يضيعان بخروجه، أن فرض الجهاد ساقط عنه.

وقال ابن المنذر في الإقناع: وللرجل أن يتخلف عن الجهاد من أجل والديه؛ لحديث عبد الله بن عمرو

فذكر الحديث السابق، ثم قال: وذلك مَا لم يقع النفير، فإذا وقع النفير فليس لأحد أن يتخلف؛ لحديث أبي قتادة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال فِي آخر الحديث:«أيها الناس اخرجوا فأمدوا إخوانكم وَلا يتخلف أحد» .

ولمن عليه دين أن يتخلف عن الغزو من أجل الدين الذي عليه؛ استدلالاً بقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للرجل، الذي قَالَ لَهُ: إن قتلت فِي سبيل اللَّه صابرًا محتسباً مقبلاً غير مدبر أيكفر اللَّه عني خطاياي؟ قَالَ: «نعم؛ إلا الدين، كذلك قَالَ لي جبريل عليه السلام» .

وللمريض أن يتخلف عن الغزو، والزَّمِن - من به مرض يدوم طويلاً أو ضعف بسبب كبر سن -، كذلك يقال: إن قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، نزل فِي ابن أم مكتوم، وليس للعبد أن يغزو إلا بإذن سيده. انتهى كلامه رحمه الله.

وهذا الجهاد الذي هو جهاد الطلب شُرع لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، أي لنشر التوحيد ونشر السنة، والقضاء على الشرك والبدع والمعاصي، فهو لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، وذلك لحديث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِي العُليا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (2) فلا يكون المرء مجاهداً في سبيل الله حتى تكون نيته إعلاء كلمة لا إله إلا الله، أي نشر دين الله وشرعه

(1) أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549).

(2)

أخرجه البخاري (2810)، ومسلم (1904).

ص: 646

بالكامل.

وفضائله عظيمة جداً، آياتها وأحاديثها مذكورة في كتب السنن والترغيب والترهيب.

النوع الثاني: جهاد الدفع: وهو قتال الكفار لدفعهم عن بلاد المسلمين.

هذا النوع من الجهاد واجب على كل من قدر على حمل السلاح.

الشروط المتقدمة كلها في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فهو واجب على كل من استطاع أن يحمل السلاح، وليس له شرط سوى أن يحقق ما شُرع له، وهو حفظ بلاد المسلمين ودمائهم وأعراضهم وأموالهم من الكفار.

فإذا حَقق هذا الشيء شُرع، وإذا أدى إلى خلافه لم يُشرع، بمعنى أن الكفار ربما هاجموا بلاد الإسلام، فقتالنا لهم واجب، ودفعهم عن بلادنا واجب، لكن إذا كان القتال من غير قدرة وكان سيؤدي إلى مفسدة أعظم من المفسدة الحالَّة علينا فعندئذ نقول: القتال غير جائز؛ لأنه يؤدي إلى عكس الغاية التي نريدها.

الغاية التي نريدها هي أن نحفظ بلاد الإسلام وأعراض المسلمين وأموال المسلمين ودين المسلمين أيضاً.

فإذا حصل قتال وأدى هذا القتال إلى إعطاء الكَفَرة الذريعة للتسلط على بلاد المسلمين وعلى دينهم وأعراضهم وأموالهم ودمائهم عندها يصير فساداً لا جهاداً، هذا الحاصل من كثير من الطوائف الموجودة اليوم، تذهب تقاتل وتناوش بلاداً من بلاد الكَفرة، وهي ليست أهلاً لمقاتلتها وما عندهم القدرة على مقاتلتهم، يناوشونهم فيأتون أولئك بكل عدتهم وعتادهم فيحتلون البلاد ويُذهبون العباد، هذا الحاصل، هذا ليس جهاداً هذا فساد في الأرض، أدى إلى خلاف الغاية المقصودة من الجهاد، صار فساداً، الجهاد شرع لتحقيق المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها، قاعدة عامة متفق عليها في كل شيء.

فإذا حقق الجهاد ما شُرع لأجله فهو جهاد شرعي، وإذا لم يحقق ذلك أو أدى إلى مفسدة فيكون فساداً ولا يكون جهاداً.

لذلك ربما البعض يتفاجأ من فتاوى بعض العلماء عندما يحصل خروج في بعض البلاد على حاكم كافر، يقول العلماء: اجلسوا لا تخرجوا لا تخرجوا، يتفاجأ فيقول: ماذا هذا يثبط عن الخروج على حاكم كافر لم يألُ جهداً في القضاء على دين الله، وعلى محاربة الإسلام والمسلمين! .

هم يفتون بهذا لحفظ ما بقي من دين المسلمين، وحفظ أعراضهم ودمائهم، وخشية عليها أن تُنتهك، لأنهم ليس عندهم قدرة على مجابهة هؤلاء الكفار بقوته وعدته وعتاده.

لذلك يفتون بمثل هذه الفتاوى، ليس خوفاً منه ولا مداهنة لأحد من الكفرة.

عندما توجد القوة يفتون بالجهاد.

ص: 647

من أعظم أنواع الجهاد إزالة الحاكم الكافر عن بلاد المسلمين، من أعظم الجهاد وأفضله، لكن كثير من الناس لا يدركون هذه المعاني، القدرة ضرورية، إذا لم تكن هناك قدرة أدى القتال إلى خلاف ما نريد، وأدى إلى مفاسد كبيرة عندئذ يكون فساداً لا يكون جهاداً.

فجهاد الدفع مطلوب وهو واجب على كل من كان قادراً على حمل السلاح، إذا كان سيؤدي إلى الغاية المقصودة منه وهو الدفاع عن بلاد المسلمين، وعن أعراض المسلمين، ودماء المسلمين، وأموالهم، ودينهم بالدرجة الأولى.

قال ابن حزم في مراتب الإجماع: واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة أهل الإسلام، وقراهم، وحصونهم، وحريمهم، إذا نزلوا على المسلمين؛ فرض على الأحرار البالغين المطيقين.

قال ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر بعض شروط قتال الطلب، قال: وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجبٌ إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يُدفع بحسب الإمكان.

يُدفع على حسب القدرة والإمكان شرطه ما ذكرنا، فبما أنه شُرِع لدفع العدو ولحفظ بلاد المسلمين ودينهم ودنياهم، فإذا أدى إلى عكس ذلك وخلافه فلا يكون مشروعاً.

وللأسف كثير من الجماعات الإسلامية لم تدرك هذه المعاني، التي عرفناها بأدلة الكتاب والسنة قبل أن نراها في الواقع، إلا بعد أن رأوه بأعينهم، عندها فهم الكثير منهم وتراجع عن أفكاره، والكثير منهم بقي راكباً هواه، ومستمراً في فساده، حتى إنهم أضروا كثيراً بدعوة الله سبحانه وتعالى، الدعوة إلى الإسلام والدعوة إلى السنة، وأعطوا فكرة سيئة عن الإسلام والسنة.

قال ابن القيم رحمه الله: وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه دفع الصائل -دفع الصائل: دفع المعتدي الظالم- ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه؛ كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج/39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد» (1)؛ لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة، فإن قتل فهو شهيد.

فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد مقيم، ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه -يعني من عليه حق لآخر لا ينتظر إذن صاحب الحق-، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق -هذا جهاد الدفع، كان جهاد المسلمين يوم أحد ويوم الخندق جهاد دفع- ولا يُشترط في هذا النوع

(1) شطره الأول أخرجه أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141)، من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه أحمد (1652)، وأبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (4094)، وابن ماجه (2580)، مختصراً ومطولاً من حديث سعيد بن زيد بلفظ:«مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

ص: 648

من الجهاد أن يكون العدو ضِعْفَي المسلمين فما دون، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجباً عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار .. انتهى من كتابه الفروسية.

قال المؤلف رحمه الله: (وهو مَعَ إِخلاصِ النِّيةِ يُكفِّرُ الخَطايَا إلا الدَّيْنَ، ويُلحقُ بهِ حُقوقُ الآدَمِيّينَ)

وهو: أي الجهاد، مع إخلاص النية: بأن تكون نية المقاتل القتال لإعلاء راية لا إله إلا الله، لنشر التوحيد والسنة بين الناس وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يبتغي بعمله دنيا يصيبها ولا إقامة أحكام تخالف شرع الله، لا يكون قصده في الجهاد إقامة أحكام تخالف شرع الله؛ كالديمقراطية والاشتراكية والبعثية، وغيرها من أحكام باطلة فاسدة مخالفة لدين الله تبارك وتعالى.

مَنْ قاتل لهذه المعاني فقد أذهب جهده وتعبه سدى، بل الأمر عليه أشد، فهو قتال في سبيل الشيطان لا قتال في سبيل الله سبحانه تعالى، فمن قاتل لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، ومات في سبيل الله؛ كفَّر الله عنه جميع ذنوبه إلا الدَّين. كذا قال صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أبي قتادة عند مسلم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ؛ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كَيْفَ قُلْتَ؟ » قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِي ذَلِكَ» (1).

وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» (2) أخرجه مسلم.

المؤلف قال: وهو مع إخلاص النية يكفِّر الخطايا، هذا يكفر الخطايا لمن مات في سبيل الله، أما من لم يمت وجاهد في سبيل الله؛ فهذا يكون قد رجع بما رجع من أجر وغنيمة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» (3).

(1) أخرجه مسلم (1885)

(2)

أخرجه مسلم (1886)

(3)

أخرجه البخاري (36)، ومسلم (1876)

ص: 649

قالوا: معناه: إما أن يستشهد فيدخل الجنة، وإما أن يرجع بأجر فقط إن لم توجد غنيمة، وإما أن يرجع بأجر وغنيمة.

فتكفير الذنوب؛ لمن مات في سبيل الله، كما ذُكر في الأحاديث:«يغفر الله للشهيد» الشهيد هو الذي مات في سبيل الله، وأيضاً الحديث الذي قبله قال: أرأيت إن قُتلت في سبيل الله يكفِّر عني خطاياي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم وأنت صابر محتسب» فيدل هذا على أن من قُتل في سبيل الله كان أجره تكفير الخطايا والذنوب إلا الدَّيْن.

والدَّيْن هنا الذي لا يُغفر، هو الدين الذي عزم صاحبه على عدم رده، أما من نوى قضاء الدين ولم يكن قادراً على ذلك لا يدخل في هذا؛ لأنه جاء في الحديث: أن الله يقضي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» (1).

قال ابن عبد البر في التمهيد: والدَّين الذي يُحبس به صاحبه عن الجنة - والله أعلم- هو الذي قد تَركَ له وفاء ولم يُوصِ به، أو قدر على الأداء فلم يُؤد، أو أدانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده، وأما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر، ومات، ولم يترك وفاء؛

فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء.

وقد قيل: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده في الدين، كان من قبل أن يفتح الله عليه ما يجب منه الفيء والصدقات لأهلها

انتهى.

وألحق العلماء بالدَّين جميع حقوق الآدميين، قالوا: هي مثل الدين.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يُستعانُ فيه بالمُشركينَ إلا لِضرُورةٍ)

مسألة الاستعانة بالمشركين في القتال مسألة اجتهادية، فيها نزاع قديم بين العلماء، وسبب النزاع اختلاف الأدلة، فقد جاءت أدلة مُبيحة، وأدلة محرِّمة.

لذلك اختلف العلماء في ذلك، فمن الجهل بمكان أن تكون هذه المسألة من مسائل الولاء والبراء، أو من مسائل التشنيع والتشديد على بعض العلماء، الذين يفتون بمثل هذه المسائل، التي تكون موافِقة لبعض العلماء المتقدمين من سلف هذه الأمة.

المسألة اجتهادية لا ينبغي إعطاء المسائل العلمية أكثر من حجمها.

ومن علامات الحدادية في هذا الزمن أنهم يفعلون ذلك، يلتمسون بعض الأخطاء عند العلماء -وربما تكون أخطاءً في أذهانهم- أخطاء اجتهادية، النزاع فيها معروف بين السلف؛ فيضخمونها ويكبِّرونها، ويطعنون في المخالفين لهم بذلك.

(1) أخرجه البخاري (2387)

ص: 650

فالأدلة في ذلك كما ذكرنا متعارضة، منها المجيز ومنها المانع، لذلك اختلف العلماء في ذلك.

من الأدلة التي تدل على المنع: قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل مشرك تبعه يوم بدر: «ارجع فلن استعين بمشرك» فلما أسلم استعان به (1) هذا الحديث عند مسلم في صحيحه.

ومن الأدلة التي تدل على الجواز: أن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك (2). أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه.

وذكر العلماء أدلة أخرى، هذه الأدلة هي أقوى أدلة في الباب.

الدليل الأول يدل على المنع، والدليل الثاني يدل على الجواز.

فصفوان بن أمية كان مشركاً وقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا أستعين بمشرك» ، وكلاهما في صحيح مسلم.

خير المذاهب وأعجبها إليّ في هذه المسألة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله، قال: إذا كان المشرك عليه دلائل تدل على حرصه على هزيمة المسلمين، فلا يُغزى به، وإذا كان على خلاف ذلك بأن عُرف منه حرصه على نصر المسلمين، وفيه منفعة للمسلمين؛ فلا بأس أن يُغزى به، ويُستعان به.

هذا معنى ما ذكر الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم باختصار.

قال النووي: «ارجع فلن أستعين بمشرك» ، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه.

وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به؛ استعين به، وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين. انتهى

وهو خير ما جمع به بين الأحاديث التي ذكرت، فعلى حسب حال المشرك وحاجة المسلمين، فإذا كان عرف منه أنه ناصح للمسلمين وأنه يحب نصرهم على المشركين ولهم حاجة به؛ استُعين به، وإلا فلا.

قال المؤلف رحمه الله: (ويَجبُ على الجَيشِ طَاعةُ أَمِيرهِم إلا في مَعصيةِ اللهِ)

يجب على المقاتلين طاعة أميرهم؛ لقول الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء/59]، أصح التفاسير في ذلك أن أولي الأمر المقصود بهم العلماء والأمراء.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» (3) متفق عليه.

(1) أخرجه مسلم (1817)

(2)

أخرجه مسلم (2313)

(3)

أخرجه البخاري (7137)، ومسلم (1835)

ص: 651

ولا يجوز لهم أن يطيعوا أميرهم في معصية الله، أي إذا أمرهم بمعصية فلا طاعة له فيها، ويطاع في غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف» ، لهذا الحديث قصة مفيدة في هذا المعنى: عن علي رضي الله عنه قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» (1).

وفي رواية: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف» .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (2) متفق عليه، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة.

قال المؤلف رحمه الله: (وعَليهِ مُشَاورتُهُم، والرِّفقُ بِهم، وَكَفُّهُم عَن الحَرَامِ)

على الأمير مشاورة أصحابه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران/159].

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشاور أصحابه في أمور الغزو وغيرها (3)، وما أشاروا به عليه ليس ملزِماً، إذا استشار الأمير مَنْ حوله في أمرٍ من أمور الغزو أو غيرها؛ لا يكون رأيهم ملزماً للأمير، لكنه ينظر للأقوال الموافقة للأدلة من الكتاب والسنة أو التي فيها مصلحة للإسلام والمسلمين فيعمل بها، فالمشورة مُعْلِمَة وليست بمُلْزِمة.

ويجب عليه أن يرفق بهم: أي يعاملهم برفق ولين، لا بشدة وغلظة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشَقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرَفَقَ بهم فارفق به» (4). أخرجه مسلم في صحيحه.

ويجب عليه أن يكفهم عن الحرام؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (5) أخرجه مسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الجميع، وعلى الأمير خاصة؛ لأن له قدرة على الإنكار أكثر من غيره.

(1) أخرجه البخاري (7145)، ومسلم (1840)

(2)

أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839)

(3)

انظر صحيح البخاري (9/ 112) الباب وما فيه من أحاديث، أولها برقم (7369)

(4)

أخرجه مسلم (1828)

(5)

أخرجه مسلم (49)

ص: 652

قال المؤلف رحمه الله: (ويُشرعُ للإمامِ إذا أَرادَ غَزواً أن يُوَرِّيَ بِغيرِ ما يُريدُهُ)

التورية أصلها الستر، يقال: منه ورَّيت الخبر أُوَرِّيه تَوْرِيَةً إذا سترته وأظهرت غيره.

وهي أن يتكلم المتكلم ويريد بكلامه خلاف ظاهره.

مثل أن يقول مثلاً في الحرب: قتل إمامكم، ويعني به أحد المتقدمين، ولكنهم يفهمون قائدهم في المعركة، لأن اللفظ يحتمل المعنيين، والمعنى الذي أراده بعيد، والمعنى الذي فهموه قريب.

فإذا قال قولاً يحتمل معنيين، أحد المعنيين أظهر من الآخر، بحيث إذا سمعه الذي يخاطبه فهم منه المعنى الظاهر، والمتكلم يكون في نفسه يريد المعنى الخفي؛ فيكون ورى عليه.

هذا معنى التورية.

وجواز ذلك في الحرب دل عليه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن كعب بن مالك حين تخلف عن رسول الله، قال: ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها (1).

يعنى أظهر للناس أنه يريد جهة، وهو في الحقيقة يريد جهة أخر، فيقول كلاماً يُفهم منه معنيين، فالظاهر منه الأول يفهمونه منه، وهو يريد المعنى الثاني.

قال المؤلف: (وأن يُذكِيَ العُيُونَ، وَيَستَطلِعَ الأَخبارَ، ويُرَتِّبَ الجُيُوشَ، ويَتَّخذَ الرَّاياتِ والأَلوِيَةَ)

أي ويُشرع للإمام أن يُذكي- أي يرسل - العيون، وهم الذين نسميهم اليوم بالجواسيس.

ويشرع له استطلاع الأخبار، أي طلب الاطلاع على أخبار العدو وما الذي ينوون فعله، هذا أصل عمل أجهزة المخابرات اليوم، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ القَوْمِ يَوْمَ الأَحْزَابِ؟ » قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ:«مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ القَوْمِ؟ » ، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» (2).

وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ (3).

ويشرع له ترتيب الجيوش وتنظيمها، فالفوضى تؤدي إلى الاختلاف والفشل وضياع الجهود، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرتب الجيش ويقسمه، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي

(1) أخرجه البخاري (2947)، ومسلم (2769)

(2)

أخرجه البخاري (2846)، ومسلم (2415)

(3)

أخرجه مسلم (1901)

ص: 653

كَتِيبَةٍ (1).

الْمُجَنِّبَتَيْنِ: هما الميمنة والميسرة للجيش، أي كتيبة تكون على يمين الجيش وكتيبة على يساره، ويكون القلب بينهما في الوسط.

الحُسَّر: الذين لا دروع عليهم.

فكان يؤَمِّر على الجيش أمراء، ويُعرض عليه المقاتِلة، كما عُرض عليه ابن عمر فردَّه ثم قبله، ويسأل من حضر ومن لم يحضر؛ كما فعل مع كعب في غزوة تبوك قال:«ما فعل كعب؟ » .

ويشرع له أن يتخذ الرايات والألوية، الراية هي العَلَمْ، علم الدولة أو علم الجيش، العلم المعروف عندنا اليوم، لكل دولة اليوم علم يخصها.

واللواء، قالوا: هو شقة ثوب، يعني جزء من ثوب تلوى وتشد إلى عود الرمح، فيكون قطعة من الثوب على الرمح ملوية.

فالراية ترفرف تتحرك مع الريح؛ لأنها غير مربوطة، بخلاف اللواء، اللواء يُلف على الرمح إلى الأسفل.

قال إبراهيم الحربي: الْوَاحِدَةُ رَايَةٌ: وَهِيَ أَعْلَامٌ لِكُلِّ فَرِيقٍ، وَاللِّوَاءُ لِلْأَمِيرِالْأَعْظَمِ، وَقَدْ يُسَمَّى اللِّوَاءُ رَايَةً.

ودليل اتخاذ الرايات والألوية: حديث قيس بن سعد الأنصاري أنه كان صاحب لواء النبي صلى الله عليه وسلم (2). أخرجه البخاري، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له لواء.

وحديث سلمة بن الأكوع قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله» (3) وهو متفق عليه، هذا يدل على وجود راية كانت تعطى لقائد الجيش.

وحديث أنس بن مالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب

» (4) أخرجه البخاري.

لم يصح عندي حديث في لون راية أو لواء النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

قال المؤلف رحمه الله: (وتَجبُ الدَّعوةُ قَبلَ القِتالِ إلى إِحدَى ثَلاثِ خِصالٍ: إِمّا الإسلامِ، أو الجِزيةِ أو السَّيفِ)

أخرج مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا

(1) أخرجه مسلم (1780)

(2)

أخرجه البخاري (2974)

(3)

أخرجه البخاري (2945)، ومسلم (2404)

(4)

أخرجه البخاري (4262).

ص: 654

تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ

» (1).

فمن يريد القائد غزوهم من الكفار يدعوهم إلى ثلاث خصال بالترتيب:

الأولى: يدعون إلى الإسلام.

الثانية: يُدعون إلى دفع الجزية للمسلمين.

الثالثة: يقاتَلون.

وهل دعوتهم قبل قتالهم واجبة أم مستحبة؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، وسبب الخلاف هو اختلاف الأدلة.

الحديث السابق يدل على وجوب الدعوة قبل القتال.

وخالفه حديث أنس في صحيح البخاري أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ، وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالخَمِيسُ، قَالَ: فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ}» (2).

هذا يدل على عدم وجوب الدعوة قبل القتال.

لكن جمع العلماء بين هذه الأدلة، بقولهم: من بلغته دعوة الإسلام من المشركين فهذا يقاتَل من غير دعوة، وإن دُعي فحسن.

ومن لم تبلغه الدعوة وجبت دعوته قبل قتاله.

قال ابن المنذر في الإقناع: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى الْمَاءَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ.

وَكَانَتْ جُوَيْرِيَةُ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، أَخْبَرَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ شَهِدَ ذَلِكَ.

قال ابن المنذر: إذا قاتل الإمام من لم تبلغه الدعوة، بدأ قبل القتال فدعاهم إِلَى الإسلام، وليس عليه أن يعيد الدعاء عَلَى من قد بلغته الدعوة. انتهى.

(1) أخرجه مسلم (1731)

(2)

أخرجه البخاري (610)

ص: 655

أما الجزية فهي قدر من المال، يؤخذ ممن دخل في ذمة المسلمين وعهدهم، من الكفار.

تؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن قال تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة/29]

واختلف أهل العلم أتؤخذ من جميع المشركين أم من أهل الكتاب فقط؟ أم من أهل الكتاب والمجوس فقط؟

ظاهر حديث بريدة عند مسلم الذي تقدم، أنها عامة، تؤخذ من المشركين جميعاً، مَنْ قَبِل منهم دفعها، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر (1)، وهم ليسوا من أهل الكتاب، فيُلحَق بهم غيرهم من المشركين. والله أعلم

قال ابن المنذر في الإشراف: واختلفوا في أخذ الجزية من سائر المشركين سوى اليهود، والنصارى، والمجوس.

فقالت طائفة: تؤخذ منهم الجزية، وإن لم يكونوا من أهل الكتاب، من عبدة الأوثان، والنيران، وكل مشبهة في الأرض، وكل جاحد ومكذب، بربوبية الرب تبارك وتعالى، والسنة فيهم أن يقاتلوا على الإِسلام، فإن هم أبوه وبذلوا الجزية قبلت منهم، ثم كانوا في حالهم وتحريم مناكحتهم، وذبائحهم وغير ذلك من أمورهم المجوس، هذا قول الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر.

قال أبو عبيد: العجم تؤخذ منهم الجزية على كل حال، قال أبو عبيد: الأمر عندنا في الصابئ على ما قال مجاهد، والحسن، والحكم، والأوزاعي، ومالك: أنهم كالمجوس.

قال أبو بكر: وكان مالك يرى أن أخذ الجزية من الفزازنة، وممن لا دين له من أجناس المشركين، والهند، وحكمهم حكم المجوس. وبه قال أصحاب الرأي.

وفي قول الشافعي، وأبي ثور لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من المجوس. انتهى

وانظر التمهيد لابن عبد البر (2/ 118).

قال المؤلف رحمه الله: (ويَحرُمُ قَتلُ النِّساءِ، والأطفالِ، والشُّيُوخِ؛ إلا لِضَرورةٍ)

قتل النساء فيحرم إذا لم يقاتلن، أما إذا قاتلن فيُقتلن.

ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فنهى عن قتل النساء والصبيان (2). وفي حديث آخر خارج الصحيحين قال:«ما كانت هذه لتقاتل» (3).

ما كانت هذه لتقاتل فيه إشارة إلى أن الذي يُقتَل هو الذي يقاتل، لا الذي لا يقاتل كالنساء والصبيان.

(1) أخرجه البخاري (3157)

(2)

أخرجه البخاري (3015)، ومسلم (1744)

(3)

أخرجه أحمد (15992)، وأبو داود (2669)

ص: 656

وأما الأطفال في نفس الحديث، نهى عن قتل النساء والصبيان. في حديث ابن عمر منفق عليه. وأما الشيوخ فأخرج أبو داود من حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صغيراً، ولا امرأة» (1) وهو ضعيف لا يصح.

قال ابن المنذر: ولا أعلم حجة قاطعة يجب بها الامتناع عن قتل الرهبان، والشيوخ، والمرضى، من ظاهر كتاب الله.

لأن هؤلاء إن لم يقاتلوا، ربما يكون لهم رأي، ولهم تدبير في أمر القتال.

لكن ظاهر الحديث الذي تقدم: «ما كانت هذه لتقاتل» أن الذي لا يقاتل لا يُقتل، من الشيوخ والرهبان وغيرهم يُلحقون بهذا، إلا إذا عُرف أن منهم من له تدبير، وله مكر بالمسلمين، عندئذ يُقتل والله أعلم.

قوله: إلا لضرورة؛ كالتبييت مثلاً، التبييت: الغارة على الكفار ليلاً وهم نائمون.

جاء في حديث الصعب ابن جَثَّامة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال النبي:«هم منهم» (2) متفق عليه، يعني لا يُقتل النساء والأطفال إلا في حال الضرورة، كهذه الحالة مثلاً، وكحالتنا اليوم مثلاً الحروب بالصواريخ، فيُطلِق الصاروخ، ربما يصيب النساء والأطفال، فهذا جائز.

قال المؤلف رحمه الله: (والمُثلَةُ، والإِحراقُ بالنَّارِ، والفِرارُ مِنَ الزَّحفِ إلَّا إلى فِئةٍ)

أي وتحرم أيضاً المثلة، المثلة: قطع الأعضاء، وتشويه الخلقة.

مثل أن يقطع أنفه أو أذنيه أو يفقأ عينيه وما شابه.

المثلة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث المتقدم في نفس حديث مسلم الذي ذكرناه سابقاً، قال:«قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا ولا تمثلوا» .

وجاء عند أبي داود أيضاً من حديث سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة» (3).

وأما الإحراق بالنار فجاء في حديث عند البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله رضي الله عنه في بعث، فقال:«إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الخُرُوجَ:«إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» (4).

ويحرم الفرار من الزحف، يعني من القتال، إلا إلى فِئَة، أي إلا إذا فر من أجل أن ينضم إلى جماعة، ويرجع معهم إلى القتال.

فيحرم الفرار من القتال، إلا إذا كان للرجوع إلى القتال؛ لقول الله تبارك تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا

(1) أخرجه أبو داود (2614) في سنده راو مجهول، انظر ضعيف أبي داود الأم (450) للألباني.

(2)

أخرجه البخاري (3012)، ومسلم (1745)

(3)

أخرجه أحمد (20136)، وأبو داود (2667)

(4)

أخرجه البخاري (3016)

ص: 657